•• ما مـعـنـى مـقـولـة « المُـعـاصَـرة حِـجَـاب » ؟
02-06-2017, 03:45 AM

« المُعَـاصَـرَةُ حِـجَـابٌ »
ــ بقـلم الشيخ : عَـلي جُـمعـة ــ


مما مَـنّ الله به عـلى المسلمين أن أبدعـوا‏(‏ عـلم التوثيق‏)‏ ، عـلى غـير مثال سابق‏ ، فلم يأخذوه من أمة خلت‏ ، ولم يقلدوا أحدا من الناس فكان من العـلوم التي وضعـوها ، وكملت غـاية الكمال‏ ، وعـلم التوثيق مثله في ذلك مثل‏(‏ عـلم الفهم‏)‏ أو ما يسمى(‏ بأصول الفقه‏) ، فإنه عـلم بديع نشأ من حضارة المسلمين‏ ، وهـذان العِـلمان يحتاجهما العـالِم الذي يتمسك بالمنهج العـلمي ، فيوثق مصادره ، ويتأكد من معـلوماته حتى لا يقع في عـقلية الخرافة ، ولا في حـد الانطباع التي لا ضابط لها ولا رابط‏ .

1 ــ ومن عـلـوم التوثيق عـنـد المسلمين‏(‏ عـلم القـراءات القرآنية‏) و (‏ عـلم رواية الحديث‏)‏ ، الذي تولد عـنه‏(‏ عـلم الجَـرح والتعـديل‏)‏ ، والذي يهتم بالبحث في أحوال الرواة ، ومدى ضبطهم ، ومدى اتفاقهم مع الأصول المروية ، ومدى اختلافهم في ذلك ، ‏ وتولد منه قواعـد كثيرة ، من ألطفها وأرقها هـذه القاعـدة الفريدة ، التي تدل عـلى عُـمق في الفهم ، ورقة في الشعـور واعـتذار للآخرين ، وعـدم التسرع في إصدار الأحكام العـشوائية ، والعـدل حتى مع المخالف ، وإن شئت فقل خاصة مع المخالف ، كما قال تعـالى‏:(‏ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم عـلى ألاّ تعـدلوا اِعـدلوا هو أقـرب للتقوي‏)[‏ المائدة‏:8]‏ وهـي قاعـدة‏ (‏ المُعَـاصَـرَة حِـجَـاب‏ٌ).‏

‏ ‏ 2 ــ ومعـنى هـذه القاعـدة أن المعـاصرة بين اثنين لا تتيح لكل منهما أن يعـرف الآخر كما ينبغي‏ ؛ وذلك لأن الصورة الذهنية التي تتكون عـند كل واحد منهما عـن الآخر تكون ناقصة‏ ، فقد يكمل الشخص كلامه الذي حمل عـلى غـير مراده‏ ، وقد يُـغـير رأيه الذي ذهـب إليه ، بل قد يغـير مشربه أو مذهبه بالكلية‏ ، وقد يتحول المرء من محب إلي كاره ، ومن كاره إلي محب ، وهذا مصداقا لقوله تعالى :(‏ واعـلموا أن الله يَحُول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون‏),‏ الأنفال‏:24] ، ‏ ولقوله صلى الله عـليه وسلم‏ :(‏ القلوب بين أصبعـين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء‏)[‏ أحمد والترمذي‏] .‏

وعـلى ذلك ، فإن الاختلاف الناشئ بين اثنين من قِـبل الرأي ، هـو اختلاف نسبي قد يتغـير ، والموقف الذي حمل الشخص عـلى القـدح في زميله قابل للتبدل والانتهاء‏ .‏

وهذه قاعـدة قـررها جمهـور السلف ، رضوان الله عـليهم ، يقول ابن عـباس رضي الله عـنه‏:(‏ خُـذوا العـلم حيث وجدتم ، ولا تقبلوا قول الفقهاء ، بعـضهم عـلى بعـض فإنهم يَتغـايرون تَـغـايُـر التـيُـوس في الزريبة‏[‏ فيض القدير‏164/4]‏

وقال مالك بن دينار‏(‏ رحمه الله‏):(‏ يُـؤخذ بقول العـلماء والقُـراء في كل شيء إلا قول بعـضهم في بعـض ، فإنهم أشد تحاسدا من التيوس‏).‏

وقال الإمام الذهـبي‏(‏ رحمه الله‏):‏ كلام الأقـران لا يُـعـبأ به‏,‏ لا سيما إذا لاح لك أنه لعـداوة أو لمذهب أو لحسد‏.‏ وما ينجو منه إلا مَـن عَـصَـمه الله‏.‏ وما عـلمتُ أن عَـصرا من الأعـصار سَـلِـم أهـلُه من ذلك ، سوى الأنبياء والصديقين‏ ، ولو شئتُ لسردتُ من ذلك كراريس‏.‏

3 ــ ومن هـذه القاعـدة ، تولدت قاعـدة أخرى ، تقيدها وتنظمها وتفسرها ، وهي‏[‏ لا يُـقبَـل كلام الأقـران ، بعـضهم في بعـض‏]‏ وهذا معـنى ( المعاصرة حجاب ) ، فهـي لا تنفي قبول الجرح والتعـديل من أهله ، بل تتكلم عَـمّا إذا تكلم أحدهم في أخيه وقرينه ، مخالفا لباقي الناس الذين مدحوا وعـدلوا وأقروا بفضل هـذا الإنسان‏ ، فإذا جاء عـظيم من الفضلاء ، وقَـدح هـذا المزكي المعـدل ، فإنه لا يُـقبَـل منه ذلك ، حيث لا يقبل جَـرح القـرين بقرينه بهذه الصفة‏ ، وعَـللوا ذلك وبينوا سببه بأن المعـاصرة حجاب‏.‏

4 ــ إذن يمكن قبول جماعـة كثيرة من أهـل الاختصاص ، تُجـرّح إنسانا وترفضه ، ولكن المعـاصرة حجاب بين الأقـران ، وليس مطلق العـصر يخفي حقائق الأشياء والأشخاص‏ ، بل العـصر حجاب بين القرين وأخيه ، من نفس مستواه ، يحجب عـنه عـدله ويؤوّل له الأمر حتى يقدحه ، مبررا ذلك لنفسه أولا ، بأن فيه هذه الأخطاء التي يجب إنكارها‏.‏

5 ــ ‏ ولقد حدث في التاريخ الإسلامي تنابذ بين كبار عـلماء الإسلام‏:(‏ أبو نعـيم الأصبهاني‏ (‏ توفي‏436‏ هـ‏)‏ وابن مندة‏(‏ توفي‏511‏ هـ‏)‏ ، حتى قال الحافظ الذهبي عـما دار بينهما‏:(‏ وكلام ابن مندة في أبي نعـيم فـظيع‏,‏ لا أحب حكايته‏,‏ ولا أقبل قول كـل منهمـا في الآخـر‏...‏ كلام الأقـران بعـضهم في بعـض لا يُـعْـبَأ به‏ ، لا سيما إذا لاح لك أنه لعـداوة أو لمذهب أو لحسد‏)[‏ ميزان الاعـتدال‏],(‏ والمُغـيرة والسبعـي‏(‏ توفي‏ 129 هـ ) ‏ والأعـمش‏ (‏ توفي‏148 ‏ هـ‏)‏ فقد روي جرير عـن مُغـيرة أنه قال‏:(‏ ما أفسد حديث أهل الكوفة غـير أبي إسحاق والأعـمش‏).‏ قال الذهـبي‏:(‏ لا يُسـمع قول الأقران بعـضـهم في بعـض‏)[‏ سير أعـلام النبلاء‏] ، ‏ وأحمد‏ (‏توفي‏241‏ هـ‏)‏ ، وهشام بن عـمار‏(‏ توفي‏245‏ هـ‏)‏ ، فقد قال أبو بكر المروزي‏:(‏ ذكـر أحمد بن حنبل هشام بن عـمار فقال‏:‏ طـياش خفيف‏).‏

ومن ذلك ما كان بين‏(‏ الفلاس توفي‏114‏ هـ‏)‏ والسمين توفي‏235‏ هـ‏)‏ ، حيث ذكـر أبو حفص الفلاس‏ ، محمـد بن حاتم البغـدادي السمين ــ من رجال مسلم وأبي داود ــ فقال‏:(‏ ليس بشيء‏).‏ فتعـقبه الذهبي قائلا‏:(‏ هذا من كلام الأقـران‏,‏ الذي لا يُـسمَع‏) .‏ ومنه ما كان بين‏(‏ بين عـبد المغـيث بن زهـير‏(‏ توفي‏583‏هـ‏)‏ ، وابن أبي الفـرج الجوزي‏597‏هـ‏)‏ ، وقد وقعـت العـداوة والفتـنة الشـديدة بينهما‏ ، ‏ وكلاهما حافظان فقيهان حنبليان‏ ...‏ كان سببها اللعـن عـلى يزيد بن معـاوية‏, ، كان عـبـد المغـيث يمنع من لعـنه‏ ، وكتب في ذلك كتابا وأسمعـه للناس‏ ، فكتب ابن الجوزي في الرد عـليه كتابا سماه : ( الرد عـلى المتعـصب العـنيد المانع من ذم يزيد‏ )...‏ ثم تلا ذلك مسائل أخرى ، ‏ ‏ وقد مات عـبـد المغيث وهـما متهاجران‏ .‏ ومنه ما كان بين‏(‏ مطين توفي‏297‏ هـ وابن أبي شيبة توفي‏235‏ هـ‏)‏ ، فقد ذكر الحافظ ابن حجر ، بترجمة محمـد بن عـبـدالله بن سليمان الحضـرمي ، الملقب بـ‏:(‏ مطين‏)‏ حط الحافظ محمـد بن عـثمان بن أبي شيبة عـليه‏,‏ وحط مطين عـلى ابن أبي شيبة‏ ، وأن أمرهما آل إلى القطيعـة‏ .‏ فقال ابن حجر‏:(‏ ولا نَعـتد ــ بحمد الله ــ بكثير من كلام الأقران ـ بعـضهم في بعـض‏)[‏ لسان الميزان‏].‏

قال الذهـبي‏:(‏ كلام الأقران ، بعـضهم في بعـض يحتمل‏ ـ وطَـيّه أولى من بثه‏)‏ ، وعـقد له ابن عـبدالبر في جامع بيان العـلم بابا خاصا ، استوفى الكلام فيه عـلى ذلك‏ ؛ ولذلك لم يلتفت أهل الجَـرح إلى مَن تكلم فيه بسبب المعَـاصرة ــ كما يُعـلم ذلك من كُتب الرجال ــ ولو عـملوا بمقتضاه لما بقي في يدهم رَاوٍ واحد يُحتج به .

6 ــ ‏ فالمعـاصرة تجعـلنا أكثر تأنيا في قبول الآراء ، وفي نفس الوقت ، تجعـلنا أكثر مقاومة لأنفسنا في اتهام الأقـران والآخرين‏ (‏ إن الله يأمر بالعـدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهـى عـن الفحشاء والمنكـر والبغـي يعـظكم لعـلكم تذكرون‏)[‏ النحل‏:90 ]‏ .





* * * * * * *
« رَبِّ اغْـفِـرْ لِي وَلأَِخِي وَأَدْخِلْـنَا فِي رَحْمَتِـكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ »

التعديل الأخير تم بواسطة ** رشاد كريم ** ; 02-06-2017 الساعة 08:30 PM