تَحدِّي ما بَعد الباكالوريا
09-07-2015, 11:28 AM
لا يختلِف اثنان في أهمِّية شهادة الباكالوريا وقيمَتها عند الفَرد والمُجتمع، رَغمَ كُلِّ اللَّغَط الدّائر حوْل تَدنّي مُستوى هذه الشهادة ووَزنها في مَنح قيمة إضافية وحقيقية للفَرد تُمَكِّنه من تَبَوُّئِ مَكانةٍ مُشرِّفةٍ في مُجتمَعه، وتَبقى هذه الشَّهادة جِسراً للعُبور نحو الدراسات الجامعية الأكاديمية، أو للانتساب إلى بعض المدارس المدنية أو العسكرية ذات التّكوين المُتخصِّص، وهو ما يَمنح الفَرد فُرصاً أَوفَر لِضمان مُستَقبل مِهنيٍّ مُريح،إلّا أنَّ شهادة الباكالوريا قد تكون أقلَّ أهمِّيةً وشأناً ممّا بعدها، فكَيف يُمكِن للفَرد الذي فَشِل في الحُصول عليها أن لا يَكون ضحيةً لِفَشلِه؟ وكَيفَ يَربأُ الطّالب الناجح بِنَفسه أن يكون ضحيةً لِنجاحه؟

لَقد أَثبتَت التَّجربة أنَّ عددا غَير قليل من الناجحين لم يُحسِنوا استثمار نَجاحهم، فتَحوَّل بذلك النَّجاح إلى فَشل، وهذا هو التَّحدّي الحقيقي الذي يَنبغي أن يُعطى قَدره من الاهتمام والتفكير. إنَّ ثقافةَ (المَكتوب) المُشوَّهة في فَهمنا غيرُ قادرةٍ على احتواء صَدمات الفَشَل النَّفسية في إحراز شهادة الباكالوريا، ولَعلَّ مَصدرَ هذه الصَّدمات القَويةِ في كثيرٍ من الحالات، ليسَ هو الفَشلُ في حدِّ ذاته، بل هو تَضخيمنا لِشأنِ الشَّهادة إلى حدٍّ كادَ يَنتَفي مَعهُ احتمالُ الإخفاق، وهو احتمالٌ واردٌ بِقُوّة سَيرا على طبيعة الحياة، وإلى حدٍّ يَحجُب عنّا رُؤيةَ مَواهبَ أَبْنائنا، وطاقاتِهم الهائلة، وقُدراتهم الكامنة، والتي تَمنحهم بالتأكيد فُرصاً أكبَر في تَحقيق نجاحات مُعتبَرة في جوانب مُختلفةٍ من حياتهم، وإنَّ الأَولياء يَرتكبون خطأً كبيرا عندما يَقصُرون نجاح المُتمَدرِسين على نَيل الشهادة، دُون أن يَلفِتوا انتباه أبْناءهم إلى إمكاناتهم الفردية التي تَمنحهم خياراتٍ بَديلة، ومُحتَرمة، وفعّالة، كمراكِز التَّكوين المِهني التي أراها اليَومَ أكثر فاعليةً، وأَقربُ نَفعا من الجامعات التي تتخبّطُ في مشاكلَ لا حَصرَ لها، وهذه المَراكِز ليست مَلجأً للفاشلين مِثلما استقرَّ في وَعينا، بل هي مَراكِز لِصناعة النَّجاح أيضاً، وإنَّه يَستَحيلُ أن تَختَصِر شَهادةُ الباكالوريا النَّجاح كُلَّه، لأنَّ الحياة واسعةٌ وخَياراتها مُتعدِّدة، وما بَقِيَ تَفكيرُنا قاصراً، فإنَّ هذه الشَّهادة في حال الفَوز بها، قد تَحجُب الطالبَ نَفسهُ عن رُؤيةِ مَواهبه في مجالات أخرى، قد تَكون أجدى له من مُواصَلة دراساته العُليا، وما أكثر الأمثلة على هذا.

وفي مُقابِل ذلكَ فإنَّ الناجح يُواجِهُ تحدِّياً آخر، وإِخفاقُه في هذه المُواجَهة قد يُهدِر سنواتٍ من عُمره دون بُلوغِ غايةٍ مُعيَّنة، فَيَصير بالضَّبط، كالمُنبَتِّ لا أرضاً قَطَع ولا ظَهراً أبقى. وهذا التَّحدّي يَتَعلَّق أوّلا بالاستِعداد النَّفسي للتعليم الجامعي، وثانيا وهو الأهمّ، باختيار التَّخصُّص المُناسب في الجامعة. أمّا الاستعدادُ النَّفسي، فقد رأينا عددا من الطَّلبة أُصيبوا بصدماتٍ نفسيةً مَصدرُها شُعورُهم بالفَرقِ الهائل بين ما كانوا يَتوقَّعونه من الجامعة وما وَجدوه فعلاً، ولعلَّ أكثرَ المُتضرِّرين من هذه المَسألة الطَّلبةُ المُتميِّزون الذين يبحثون عن عنايةٍ تليقُ بهم وتَدفعهم نَحو مزيدٍ من التَّميُّز، وهو ما لا تَلتفِت إليه جامعاتنا مع الأَسف، فَيَضيع الطالب وتَضيع معهُ أشياءُ كثيرةٌ. إنَّ سوء إدراك هؤلاء الطلبة لواقِع الجامعة، مُشكِلةٌ لا يُلتَفَتُ إليها، لا في مرحلةِ التعليم الثانوي، ولا في الأُسرة، و لا في مرحلة التَّسجيلات الجامعية، بل قد يَحصُل العكسُ أحياناً، فيتمُّ تحسين صورة الجامعة إلى حدٍّ خادِع مُضلِّل، فنحن لا زِلنا نَهرُب إلى الأمام ونرفُض مُواجهة الحقائق كما هي، وليست لنا الشَّجاعةُ لإدانةَ أنفسِنا، والنتيجة أنًّنا شهدنا طَلبةً طلَّقوا سبيل العِلم وطًلَبَه، وفَقدوا احترامهم للجامعة، والحَلُّ الأمثَل هو وَضع الطَّلبة الجُدُد أمام الواقع الحقيقي للجامعة، وليس هذا انتقاصا أو تشويها لها، فواقعُها بإيجابياته وسِلبياته لا يَخفى على أحد، فَلماذا نُخفيه على المُقبِلين الجُدُد عليها حتى يَفجأَهم؟.

وأمَّا اختيار التًّخصُّص الجامعي المناسب، فإنَّ الطالب الجديد لا يملكُ في الغالبِ مَعايير واضحةً للتَّوجيه، وهو ما يُصعِّب عليه عملية الاختيار حتّى تُصبِح عمليةً عشوائيةً في بَعضِ الأَحيان، وإنِّي أتساءل لماذا لا يُعطى التًّوجيهُ حقًّه من الاهتمام في الأُسرة والمَدرسة، وأقصد هنا التَّوجيه الفَعّال والحقيقي لا الشَّكلي.
لعلَّ المِعيار الأقوى عند هؤلاء الطَّلبة، هو إمكانية الحصول على عمل أو وظيفةٍ، وهو معيار مَنطقي، إلّا أنَّ الفوضى والمُحاباة التي يعرفها سوق الشُّغل عندنا، يَجعل هذا المِعيار نَفسه عشوائيا غير مَضمون النتائج، وما أكثر التَّخصًّصات العِلمية التي أَسلمَت أصحابَها للبطالةِ سنواتٍ عكسَ ما ينبغي أن يكون في الدّوُل التي تَحترِم نفسها، فاللُّجوء إلى هذا المِعيار كَمُرجِّحٍ لدى الاختيار هو مُجازَفةٌ حقيقيةٌ، لا سيما أنَّنا نفتقِد لدراساتٍ استشرافيةٍ جادَّة لسوق العمل، ومدى حاجته إلى تَخصًّصاتٍ مُعيَّنة، وإن وُجِدت هذه الدراسات فهي تَقوم غالبا على الأرقام التي تُقدِّمها الدَّولةُ، وهذه الأرقام غالبا ما تَكون بَعيدةً عن الواقع، وهكذا تَضيع على الطالب فُرصة إيجاد العمَل الذي كان يَحلُم به، وكذلك فُرصة دراسته للتَّخصص الذي كان يرغب فيه فعلا. قد يكون المَيلُ والرغبة في دراسةِ تَخصُّصٍ ما أجدى و أنْفع، لأنّ هذا يجعل الطالب أكثَر إبداعاً فيه و إقبالاً عليه، ما يُتيح له إمكانيةً أكبر للنجاح فيه، والمُضيِّ إلى أبعد ما يُمكِن، فَيَضمَن لنفسه مُستوى عِلميّا مقبولا على الأقلّ، فلا يَخسرُ الأمرَين معا، والبطالةُ عندنا صارَت بَرزَخاً لا يكادُ يَنجو منه أحد، كأنَّها امتدادٌ إجباري للتعليم الجامعي، فلا أقلّ من أن يَتَّجه الطالب إلى التَّخصُّص الذي يَرغب فيه، ويَملك فيه إمكانات جَيِّدة للنجاح، وبما أنّ مسألة اختيار التخصص لا يتحكم فيها الطالب وَحده، بل ثمّة عواملُ أخرى تتدخَّلُ فيها وهو ما يزيد المَسألة سوءًا، فإنَّه ينبغي للطالب أن يُصحِّحَ اتِّجاهَه متى ما رأى ذلك ضروريا وبأسرع ما يُمكِن، حتى لا يَضيع منه مزيدٌ من الوَقت، وحتى لا تَذهَبَ سنواتُه في الجامِعةِ هَدراً.

إنَّ الباكالوريا هي بدايةُ مَرحلةٍ جديدةٍ في حياة صاحبها، وتَستَحقُّ هذه المَرحلةُ تَخطيطاً مُحتَرما، واهتماماً لائقاً من الطَّلبةِ وَأُسَرهم، وقد يُجنِّبُنا قليلٌ من التَّفكير المَنهجي والمُنظَّم، والمُستقلّ عن إملاءات الواقع، الوُقوعَ في حبائل الفوضى والعشوائية في تَحديد اختياراتنا، وقد يَمنحُنا أيضاً قُدرةً كبيرةً على رُؤية إمكاناتنا وخياراتنا المُتاحة، ولَعلَّ هذا أن يُتيح لنا إمكانية استثمار النجاح واستثمار الإخفاق أيضا.
عبد العزيز حامدي