أمريكا في العقل العربي
04-07-2015, 12:38 PM
أمريكا في العقل العربي

لقد مضت سنوات عديدة و طويلة ظل الاهتمام العربى منصبّاً على تقصى الأسباب والأشكال التى تظهر بها صورة العربى فى الخيال الأمريكى. وخرجت دراسات وأبحاث عديدة تحاول تفسير ما ينال هذه الصورة من تشويه وافتراء، تنعكس بصفة خاصة فى الأدب والسينما ووسائل الإعلام بطريقة مثيرة. وتؤثر على وضع العرب والمسلمين فى البيئة الأمريكية من خلال تعاملها معهم واحتكاكها بهم.. وبالأخص فى أوقات الأزمات الحادة التى يتم فيها تعبئة الإعلام الأمريكى لحساب قوى الضغط المهيمنة فى المجتمع الأمريكى. وكانت لتقلبات السياسة الخارجية الأمريكية فى الشرق الأوسط دائماً تأثيرات عميقة على تشكيل صورة العربى والمسلم فى الوعى الأمريكى، سواء حين يراد تحسينها أو تقبيحها، وكان تقبيحها هو الغالب فى معظم الأحيان.

ولعل الشعوب العربية قد شعرت بعد أحداث سبتمبر، بضراوة الحملة الأمريكية المتعمدة على صورة العربى أو المسلم. ليس فقط كما يعيش ويتحرك فى إطار الثقافة الأمريكية، بل بصفة عامة فى الرؤية الغربية للحضارة الإنسانية المعاصرة.. فاختارت أن تبحث عن أوجه الخلاف والتضاد بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، وأن تفسر ما وقع من هجمات إرهابية فى أمريكا على أنها نتاج إخفاق العرب والمسلمين فى اللحاق أو الالتحاق بالحضارة الغربية.. لا لسبب إلا لأن التركيبة التى تشكل هوية العربى المسلم، محكوم عليها ـ من وجهة نظرهم ـ بالتخلف والقصور والعجز، الذى سرعان ما يتحول إلى موقف عدائى ساخط من الغرب وإنجازاته وتفوقه.

ولم يكن من السهل رغم التخاذل الشديد الذى استقبلت به الحكومات العربية. حملات الافتراء والتشويه الغربية والأمريكية بصفة خاصة، أن تستكين جميع الأصوات والتيارات الرافضة فى العالمين العربى والإسلامى. وكانت المفاجأة التى أفزعت الأمريكيين أنفسهم هى فى السجال العنيف أحياناً الذى دار بين وسائل الإعلام الأمريكية ووسائل إعلام عربية، فى محاولة لصد الحملات الأمريكية المغرضة، كشفت عن مشاعر عميقة من السخط وانعدام الثقة فى "الصديق" الأمريكى، وأظهرت أن للأمريكى صورة أخرى فى الوعى العربى شديدة القبح يصعب تجاهلها!

لا تحتاج صورة العربى فى العقل الأمريكى إذن إلى الوقوف أمامها طويلاً.. العرب يعرفونها والأمريكيون والأوروبيون لا ينكرونها، بل يؤكدون عليها ولا يكفون عن إضافة الرتوش والملامح التى تبرزها وتثبتها فى الذهنية الغربية. ولكن أحداث 11 سبتمبر فتحت ـ بعد الصدمة الأولى ـ الباب أمام مناقشات حادة حول الأسباب التى أدت إلى سخط العرب والمسلمين على الولايات المتحدة الأمريكية وإلى تحول النظرة العربية إلى أمريكا فى الاتجاه المعاكس، الأمر الذى أدى إلى ضعف التأييد والمساندة لأمريكا فيما تسميه حملتها ضد الإرهاب فى معظم أرجاء العالم العربى.

ويعرف الأمريكيون عن يقين أن مصداقية أمريكا تكاد تكون قد طُعِنت فى الصميم. وزاد منها إصرار الحكومة الأمريكية والإعلام الأمريكى على تجاهل الأسباب الحقيقية لموجة العداء والكراهية التى ظهرت ضد أمريكا فى العواصم العربية والإسلامية، فالأمريكيون ليسوا على هذا القدر من السذاجة. وهم يواجهون فى واقع الأمر تاريخاً طويلاً من الشكوك وانعدام الثقة، جعلت صورة الأمريكى فى الخيال العربى صورة مركبة الملامــح تخفى وراء القســمات الناعمة قدراً من الخداع والقسوة، ما دام الأمر يتعلق بالحصول على منفعة ما. فكل شيء مباح ما دام يحقق فائدة أو مكسباً مضموناً. ومفهوم الصداقة بالنسبة للأمريكيين مفهوم عابر، يفقد مصداقيته واستحقاقاته بمجرد زوال الأسباب الداعية له.

ولم يكن غريباً أن يطلق تعبير"أمريكي" فى المصطلح العربى الدارج على كل سلوك زائف يعتمد على المظهر دون الجوهر، وعلى الغلو فى الإبهار الذى يعمى عن الحقيقة، سواء فى الحياة اليومية أو فى السياسة أو فى فنون السينما والمسرح. وهو ما جعل فنون الاستعراض تصل إلى ذروتها فى أمريكا من حيث الأداء والتأثير.. لتنتقل بعد ذلك إلى عالم السياسة الداخلية والخارجية.. حيث تصبح الانتخابات الرياسية مسرحاً عالمياً كبيراً تمارس فيه تقنيات الإبهار والتأثير اللحظى ودغــدغة الحـواس، بهدف تحقيق انتصار كاسح على الخصم. مع توظيف عوامل الخداع البصرى، والتفوق الشــديد فى وسائل الإعلام وجمع المعلومـات وتشكيلها وتوجيهها، بما يضمن ترويج الأفكار والآراء والمعتقدات التى تخدم الأشخاص وليس القضايا.

هذه الصورة التى تشكلت "للأمريكي" فى العقل العربى، لم تتكون دفعة واحدة. بل تطورت وتفاعلت على امتداد نصف القرن الأخير من القرن العشرين. فلم تكن علاقة الولايات المتحدة بالعالم العربى حتى بداية الحرب العالمية الثانية واضحة المعالم أو وثيقة الروابط. وقد ظلت أمريكا فى الخيال العربى حتى الخمسينيات هى أرض الفرص للمهاجرين العرب حيث "ينمو الذهب على أغصان الشجر". ومن الناحية السياسية كان تبنى الرئيس ويلسون فى عام 1919 لحق الشعوب المقهورة فى تقرير مصيرها، من الأمور التى جعلت العرب ينظرون إليها كنصيرة لنظام عالمى جديد يقوم على الحرية وحق الشعوب فى الاستقلال. وروَّجت أمريكا لهذه المبادئ بقوة حين انضمت إلى الحلفاء ضد المحور فى الحرب العالمية الثانية. وحين وضعت الحرب أوزارها بهزيمة المحور، كانت الآمال الكبيرة التى تجيش بصدور حركات الاستقلال العربية لوضع نهاية للاحتلال البريطانى، تتعلق بقوة على دور لأمريكا فى مساعدة الشعوب المقهورة.
ولكن التفاعلات التاريخية التى تلت هذه الحقبة، شهدت سلسلة متوالية من خيبات الأمل، ونقض الوعود، والمؤامرات التى لعبت فيها أطراف دولية كثيرة أدواراً من الخديعة والنفاق وازدواجية المعايير. وكان أول شرخ كبير أصاب صورة أمريكا فى الوجدان العربى كنصيرة للحريات وحق الشعوب فى الاستقلال حين أعلن الرئيس ترومان اعتراف بلاده بإسرائيل فى مايو 48 بعد 11 دقيقة من إعلان بن جوريون لتأسيسها. وسقطت بذلك قيم كثيرة، ظل العرب يعلقونها على السياسة الأمريكية. ومنذ هذه اللحظة دخلت العلاقات العربية الأمريكية نفقاً مظلماً من التراجع والارتباك وسوء الفهم، التى تداخلت فيها عوامل الإعجاب والبغض، والتقارب والتباعد، والصلح والخصام، والثقة والارتياب. حتى كانت حرب 67 التى انحازت فيها حكومة جونسون بالكامل وصراحة مع إسرائيل. وتخلَّت أمريكا نهائياً عن مرحلة الاعتدال والتوازن التى ميزت عهد أيزنهاور، والتى حاول خلالها إثبات تمســك بلاده بمُثُل عليـا لنظام أخلاقى دولى لا يولى اعتباراً للسياســات الحزبيــة أو لجماعــات الضغــط. ولم تتوقف السياسـات الأمريكيــة بعدها عن الانحدار إلى حضيض الإذعان الصريح للنفوذ الإسرائيلى، الذى بدا وكأنه قد نجح فى "اختطاف" الحكومة الأمريكية وإخضاعها لمصالح إسرائيل نهائياً.

تظل الصورة الأمريكية فى العقل العربى، متعددة الأقنعة، ملتبسة الملامح، غامضة الوجوه. يصعب الركون إليها والوثوق بها. فهى فى أفضل حالاتها تعبِّر عن فطرة سليمة، تحترم القيم الإنسانية، وتدافع عن حق الفرد فى الحرية والمساواة، وتتميز بالدفء والرغبة فى التفوق والنجاح. وهى فى أسوأ حالاتها تبدو شديدة الأنانية، مجبولة على المنفعة والانتهازية، قادرة على تطويع كل شيء لخدمة أهدافها، مغترة بقوتها، تضع يدها على الزناد وهى تتكلم.

وما بين الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان، وبين الدعوة إلى مكافحة الإرهاب، غلفت السياسة الأمريكية أهدافها، وغيرت أقنعتها، وبدَّلت مبادئها الأخلاقية. وكان هذا التناقض فى توظيف المبادئ سبباً فى تضارب السياسات واختلافها من مرحلة إلى أخرى بحسب ما تمليه المصالح. وهو ما يفسر كثيراً من مظاهر الصعود والهبوط واضطراب المعايير فى العلاقات الأمريكية العربية.

ولكن بينما يسعى العرب والمسلمون إلى استكشاف ملامح الصورة العربية فى العقل الأمريكى، والعمل على تصحيحها وتحسينها وتبديد ما يلحق بها من سوء فهم أو سوء نظر، "استجداءً" لعلاقات أمريكية عربية متوازنة، بحكم ما يستشعره العرب من حاجة لما يسمى "الصديق" الأمريكى.. فإن الأمريكيين لا يعبأون كثيراً بالتعرف على صورة الأمريكى فى العقل العربى، ومن ثم فهم لا يجهدون أنفسهم بالتعمق فى استجلاء أسباب الكراهية والعداء التى انفجرت فى وجه أمريكا أخيراً.. وحين أقلقتهم هذه الظاهرة، فلم يكن الهدف من محاولات تحسين صورة أمريكا أمام العرب والمسلمين هو تلافى الأسباب، بقدر ما كان تحقيق أهداف نفعية عاجلة تمثلت فيما أطلق عليه تشكيل" التحالف ضد الإرهاب". ومن ثم لم تجد تصريحات بوش من يصدقها عندما تحدَّث عن عدم العداء للإسلام، ولا عندما التقى بالأطفال المسلمين فى المركز الإسلامى فى واشنطن، ولا فى تصريحات المسئولين أمام شبكات التليفزيون العربية.. فقد اعتبرها العرب والمسلمون مجرد لعبة "أمريكية"!!
ليس للكاتب منصب وراتب بل قلم ومنبر

مع تحياتي وإلتزامي فارس معمر