منهم العلماء حقا؟؟؟
30-12-2007, 07:21 PM
بسم الله الرحمان الرحيم
الموقف من العلماء، ومن هم العلماء؟

قال الشيخ محمد بن رمزان -حفظه الله-: وأما عن الكاشف السابع: الموقف من العلماء، ومَنٍْ هم العلماء؟
فيقول البعض: التفوا حول العلماء، اسمعوا لأهل العلم، اجلسوا مع أهل العلم؛وآخريطعن في أهل العلم، يقول: لايفهم الواقع، وآخر يقول: أثبتت الأحداث أن ليس للأمة مرجعية،وآخر يقول: العلماء في بروج عاجية،وآخر يقول: العلماء ليسوا على استقلال في أقوالهم وأفعالهم، ولا حتى الهيئات الشرعية القائمة في البلاد الإسلامية ليست مستقلة أي ليست مستندة للدليل،بل تبحث عن رضى الحاكم لأنهم موظفون، كل هذه الطعون، ثم يأتي من يقول: اسمعوا لأهل العلم، من هم أهل العلم الذين يُسمَع لهم؟ هل هم من لبس لباسًا معينًا، أو له شكل معين؟لا، أهل العلم هم الذين تفقهوا فيكتاب الله وسنة رسول الله دبفهم السلف الصالح يدعون إلى التوحيد بأنواعه ويحذرون من الشرك بأنواعه يدعون إلى السنة ويحذرون من البدعة([1]) وشهد لَهم العلماء أنَّهم أهل العلم، فهم يتبعون الهدى لا الهوى، ويحرصون على الاجتماع لا التفرق، والتبصير، لا التعمية والتضليل، والدلالة والإرشاد، لا الغواية والإضلال.فصدق على هذا الزمان ما أخرجه أبو خيثمة زهير بن حرب في كتاب عن عبد الله، قال: إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، وإن بعدكم زمانًا كثير خطباؤه، والعلماء فيه قليل([2]).
والمحزن المبكي أن العامة وحدثاء الأسنان قد رفعوا هؤلاء الخطباء إلى مرتبة العلماء، حتى إذا أظهر هؤلاء الخطباء البدع والفتن([3])، وبدأ العلماء حقًّا يحذرون منهم، بات الناس يظنون أن الخلاف بين هؤلاء الخطباء والعلماء، هو خلاف بين علماء وعلماء([4])، ثم ينزلون عليه - بلا فهم - فقه السلف في التعامل مع مثل هذا الخلاف الذي يحدث بين العلماء، ويا ليتهم أحسنوا فهم فقه الخلاف، فتجدهم يحتجون عليك بقول ابن مسعود: الخلاف شر يعني اسكت ولا تنكر عليهم مخالفاتهم وبدعهم.
ولكن مكمن المشكلةأ ننافي زمان قد نبتتفيه نوابت يتلونون بألوان ويرزون بأشكال([5])، يأتون فيقولون: يَجب السمع والطاعة للولاة، أي يريدون أن يجعلوا أنفسهم على هدي السلف في شأن الولاة([6]ثم إذ بِهم يوجهون الطعنات السابقة في العلماء،لكن نقول: لكم كواشف أخرى تبين حقيقة أمركم. ا
أقول: صدق الشيخ - أحسن الله إليه - فإن الموقف من العلماء، وتحديد من هم العلماء؟ لَهو كاشف جلي لأصحاب الدعوات الحزبية، وإن ادعوا السمع والطاعة للولاة تقية وتدليسًا، والله فاضحهم.
أولاً: من هم العلماء؟
قال بدر الدين بن جماعة في تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم (ص13): واعلم أن جميع ما ذكر من فضيلة العلم والعلماء إنَّما هو في حق العلماء العاملين الأبرار المتقين الذين قصدوا به وجه الله الكريم، والزلفى لديه في جنات النعيم، لا من طلبه بسوء نية أو خبث طوية أو لأغراض دنيوية من جاه أو مال أو مكاثرة في الأتباع والطلاب ا
قلت: ما ذكره ابن جماعة يلخص أهم صفات تميز العلماء الربانيين ألا وهي: تقوى الله، وقصد وجهه، والعمل بِهذا العلم.
وقال ابن رجب في فضل علم السلف على الخلف (ص52): وعلامة هذا العلم الذي لا ينفع أن يكسب صاحبه الزهو والفخر والخيلاء وطلب العلو والرفعة في الدنيا والمنافسة فيها وطلب مباهاة العلماء ومماراة السفهاء وصرف وجوه الناس إليه... وربما ادعى بعض أصحاب هذه العلوم معرفة الله وطلبه والإعراض عما سواه، وليس غرضهم بذلك إلا طلب التقدم في قلوب الناس من الملوك وغيرهم، وإحسان ظنهم بِهم وكثرة أتباعهم والتعاظم بذلك على الناس، وعلامة ذلك إظهار دعوى الولاية كما كان يدعيه أهل الكتاب وكما ادعاه القرامطة والباطنية ونحوهم، وهذا بخلاف ما كان عليه السلف من احتقار نفوسهم وازدرائها باطنًا وظاهرًا# ا.
قلت: وهذا وصف دقيق من ابن رجب / لحال أشباه العلماء من رؤوس الحزبين في هذا الزمان، والمتتبع لأحوالهم يرى صدق انطباق هذه الأوصاف عليهم.
فلا تغتر - رحمك الله - من كثرة أتباع الحزبيين من دعاة التهيج والفتن، واجعل هذا علامة كاشفة لك، فإذا رأيت الإعلان عن درس لذلك الداعية، وقد عُلِّقِت اللافتات في كل مكان، ووُزعت المنشورات قبل درسه بأيام لحشد الناس حشدًا، وقيل للناس: هل أنتم مجتمعون، وأخذت الألسنة تتراشق بإسقاط عبارات الهيبة والتعظيم على ذاك الداعية، والثناء عليه بشدة حماسته وعدم خوفه من بطش الولاة، ثم إذا حضرت هذا الدرس وجدته مليئًا بالعبارات الثورية والجمل العاطفية، والترنيمات الحماسية والإحصاءات العالمية، فاعلم أن هذا الداعية ليس من العلماء الربانيين الذين أُمرنا بسؤالهم، والتعلم على أيديهم، والجلوس تحت ركبهم.
ولقد فشت في هذه الأحقاب الأخيرة فتنة الدعاة الخطباء الذين لم ينالوا من العلم حظًّا وافرًا، وبعضهم يعترف بِهذا: أي أنه ليس من العلماء، إنَّما يقول: أنا مهمتي فقط الوعظ والتذكير وإرشاد الناس إلى العلماء، لذا كان من المفترض أن يصير هذا الخطيب -على حد دعواه- تابعًا للعلماء الربانين ينال منهم التوجيه ولا يخرج عن طاعتهم في المعروف، إعمالاً لقوله تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ_[النساء: 59]. وأولو الأمر هم: العلماء، والأمراء - على أرجح التفاسير -، لكن إذ به يخرج عن طاعة العلماء، والأمراء، ويقدم البيعة بلسان الحال -وأحيانًا بلسان المقال-، إلى منظري أهل التحزب والهوى، وبدلاً من أن يكون تابعًا إذ به يغتر بالأماني وبكثرة الأتباع من سفهاء الأحلام، فيرى نفسه متبوعًا مسموعًا لكلمته، فيتحول إلى سيف طاعن في صدور العلماء، ويصير رافدًا في نهر الأهواء، ملبسًا على الناس أمر دينهم.
فصدق على هذا الزمان ما أخرجه أبو خيثمة زهير بن حرب في كتاب العلم# قال: ثنا جرير، عن عبد الله بن يزيد الأصبهاني، عن كميل بن زياد، عن عبد الله، قال: إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، وإن بعدكم زمانًا كثير خطباؤه، والعلماء فيه قليل#([7]).
والمحزن المبكي أن العامة وحدثاء الأسنان قد رفعوا هؤلاء الخطباء إلى مرتبة العلماء، حتى إذا أظهر هؤلاء الخطباء البدع والفتن، وبدأ العلماء -حقًّا- يُحذرون منهم، بات الناس يظنون أن الخلاف بين هؤلاء الخطباء والعلماء، هو خلاف بين علماء وعلماء([8])، ثم ينزلون عليه -بلا فهم- فقه السلف في التعامل مع مثل هذا الخلاف الذي يحدث بين العلماء، ويا ليتهم أحسنوا فهم فقه الخلاف، فتجدهم يحتجون عليك بقول ابن مسعود: $الخلاف شر#.
وهنا ينقسمون إلى فريقين:
فريق: غلبت عليه الضلالة والعاطفة مثلما حدث للخوارج، فاعتبروا الخطباء هم العلماء الصادقين العاملين لنصرة الإسلام، ومن ثَمَّ بدأ يطعن بفجور في العلماء -حقًّا-.
وفريق: ركب موجة التمييع والملاينة والمداهنة فأخذ يقول: الكل على خير، والخلاف شر، واعتبر الخطباء علماء مجتهدين أخطأوا، ولهم أجر واحد، وصوَّر المسألة على أنه خلاف يشبه الخلاف الذي حدث بين الصحابة حال الفتنة.
وهذا كله تَمويه وتشويه وتغييب عجيب للحق، والحقّ أن بعض هؤلاء الخطباء أصحاب هوى، وضلالة، والخلاف بينهم وبين العلماء الربانيين حقًّا هو خلاف بين أهل سنة، وأهل بدعة وجهالة، وأن تَحذير هؤلاء العلماء منهم، هو مثل تَحذير أحمد، وابن معين، وأبي حاتم، والبخاري، وأدرابِهم من علماء الجرح والتعديل، من بعض أصحاب البدع والأهواء.
واعلم - رحمك الله - أن مآل هؤلاء الخطباء – إلا من رحم الله - إلى الاضمحلال، وأن هؤلاء الأتباع الكُثُر عما قريب يزولون عنهم، ولا ينفعونَهم وقت الشدة، ولا ينصرونَهم، إنما هي زوبعة طائر فَقَدَ أحد جناحيه فصار يُخبط خبط عشواء بالجناح المتبقي حتى سقط وصار نسيًا منسيًا، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً_[الرعد: 17].
وإن العلماء -حقًّا- وإن تراءى لك أن أتباعهم قلة وركائبهم مرتحلة، بسبب تشويه هؤلاء البَطَلَة، فإن سنة الله تقتضي خلاف ما تراءى لك، فعمَّا قليل، يصدق عليهم ما قاله الشوكاني / في أدب الطلب ومنتهى الأرب.
انتهى حاله - أي العالم الرباني - إلى أن يكون كعبه الأعلى، وقوله الأرفع، ولم يزده ذلك - أي تشويه البطلة - إلا رفعة في الدنيا والآخرة، وحظًّا عند عباد الله، وظفرًا بما وعد الله به عباده المتقين.
وهم وإن أرادوا أن يضعوه بكثرة الأقاويل، وتزوير المطاعن، وتلفيق العيوب، وتواعدوه بإيقاع المكروه به، وإنزال الضرر عليه، فذلك كله ينتهي إلى خلاف ما قدروه، وعكس ما ظنوه، وكانت العاقبة للمتقين، كما وعد به عباده المؤمنين وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ_[فاطر: 43]. ا
أقول: وإن رفع هؤلاء الخطباء أمثال: سلمان العودة، وناصر العمر، والقرني، وعمرو خالد، ونحوهم مِمَّن يضيق المقام عن حصرهم، إلى مرتبة العلماء أمثال ابن باز، والألباني، وابن عثيمين - رحم الله الجميع -، لظلمٌ وتعدي، وازدراء بِهؤلاء العلماء.
فإن قال قائل: نحن لا نرفعهم إلى مرتبة هؤلاء العلماء، وهم أنفسهم لا يقولون بِهذا.
قلت: إن كنتم صادقين في دعواكم، فلِمَ تقدمون أقوالهم وفتاواهم في النوازل والمسائل المنهجية على فتاوى العلماء الكبار، ولِمَ هم لا يرجعون إلى العلماء في هذه النوازل؟!
ولِمَ لَما أظهر هؤلاء الخطباء الميل للأهواء والبدع، وحذَّر العلماء منهم، لَم تقبلوا كلام العلماء، أو أخذتم تحرفون الكلم عن مواضعه؟!
قلتم: لأن هؤلاء -أي الخطباء- أعلم بالواقع وأفقه بِمجريات الأمور، وأن العلماء قد أخطاؤا في التحذير منهم، والعلماء ليسوا بمعصومين، فلا يلزمنا أن نقبل كلامهم([9]).
قلت: لقد قلبتم الأمر، ولكنكم لا تشعرون.
وقد تقولون: ونحن لا نسوي بين هؤلاء الخطباء وبين من هم أكبر منهم سنًّا وعلمًا ممن ذكرت أمثال ابن باز والألباني، إنَّما نَحن نقول أنَّهم في مرتبة تلاميذ هؤلاء الكبار مثل: ربيع بن هادي، وعبيد الجابري، وصالح آل الشيخ، ويحيى الحجوري، ومحمد الوصابي،ونحوهم حفظ الله الجميع.
قلت: بئس القول، وبئست المقارنة، أين الثرى من الثريا؟ إن هؤلاء التلاميذ الذين ذكرتم قد نالوا تزكية من سبقهم مِمَّن هم أكبر منهم علمًا، وصاروا هم حملة الحق من بعدهم، واقتفوا آثار من سبقهم فكانوا من التابعين بإحسان، ولا نزكيهم على الله، نسأل الله أن يثبتهم على منهج السلف حتى الْممات.
ثُم إن هؤلاء ليسوا على مرتبة واحدة كما تظنون لا في السن ولا في العلم، فإن العلامة ربيع بن هادي - أعزه الله - قد نال من التزكيات العالية والثناء الحسن ما يجعله في مرتبة أعلى، أضف إلى هذا كبر سن الشيخ - عافاه الله - فإن الشيخ قد تعدى السبعين عامًا بسنوات، وليس هو بالشاب الصغير كما يظن البعض، وقد أبلى بلاء حسنًا في هذا العمر الطويل في نصرة السنة ومنهج السلف الصالح، وكان هو بحق وصدق حامل راية علم الجرح والتعديل في هذا الزمان كما قال العلامة الألباني / فكم كشف من ألاعيب الحزبيين؟ وكم نصح لهذه الأمة وحذرها من هؤلاء الرويبضة الذين نشروا الأهواء بين المسلمين، ولَم يخاف في الله لومة لائم؟ جزاه الله عن أمة الإسلام خير الجزاء.
فإن قلتم: وكذلك دعاتُنا قد نالوا تزكيات العلماء.
قلت: وإن صدق هذا في بعضهم، فإن هذه التزكيات لا تغني عنهم شيئًا، حيث أنه لو سلَّمنا بصحة هذه التزكية فإنها كانت مبنية على صحة منهج ذاك الداعية في هذا الوقت، ثُم لما انتكس عن منهج السلف وانحرف إلى روافد الأهواء، جُرح من قِبَل العلماء الذين اطلعوا على التغير الذي حدث له، وأحيانًا يجرحه نفس العالم الذي زكاه من قَبل لَما خَبِِره، فالعبرة بثبات هذا الداعية على منهج العلماء الربانيين حتى تنفعه هذه التزكية([10]).
ومثال هذا: لَما علم العلامة ابن باز / بفساد منهج د.سفر الحوالي، وسلمان العودة، وناصر العمر منعهم من التدريس وحذَّر منهم، فهل لعاقل منصف أن يحتج بتزكية سابقة، ويتغافل عن هذا الجرح المؤخر؟
وكذلك أبو الحسن المأربي كان يزكيه الألباني، ثم لَمَّا ظهر ضلاله حذَّر منه جلَّ العلماء.
قالوا: ولكن كيف يكون هؤلاء الخطباء على باطل وبدعة، وقد التفت حولهم جموع غفيرة، وتعلقت بِهم أفئدة ملايين عبر شبكات الاتصال والإعلام العالمية؟
قلت: قد أجبت من قبل عن هذه الشبهة، لكن أزيدكم بصيرة بكلام شيخ الإسلام / لَما قال -كما في مجموع الفتاوى (13/173) (16/528) و(28/38)-:
$قيل لأبي بكر بن عياش: إن بالمسجد قومًا يجلسون ويُجلس إليهم، فقال: $من جلس للناس جُلس الناس إليه، ولكن أهل السنة يموتون ويحيى ذكرهم، وأهل البدع يموتون ويموت ذكرهم#، لأن أهل السنة أحيوا ما جاء به الرسول د، فكان لهم نصيب من قوله تعالى: +وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ_[الشرح: 4]، وأهل البدع شنؤوا ما جاء به الرسول د فكان نصيبهم من قوله تعالى: +إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ_[الكوثر: 3]. ا
أقول: وإن ظهور هذه الطبقة من أنصاف العلماء مِمن لم يتقنوا أصول المنهج الصحيح على أيدي العلماء الكبار، ثُم القذف بِهم في معترك الدعوة، مع إضافة هالات متكلفة حولهم، لهو سبب رئيسي لِما تعاني منه الأمة الآن من تفشي الأهواء، وظهور داء الجهل المركب، فإن هذه الطبقة أحدثت انفصامًا في وسط المجتمع المسلم، وحلَّت عراه؛ وإن ((العقبة الكئود، والطريق المستوعرة، والخطب الجليل والعبء الثقيل: إرشاد طبقة متوسطة بين طبقة العامة والخاصة، وهم قوم قلّدوا الرجال، وتلقوا علم الرأي ومارسوه حتى ظنوا أنهم بذلك قد فارقوا طبقة العامة، وتميزوا عنهم، وهم لم يتميزوا في الحقيقة عنهم، ولا فارقوهم إلا بكون جهل العامة بسيطًا، وجهل هؤلاء مركبًا، وأشد هؤلاء تغييرًا لفطرته وتكديرًا لخلقته أكثرهم ممارسة لعلم الرأي، وأثبتهم تمسكًا بالتقليد، وأعظمهم حرصًا عليه.. فإن قلت: فهل بقي مطمع في أهل هذه الطبقة؟ وكيف الوصول إلى إرشادهم إلى الإنصاف، وإخراجهم عن التعصب؟
قلت: لا مطمع إلا بتوفيق الله وهدايته، فإنه إذا أراد أمرًا يسر أسبابه، وسهّل طرائقه، وأحسن ما يستعمل العالم مع هؤلاء: ترغيبهم في العلم، وتعظيم أمره، والإكثار من مدح علوم الاجتهاد، وأن بها يعرف أهل العلم الحق من الباطل، ويميزون الصواب من الخطأ))(*).
وقد سألني سائل: فمن زكى هؤلاء العلماء الكبار الذين تدل عليهم، من زكى ابن باز، والألباني، وابن عثيمين، ومن زكى من قبلهم؟([11])
قلت له: العلماء يزكي بعضهم بعضًا، ويدل بعضهم على بعض، الصحابة زكَّاهم سيد العلماء وأعلمهم بالله: رسول د، والصحابة زكوا التابعين، والتابعون زكوا من بعدهم من تابعي التابعين، وهكذا ظلت السلسلة متصلة، فمالك يزكي الشافعي، والشافعي يزكي أحمد، وهكذا استمرت هذه السُّنة الحسنة وتستمر حتى قيام الساعة حتى يزكي المسيح u المهدي.
ومن يتبع كتب الطبقات والتراجم يدرك هذا الأمر، ويعلم أن هؤلاء العلماء ذرية بعضهم من بعض، وُلِدوا من رحم العلم النافع.
وهناك من يظل حياته حيرانًا له أصحاب يدعونه إلى العلم النافع والعلماء، ائتنا، فإذ به يتمتم تائهًا: لقد سئمت من شدة هذا الاختلاط بين العلماء، وأشباه العلماء، فهلا زدتني بصيرة بكيفية التعرف على العلماء؟
قلت: إن لَم يكفك ما ذكرت في طول هذا الكتاب من الكواشف الجلية بين علماء الدعوة السلفية، وأصحاب الدعوات الحزبية، فلتلجأ إلى الله خاليًا، أن يهديك لِما اختُلفِ فيه من الحق، إن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
واعلم أن الرسول د تركنا على مثل البيضاء، وكما أن دعوة النبي د كانت واضحة جلية لا يزيغ عنها إلا هالك، كذلك ورثته من العلماء الذين ساروا على منهاج النبوة دعوتُهم واضحة ليست خافية، فكيف يُظن أن العلماء غير مُميزين، أو أنَّهم مختلطون مع أهل الأهواء والجهل، لا يتزيلون عنهم، إن هذا لظنّ سوء، فإن العلماء عن طريقهم تقام حجة الله على الخلق، فكيف لا يكونون واضحين يسهل التعرف عليهم؟
وللأسف بعض الشباب يقيس الأمور بسطحية، ولا يدرك خطورة منهج هؤلاء الخطباء، وسريان دروسهم وكتاباتِهم في وسط العامة، فلذلك لا يَجد غضاضة في أن ينصح بسماع دروسهم الوعظية فحسب، ظنًّا منه أن هذا لا يضر الناس، فإليهم أُهدي هذه النصيحة من بعض طلبة العلم قال:
$ومن نتائج كتابات بعض المعاصرين الذين لَم يبنوا كلامهم على أصول أهل السنة والجماعة:
1- ربط الناس بغير الأكفاء من العلماء السَّائرين على طريقة السلف الصالح، ومؤَدَّى ذلك شَرٌّ عظيم وهو الحيلولة بين الناس وبين أخذ العلم من الكتاب والسُّنَّة بفهم سلف الأمَّة، وذلك بالتزهيد بالمشايخ وأنهم غارقون في الكتب منغلقون على أنفسهم فلا يفقهون سياسة ولا يعلمون واقعًا، ونتيجة ذلك الحتمية: إهمال الشبَاب للعقيدة وحفظ السنة ودراستها وأنَّ ذلك مجرَّد قشور.
2- تغليب الجانب السياسي على الشَرع، فترى الجانب السياسي يأخذ الجزء الأكبر من مساحة الدعوة عندهم، فيقعون في مشابهة العلمانيين الذين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدُّنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ويطغى ذلك على جانب الدعوة إلى الله، ولذا تَجدُهم يلقون تبعيَّة ما يصيب المسلمين على أعدائهم وأذنابهم، وفضلاً عن أنَّ هذا مُخَالفٌ للمنهج الرباني والهدي النبوي، فإنَّ في هذا مفاسد عظيمة وسلبيات كثيرة مِنها:
(أ‌) مخالفة الكتاب والسُّنَّة في تشخيص أمراض الأمَّة ومن ثم كيفية علاجها، فالله I ألقي تبعية هزيمة أُحُد وحُنَيْن في أوَّل الأمر على المسلمين أنفسهم رغم أنَّ الكفَّار هم الذينَ فعلوا ما فَعلوا، قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ_[آل عمران: 152]، وقال تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ_[التوبة: 25]، وقوله: أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ_[آل عمران: 165].
(ب‌) أنَّ في هذا المسلك تعظيمًا للكفار في نفوس المسلمين مِما يزيد الأمر وهنًا على وهن.
(ت‌) فيه تزكيةٌ للنفس، بمعنى أننا استكملنا شروط النصر من قيامنا بتوحيد الله وطاعة أوامره واجتناب نواهيه، ولكن الكفار غلبونا، ويترتب على ذلك إهمالنا لدعوة الناس إلى العقيدة والسنة وتربية الناس والنشأ على ذلك.
(ث‌) وربما ترتب على ذلك أمرٌ خطيرٌ قد يقع في نفوس بعضهم مِما يؤدي بِهم إلى الخروج من الإسلام إلى الكفر -عياذًا بالله من الكفر-، وهو أنَّ الله لَم يوف بوعده في نصر المسلمين وأنَّ الكفَّار غلبوا أمر الله، وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ_[يوسف: 21].
(ج‌) ومثل ذلك يُنبئُ عن خلل في التوحيد من ضعف التوكُّل على الله واليقين بالله والإغراق في الأمور الدنيويَّة.
3- ومن نتائج كتابات بعضهم أيضًا الثقة بوسائل الإعلام الفاسدة سواءٌ ما كان منها في الشرق أو الغرب، وهذا يؤدي إلى تضخيم حالهم وتصديق مقالهم، وأهل العلم بالكتاب والسُّنَّة لم يقبلوا خبر المسلم الصادق إذا لم يكن عدلاً وضابطًا، فكيف إذا كان كافرًا معاديًا، وهذا ينعكس سلبًا على العلم الشرعي بتقليل الثِّقة به وأهله، وله انعكاس آخر أدهى وأظلم ألا وهو بعث الرعب في نفوس المسلمين، والرهبة في قلوبِهم تجاه أعدائهم، فينتج عنه الإعجاب بأمر العقليَّة الغربية وبرامجها ومخططاتِها، وهذا كلُّه يورث الوهن والضعف وربَما اليأس في قلوب المخلصين من هذه الأمَّة، ولا شكَّ أنَّ هذا كله قلبٌ لحقيقة ما يعتقده المسلمون من أنَّ قوةَ الله لا تُقهر ولا تُغلب وأنه أحاط بكلِّ شيء علمًا، وأنه له سُنَنٌ في خلقه متى ما وُجدَت نصر الله المسلمين، قال النبي د: $نُصِرتُ بالرُّعبِ مسيرةَ شهرٍ#.
4- ومن نتائجها عدم التمييز بين الأولويَّات والتساهل بالشرعيَّات، فإنَّ من أهمِّ شروط الدعوة القائمة على السُّنَّة البدءُ بالأهم فالأهم، بأن يدعو أوَّلاً إلى إصلاح العقيدة بالأمر بإخلاص العبادة لله والنهي عن الشرك، ثم الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزَّكاة وفعل الواجبات وترك المحرَّمات، كما هي طريقةُ الرسل جميعًا، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ_[النحل: 36]، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ_[الأنبياء: 25]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام : فليكن أوَّل ما تدعوهم إليه شهادةُ أن لا إله إلا الله وأنَّ مُحمدًا رسول الله فإنْ هم أطاعوك فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم خمس صلوات، ولا يشك مسلمٌ عاقلٌ أنَّ طريقة النبي وسيرَتَهُ في الدَّعوة خيرُ قُدْوَة وأكمل منهج، حيث مكث د بمكة عشر سنوات يدعو الناس إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك قبل أن يأمرهم بالصلاة والزكاة والصوم والحج، وقبل أن ينهاهم عن الربا والزنا والسرقة وقتل النفوس بغير حق، فهذه إذن غايةُ الدِّين الحقيقية.
5- من نتائج كتابات بعضهم أيضًا الغلو، فهو النتيجة الحتمية لمثل ذلك الفكر الجامع الطامح لدعوة خُلطَت فيها الأوراق، واختلَطَت فيها الأولويَّات، فترى النقمة الظاهرة المتنامية على الأوضاع الحياتية في المجتمعات الإسلامية التي لا تُحكم بشرع الله، وحقَّ لهذه النِّقمة أن تكون براءةً من المعاصي وأولُها الشرك بالله، وانخلاعًا من أمر الفسق والفجور والمجون، ولكن استفحال هذه النقمة يُوَلِّدُ الوصمة في التكفير لِهذه المجتمعات، إما للحكام غالبًا، وإما للمحكومين نتيجة واسترسالاً..#.
إلى أن قال:
$ومن نتائج كتابات بعض المعاصرين ومن سار على منوالهم الخلط بين الخطباء المثقفين والعلماء، وهو خلطٌ قبيحٌ يوصلُ إلى أنْ يُعْبَدَ الله -I- وتؤخَذ أحكامه وأوامره مِمن هو ليس أهلاً لذلك، إذ يصعدُ الخطيبُ في كثير من بلاد الإسلام بعد سماع نشرة الأخبار أو قراءة مجلَّة أو نظرة في صحيفة أو تلفاز، يَصعدُ المنبر يرعدُ ويبرق، ويُرغي ويُزبِد، ملخِّصًا قراءاته وسماعاته بموجز لأهم الأنباء، وهذا ما يوافق حماسة الشباب، وهو ما يداعب عواطف المتَوقِّدين نشاطًا وحميةً وغيرة، ولكن ما هكذا تُفَرَّغ العواطف، وما هكذا تُعبَّأ الحماسة، وما هكذا تكون الغيرة.
وينتج عن هذا الخلط أن يصير هذا الخطيب في أذهان أولئك الشباب، العالم الذي لا يُبارى، لطلاقة لسانه وحلاوة بيانه، وحسن تحليلاته، وهو في الحقيقة خطيبٌ ليس إلا، وأما ذلك العالم وريث الأنبياء الذي سَلَخَ من عمرِهِ سنوات طوالاً درس فيها الكتاب والسُّنَّة، ووعى أحكامهما، وعرف مدلولاتِهمَا، فإنَّه يُصبِحُ معزولاً عن الشباب بتهمة البُعدِ عن الواقع، وهذا باطلٌ ظاهر البطلان#. ا
قلت: وهناك طائفة من الشباب السلفي الذي سلك مسلك الاتباع الصحيح لعلماء السلف، وتقبَّل كلامهم في التحذير من هؤلاء الخطباء والقصاصين، إلا أنه ما زال يعتريه حرجٌ في أن يعلن هذا التحذير على العامة والناشئين إذا هم أظهروا له عاطفتهم تجاه هؤلاء المحذَّر منهم.
ومِما يزيد هذا الحرج عندهم أن بعضهم قد يكون في بلد خلا من العلماء الكبار إلا قليلاً، فلا يوجد فيه إلا هؤلاء الخطباء الذين صاروا في أعين عامة أهل هذا البلد هم العلماء، فيثقل على هذا الشاب السلفي أن يقول لِهؤلاء العامة: إن بعض خطبائكم هؤلاء ليسوا بعلماء، بل العلماء -حقًّا- حذَّروا منهم، ونسبوهم إلى أهل الأهواء والبدع.
فأقول لِهذا الشاب السلفي - بارك الله فيه -:
أولاً: عليك بِمراعاة حال المخاطب، فإن كان المخاطَب من العامة البسطاء الذين لا يفهمون اصطلاحات العلماء: بدعة -أهل البدع والأهواء- الجرح والتعديل- الرد على المخالف أصل من أصول أهل السنة...إلخ.
ولا يدرك عقله تَحذيرك من هؤلاء، فمثل هذا عليك أن تعظِّم شأن العلماء – حقًّا - في قلبه، وتكثر من ذكر أسمائهم على مسامعه، وتوافيه أولاً بأول ببعض كتبهم ودروسهم التي تناسب فهمه، وفي نفس الوقت تتغافل تمامًا عن ذكر هؤلاء الخطباء، وإذا هو أثار الكلام عليهم تشعره بعدم اهتمامك بِهم، فلا ترفع لهم رأسًا، بل تزهِّده في الاستماع لَهم، فمع مرور الوقت، إذا أراد الله بِهذا العبد خيرًا، سوف تجده تلقائيًا، تضعف همته عن مواصلة التلقي عن هؤلاء الخطباء، بسبب أنك قد استوليت على قلبه بحسن نصحك وتوجيهك ودماثة خلقك وإحسانك إليه، فيُدرك أنك لم تدع إرشاده إلى هؤلاء إلا لشرٍ فيهم، هذا مع بداية تعلقه بالعلماء، وإدراكه للفارق الجلي بين طريقة العلماء في عرض المسائل الذي يتسم باليسر والوضوح الموافق للفطرة، وبين طريقة هؤلاء الخطباء الذي يتسم بالعنت وإشعار السامع باليأس والعجز عن فعل ما يرمون إليه، حيث إن أغلب خطب هؤلاء تتضمن - كما ذكرنا - استعراض خطوب المجتمع والنوازل التي تحل به، مع التهييج على الحكام، مِما يعجز العامي عن تغييره، لكن هذا الخطيب يلهب عاطفته، ثم يدعه حيرانًا لا يدري ما هو المطلوب منه؟
وأما إن كان هذا المخاطب مِمن ظل سنوات يترنح بين هؤلاء الخطباء، وفي نفس الوقت قد نال نصيبًا من الانتفاع بالعلماء الكبار، فمثل هذا الصنف يجب معه المصارحة والمكاشفة بالتحذير من هؤلاء، وأن هؤلاء العلماء -الذين هم بشهادته علماء كبار-، قد حذَّروا من هؤلاء الخطباء بسبب مخالفتهم لبعض الأصول، ووقوعهم في طائفة من الأهواء، هذا مع تدعيمك له بالكتب والدروس التي تبين له منهج أهل السنة في الرد على المخالف ونقد الكتب والرجال والطوائف.
ثانيًا: اعلم - رعاك الله - أن دعوتك لِهؤلاء هي هداية دلالة وإرشاد فحسب، ليست هداية توفيق وسداد، فلست أنت مسئولاً عن قبول هؤلاء لتحذيرك من عدمه، فلا تحزن عليهم، ولا تقطع نفسك عليهم حسرات.
ثالثًا: اعلم - أيضًا - أن عدم وجود علماء كبار في بلدك مع استيلاء بعض هؤلاء الخطباء على قلوب عامة أهل بلدك هو قدرٌ كوني حادث، لا ينبغي أن تنجرف معه وتسايره، بل يَجب عليك دفعه بالأقدار الشرعية والسنن السلفية حتى يتغير هذا القدر الكوني، فإن لم يتغير، فاعلم أنك قد أديت ما عليك من البلاغ، ولن تكون أفضل من الرسول الذي يأتي يوم القيامة ولم يستجب له إلا الرجل والرجلان، أولم يستجب له أحد، وكُن على ذكر من قول ابن مسعود: $الجماعة هي الحق ولو كنت وحدك#، ولا يعني هذا أنك تحكم بالبدعة والضلالة على عامة أهل بلدك من المسلمين فتقع في الغلو في التبديع، فتشابه حال من وقعوا في الغلو في التفكير، مِمن قال أحدهم - هذه المقولة المشهورة -: $إني لا أعلم مسلمًا على وجه الأرض إلا أنا، وواحدًا في الهند#، قالَها وقد انتابه اليأس والعجز، فاعتزل جماعة المسلمين في بلده، فلا يحضر معهم جمعة ولا جماعة، ولا يبايع حاكمهم، بل هو يكفر الحاكم والمحكومين.
فلا تقل أنت - لا بلسان حالك ولا بلسان مقالك -: $لا أعلم سلفيًّا في هذا البلد إلا أنا، وفلانًا فقط([12])، نعم قد يكون الأقرب إلى منهج السلف واتباع العلماء في بلدك هم نفر معدودون، بسبب غلبة الدعوات الضالة في بلدك، لكن لا يعني هذا أن تحكم حكمًا مطلقًا على عامة المسلمين في بلدك بالبدعة والضلالة، بل عليك أن تفرق بين العامة البسطاء الذين وقعوا في بعض الأهواء لغلبة الجهل عليهم مع استيلاء خطباء هذه الفرق الضالة على قلوبِهم وبين المعاندين المتعصبين الذين تعصبوا لِهؤلاء الخطباء تعصبًا حزبيًّا جاهليًا.
واعلم - رحمك الله - أن باب التبديع والتضليل هذا: بابٌ موصد على العلماء فقط مثل باب التكفير؛ فلا يجوز للمسلم العامي أن يُبَّدِع أحدًا هكذا باجتهاد نفسه.
فلتحذر من منهج الحدادية الذين غلوا في باب التبديع، فوقعوا في تبديع بعض الأئمة الكبار الذين قد تكون صدرت منهم زلات في مسائل اعتقادية ومنهجية أمثال ابن حجر والنووي - رحمهما الله -، وذلك دون أن يكون لهم سلف من أهل العلم فيما قالوه من هذا التبديع والتضليل لهؤلاء الأئمة.
وهؤلاء الحدادية يدَّعون لأنفسهم أنهم على السلفية - شأنهم شأن كل الدعوات الضالة التي تخدع الناس باسم السلفية، ممن قد ذكرت أمثلة منهم-، لكن لهم كواشف جلية تكشف لك عن حقيقة منهجهم الغالي في التبديع؛ وقد ذكر هذه الكواشف: فضيلة الشيخ العلامة ربيع بن هادي - حفظه الله - في مقالاته "مجازفات الحداد ومخالفته لمنهج السلف"، فقال - حفظه الله - في تعداد هذه المخالفات:
" أولاً: للحداد قاعدة في التبديع خالف فيها السلف لا سيما الإمام أحمد /.
قال في شريط "ماذا حدث" وفي الورقات المفرغة من (ص12-13):
"والقاعدة في التبديع واحدة, وخطر الْمُبتدعين كلهم واحد, وكله شديد علىأهل السنة وعدم الكلام في واحد منهم يجعلنا كما قال رسول الله د: "إنما أهلك من كان قبلكم إنِّهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه, وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد"، ويجعل لأهل البدع علينا حجة. ا
وبِهذه القاعدةالجائرة شغَّب على منهج السلف وعلى أهل السنة القدامى والمعاصرين, ثم هل يستطيع أحد أن يطبق هذه القاعدة ويتكلم على جميع أهل البدع فردًا فردًا، وهل أوجب الله ذلك؟ وهل يكلف الله الناس بما لا يطيقون؟
ثانيًا: انطلاقًا من هذه القاعدة التي اخترعها الحداد أو اختُرِعَت له لمآرب, خالف الإمام أحمد بل خالف السلف رحمهم الله.
1- قال الإمام أبو داود/ "في مسائل الإمام أحمد" (ص 27): "قلت لأحمد: لنا أقارب بخراسان يرون الإرجاء فنكتب إلى خراسان نقرئهم السلام؟ فقال: سبحان الله لم لا تقرؤهم السلام؟ قال: قلت لأحمد: نكلمهم؟ قال: نعم إلا أن يكون داعيًا ويخاصم فيه".
2- وقال ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (1/229): "قال أحمد في رواية الفضل وقيل له ألا يُكلم أحدًا؟ قال: نعم إذا عرفت من أحدًا نفاقًا فلا تكلمه لأن النبي د خاف على الثلاثة الذين خُلِّفوا فأمر الناس أن لا يكلموهم, قلت: يا أبا عبد الله كيف يُصنع بأهل الأهواء؟ قال: أما الجهمية والرافضة فلا, قيل له: فالمرجئة؟ قال: هؤلاء أسهل إلا المخاصم منهم فلا تكلمه؛ ونقل الميموني نهي الرسول د عن كلام الثلاثة الذين خلفوا بالمدينة حين خاف عليهم النفاق وهكذا كل من خفنا عليه.
وقال في رواية القاسم بن محمد: أنه اتهمهم بالنفاق وكذا من اتهم بالكفر لا بأس أن يترك كلامه"
3- قال إسحق بن إبراهيم بن هانئ "في مسائل أحمد (1/61): "سألته يعني الإمام أحمد عمَّن قال: الإيمان قول, يُصلَى خلفه؟ قال: إذاكان داعيةإليه لا يُصلى خلفه, وإذا كان لا علم لديه أرجو ألاَّ يكون به بأس"
4- قال عبد الله: وسألت أبي عن عمرو بن عبيد فقلت له: ليس بشيء لا يكتب حديثه؟ فأومأ برأسه, أي نعم! فقلت: قوم يُرمَوْنبالقدر إلا أنهم لا يدعون إليه ولا يأتون في حديثهم بشيء منكر, مثل قتادة, وهشامالدستوائي, وسعيد بنأبي عروبة, وأبي هلال, وعبد الوارث, وسلام ابن مسكين؟ فقال: هؤلاء ثقات "تاريخ بغداد" (12/184).
5- وقال نعيم بن حماد: قيل لابن المبارك: لم رويت عن سعيد, وهشام الدستوائي, وتركت حديث عمرو بن عبيد, ورأيهم واحد؟ قال: كان عمرو يدعو الى رأيه ويظهر الدعوة, وكانا ساكتين "ميزان الاعتدال"(3/275).
ومعلوم عن أئمة السلف الرواية وأخذ العلم عمَّن وقعوا في بدع من القدر والإرجاء والتشيع إذا لم يكونوا من الدعاة إلى البدع ولا من المخاصمين لأجلها بل إن بعضهم ليروي عن الدعاة منهم.
فهل تجويز الإمام أحمد إقراء السلام على المرجئة تَهوين من شأن بدعة الإرجاء؟ وهل تجويز الإمام أحمد تكليم المرجئة غير الدعاة وتجويز الصلاة خلفهم تهوين من شأن بدعةالإرجاء؟ وهل رواية أئمة السلف عمَّن وقع في بدعة الإرجاء أو القدر أو التشيع أو الخروج تهوين من شأن هذه البدع؟ فما هو رأي الحدادية؟ وما موقفهم من مذهب السلف في التفريق بين الداعية وغير الداعية؟
الجواب: إن الحداد ليخالفهم في هذا التفريق ويظهر بمذهب جديد يخالف به منهج السلف الصالح ويُشغِّب به على أهل السنة المعاصرين.
لقد نقل الحداد قول أبي داود للإمام أحمد نكلمهم؟ قال: نعم إلا أن يكون داعياً، ونقل جواب الإمام أحمد على سؤال ابن هانئ بجوازالصلاة خلف المرجئ إذا كان غير داعية ثم اعترض عليه بقوله: "وتفريقه / بين الداعي وغيره فيها نظر وأدلة ذلك كله قد فصلتها في كتابي الكبير "إزالة النكرة"([13]).
انظر قوله في: "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد"(ص68 رقم 41).
وسترى لاحقًا إن شاء الله كيف أن الحداد يرمي ابن تيمية بأنه يهون من شأن الإرجاء فهل تستبعد من الحداد أن يرمي السلف بالتهاون في شأن البدع بسبب تفريقهم بين الداعية وغير الداعية في الصلاة وأخذ العلم والحديث عنهم وتكليمهم؟ فما حكم صلاتهم وروايتهم ومواقفهم من غير الدعاة من أهل البدع في نظر الحداد؟ وما هي الأدلة التي عرفها وجهلوها وتمسك بها وأهملوها؟
ثالثاً: واجه السلف أهل البدع ولاسيما الغلاة الدعاة منهم، لكنهم مع ذلك ما كانوا يرون وجوب التصريح بلفظمبتدع، قدريًا كان هذا المبتدع أو شيعيًا أو مرجئًا، بل ترى أشدهم على أهل البدع كأحمد والبخاري وابن أبي حاتم يُترجمون لأهل البدع، فأحياناً يذكرون أهل البدع بلفظ مرجئ قدري.... إلخ، وأحيانًا لا يذكرون ذلك إطلاقًا فضلاً عن التصريح بلفظ مبتدع، وهذه كتبهم بين أيدينا، وقد كتبت مذكرة للحداد وأصحابه الذين استخفهم، تُبين لهم أسلوب أئمة السلف في التفريق بين الغلاة الدعاة وغير الغلاة الدعاة، وأنهم لا يلتزمون التصريح في التبديع بلفظ مبتدع بل يلتزمون بوصف المبتدع ببدعته في كثير من الأحيان إن لم يكن الأكثر فضلاً عن أن يعتقدوا وجوب التصريح بذلك.
لكن الحداد وشيعته غلوا غلوًّا شديدًا لا يعرف له نظير في تاريخ أهل السنة – وما ذلك إلا تصنع كاذب – فافتعلوا إيجاب التصريح بلفظ مبتدع وركزوا كثيرًا على ابن حجر والنووي، وامتحنوا بِهما أشد الناس تمسكاً بالسنة وبُغضًا للبدع، فصاروا لا يكتفون ممنيمتحنونه أن يقول بأن النووي أشعري أو يتأول الصفات على طريقة الأشعرية، وبنوا على ذلك الولاء والبراء، والهجران، والمقاطعة، والعداوة، والبغضاء، بل والإشاعات،والافتراء على من لا ينقاد لأوامرهم الصارمة وفكرهم الجاهل الأعوج، فكانت محنتهم وبلاؤهم أشد محنة وبلاء لقيها أهل السنة وأشاعوا عن المذكرة السالفة الذكر بأنها تطعن في أهل الحديث وتثني على أهل البدع، بل قال الحداد عنها: " وقد تكرر ذلك منه في مذكرته في الثناء على أهل البدع " انظر مذكرته ص89؛ هكذا يقول الحداد ويفتري: +كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلا كَذِباً_.
رابعاً: ومما شغَّب به الحداد ومن استخفهم فأطاعوه – فتنة الترحم على ابن حجر والنووي – وكانوا يشغِّبون بها ويُمارون، يوالون عليها ويعادون، ويهجرون ويقاطعون من أجلها ولا يزالون على ذلك.
وشرقت وغربت وأتهمت وأنجدت هذه الفتنة، وطار بها الركبان وبأخواتها إلى الشام واليمن ونزلت على أهل السنة بها، وبأخواتها المحن فتراهم يشددون فيها ويوالون فيها ويعادون ويطعنون في السلفيين بسببها أشد الطعن.
فإذا واجهتهم وسألتهم أتحرمون الترحم على ابن حجر والنووي؟ قالوا: لا، لا نحرم لكن السلف كانوا يمنعون من الترحم ثم تراهم يفخمونأمرها ويحسدونه حتى ليبدوا الترحم على من ذكر وكأنه من أكبر الكبائر وأشد البدع.
فإن جادلتهم فيه يستمرون معك ساعات في جدال بيزنطي ومراوغات ثعلبية ثم ينتهون معك بأنه يجوز الترحم؛ ثم يخرجون بعد ذلك الاتفاق يحملون أشد أنواع العداوة والبغض ويشيعون فيك من الطعون ما لا يصدر ممن شم رائحة الإسلام فضلاً عمَّنيدعي السلفية.
ولقد قدمت لبعض أعيانهم كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية نقلفيه أن الإمام أحمد كان يستغفر لبعض أهل البدع، فقال أحدهم: أخطأ ابن تيمية في هذا النقل عن الإمام أحمد؛ وبعد عتاب وتعنيف قال: أين مصدر ابن تيمية ومن أين نقله؟ فكان اتهاماً أشد لهذا الإمام من الاتهام الأول.
وهذه أمور أساسية عظيمةخالف فيها الحداد السلف الصالح ومنهجهم العظيم الحكيم المستمد من كتاب الله وسنة رسوله د فظهرت عليه ثمارها المخزية التي ستراها في الصحائف الآتية في هذا البحث الذي لم يتضمن إلا بعض مخازيه...."([14])ا
ثانيًا: الموقف من العلماء:
بعد أن سبرنا شيئًا من الكواشف التي تُميز لنا بين العلماء السلفيين، وأضدادهم من الحزبيين، نبغي الآن أن نضيء كواشف أخرى لموقف الحزبيين من هؤلاء العلماء، ثُم نعرِّج على الموقف الشرعي الصحيح الواجب اتخاذه تجاه العلماء.
إن الموقف المشترك بين أهل البدع - والذي عليه يتكاتفون - هو الطعن في علماء السنة والتنفير منهم لإسقاطهم، وإن كان هذا الموقف يتفاوت بنسب مختلفة من حزب إلى حزب، ومن حزبي إلى أخر.
ولا تغتر - رعاك الله - بعبارات الثناء المجملة على العلماء التي يتفوَّه بِها أحيانًا الحزبيون ذرًّا للرماد في العين، فإنها تشبه بعض عبارات المديح والإطراء للنبي د من قِبَل الصوفية والطرقية، فكما أن الصوفية يحبون النبي د حب عشق وهوى لا حب اتباع، فكذلك الحزبيون قد يطلقون أوصاف الثناء على العلماء كالثناء على ذواتِهم وأخلاقهم، واجتهادهم في طلب العلم، لكن لا يُعرِّجون إلى منهج العلماء في التعامل مع الولاة، وفي التعامل مع أهل البدع، ولا يمدحون شدة العلماء على أصحاب الأهواء بل يذمونها ويعتبرونها ظلمًا وغلوًّا، وإن ذكروا شيئًا من فتاوى العلماء فإنما يذكرون: إما ما لا يتعارض مع مناهجهم الحزبية أو يذكرون ما يوافق أهواءهم.
وهناك طائفة من الحزبيين تطعن في العلماء طعنًا جليًّا بلا تورية ويذكرونِهم بأسوأ الألقاب، وينددون بِهم في مجالسهم الخاصة والعامة، ويتهمونَهم بالعمالة والجاسوسية لصالح الولاة، أو بمداهنة الولاة، أو أنَّهم يسوغون مخالفات بعض الولاة للشرع، ويصدرون لهم الفتاوى التي تسوغ لَهم ذلك إلى آخر هذا الطعونات الفاجرة الجائرة، وقد يصل الغلو ببعضهم إلى تكفير العلماء والحكم عليهم بالخلود في النار، كما فعل هؤلاء الخوارج الغلاة عند موت العلامة ابن عثيمين / بأن نشروا على شبكة الاتصالات العالمية (الإنترنت) هذا الكلام الفاجر: $إلى الجحيم يا ابن عثيمين خالدًا مخلدًا فيها#.
لكن الفئة الأَخبث من الحزبيين هي التي تظهر التعظيم النظري للعلماء([15]) ثم تسلك مسالك شتى في إسقاط منهج العلماء إما بالغمز واللمز، وإما بالكذب على العلماء ليظهروا للأغمار أنّهم سائرون على درب العلماء، وإما بإظهار العلماء في صورة السذَّج الذين لا يدركون واقع المسلمين هذا كله مع تفوههم بعبارات اعتذار صفراء يلتمسون بها الأعذار لهؤلاء العلماء على تقصيرهم -زعموا-.
والموقف الشرعي الصحيح الذي يجب اتخاذه تجاه العلماء، ينحصر فيما يلي:
أولاً: سؤالهم واستفتاؤهم عند نزول النوازل العامة والخاصة، لقوله تعالى: +فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ_[النحل:43].
ثانيًا: طاعتهم واتباعهم إذا أمرونا بالمعروف، لقول الله سبحانه: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ_[النساء: 59]، وأولو الأمر -كما بينا- هم العلماء والأمراء.
ثالثًا: عدم الخوض في أعراضهم، أو تلمس عثراتِهم، أو الانتقاص من أقدارهم، أو ابتغاء العنت فيهم باتِهامهم بِما هم منه براء مثل اتِهامهم بالعمالة للأمراء، أو الغفلة والسذاجة، أوالغلو والبغي، فلا يُذكرون إلا بالذكر الحسن، المتضمن التبجيل والاحترام، دون غلو في التعظيم مثل غلو الصوفية في مشايخهم، فلا نعتقد عصمتهم، ولا نقبل الأعتاب تَحت أقدامهم، ولا نَجلس بين أيديهم جلوس الميت بين يدي مغسِّله، فلا نقع فيما وقع فيه الصوفية المخرِّفون الذين قالوا: من اعترض -أي على شيخه- انطرد -أي من الطريقة-، وكذلك قاعدة الحزبيين: أن من خالف أوامر أمير الحزب فُصِِل عن الحزب، حتى لو أُمِر بِما قد يُخالف الشرع، لكن منهجنا مع العالم إن أخطأ أن نبين الحق بالدليل، ويناصحه من كان أهلاً لمناصحته.
قال الطحاوي / في عقيدة أهل السنة: $وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل#.
رابعًا: توقيرهم والاعتراف بِحقهم علينا وشكرهم، كما جاء في قول الرسول د: $من لم يشكر الناس لم يشكر الله#، والعلماء الربانيون هم أولى الناس بالشكر والتوقير، فهم وَرَثَةُ النبي د وحملة سنته إلينا، وهم حصن الأمان لهذه الأمة، وبِهم تحفظ بَيْضَة هذا الدين من عبث أهل الأهواء والزندقة.
قال برهان الدين الزرنوجي في كتابه $تعليم المتعلم في طريق التعلم# (ص46): $اعلم بأن طالب العلم، لا ينال العلم، ولا ينتفع به إلا بتعظيم العلم وأهله، وتعظيم الأستاذ وتوقيره#، ثم قال: $ومن توقير الْمُعلم ألا يمشي أمامه، ولا يجلس مكانه، ولا يبتدئ الكلام عنده إلا بإذنه، ولا يكثر الكلام عنده، ولا يسأل شيئًا عند ملالته، ويراعي الوقت، ولا يدق الباب، بل يصبر حتى يَخرج، فالحاصل: أنه يطلب رضاه، ويجتنب سخطه، ويمتثل أمره من غير معصية الله تعالى#. ا
قلت: ومن أمثلة المنتكسين عن منهج السلف مِمن اتخذ موقفًا مزريًّا من العلماء: الشيخ أبو الحسن المأربي –رده الله للحق-، الذي لَما ناصحه بعض العلماء في بعض الضلالات والأهواء التي وردت في بعض كتبه ودروسه، بدلاً من أن يعلن التراجع الحميد عن هذه الضلالات، ويشكر العلماء نصحهم له، إذ به ينقلب طعانًا عليهم، منتقصًا لأقدارهم، ملقبًا لهم بألقاب السوء، فاتَّهمهم بالغلو في التبديع، والبغي، والغفلة، وأنهم حدادية، وأخذ يَجمع خيله ورجله لحربِهم مدعيًا حرصه على تطهير الخط السلفي من الغلاة والمنفرين - يقصد العلماء الذين جرحوه ونصحوا له -.
ومِما يكشف لك أيها المسترشد عن ضلال أبي الحسن أنك لم تجد منه معشار هذا الحمية، ولا نُتْفة منها في التحذير من ضلالات سيد قطب، بل لقد ظل سنوات يماطل في كون كلام سيد قطب في الظلال في تفسير سورتي الحديد والإخلاص هو قول أهل وحدة الوجود أم لا؛ رغم وضوح الأمر وعدم خفائه، ورغم تصريح العلماء الكبار أمثال الشيخ الألباني والشيخ ابن عثيمين - رحمهما الله - بكون هذا الكلام هو كلام أهل وحدة الوجود؟
وفي شهور معدودة يصدر عشرات الأشرطة المليئة بالطعون في علماء مشهود لهم سابقًا وحاضرًا بالعلم والاستقامة والذب عن المنهج الحق، كل هذا لأنَّهم لَم يرضوا عن القواعد الفاسدة التي أصَّلها وأراد أن ينسبها إلى المنهج السلفي، ومن هذه القواعد التي انتقدها العلماء عليه:
أولاً: قاعدته في حمل المجمل على المفصَّل في غير كلام الله وكلام رسوله.
ثانيًا: قاعدة نصحح الأخطاء ولا نهدم الأشخاص، وهي من توابع منهج الموازنات المحدَث، وسوف يأتي مزيد بيان عن هذه القاعدة المحدثة في الكاشف التالي - إن شاء الله -.
ثالثًا: قاعدة: نريد منهجًا واسعًا يسع أهل السنة جميعًا؟؟؟ - يقصد بأهل السنة: السلفيين، وحزب الإخوان، والتبليغ، والجهاد -؛ وهي قاعدة التجميع المعهودة من الحزبيين لكنه أراد أن يلبسها لباس السلفية.
رابعًا: مراحله وتقلباته حول وصفه للصحابة بالغثائية، وكلامه في أبي سعيد الخدري.
خامسًا: انتصاره لقول الأشاعرة والمعتزلة في أن حديث الآحاد يُفيد الظن،وقد ساق ما يقرب من خمس عشرة شبهة في كتابه إتحاف النبيل من شبه أهل البدع لينتصر بها لهذا القول، وعرض هذه الشبهات على أنَّها حجج،مع تركه لحجج أهل الحديث والأثر التي ذكرها العلماء أمثال ابن القيم/.
ثم لما جابَهه العلماء بِهذه المخالفة، أخذ يُميع الأمر بإظهار المسألة بأنها ممايسوغ فيه الخلاففلا تقتضي الإنكار والتحذير، وحاول جاهدًا أن يُلبس الأمر لباسًا غير حقيقته؛ فمن تلبيسه أنه أخذ يقول إن القول بظنِّية حديث الآحاد هو قول الجمهور، ولم يُفصح لنا: من هم الجمهور الذين قالوا بهذا؟ هل هم جمهور أهل الحديث أم جمهور المتكلمين؟ والجواب نجده في التالي:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة أصول التفسير:
"وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّ "خَبَرَ الْوَاحِدِ" إذَا تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَوْ عَمَلاً بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إلا فِرْقَةً قَلِيلَةً مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلامِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ; وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلامِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ يُوَافِقُونَ الْفُقَهَاءَ وَأَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفَ عَلَى ذَلِكَ".
وقال أبو المظفر السمعاني / في قواطع الأدلة (2/258): "وأما ما سوى هذا من أخبار الآحاد فالكلام فيها يشتمل على شيئين: أحدهما: فيما يتعلق بالعلم, والآخر: فيما يتعلق بالعمل.
أما العلم فذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أنه لا يوجب العلم، وذهب أكثر أصحاب الحديث إلى أن الأخبار التي حكم أهل الصنعة بصحتها ورواها الأثبات الثقات موجبة للعلم وقد ذكرنا حجتهم على هذا في كتاب الانتصار".ا
وقال الشيخ محمد عمر بازمول في مقاله: "خطورة كلام أبي الحسن في خبر الآحاد: " خبر الواحد لا يخلو عن أحوال:
الحال الأول: خبر الواحد إذا احتف بالقرائن الدالة على ثبوته، كأن يخرجه أحد أصحاب الصحيح، أو كأن يجري عليه عمل الأمة، أو نحو ذلك من القرائن؛ فإن هذا، جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً به فأنه يوجب العلم، هذا الحال الأول للخبر بوجوب العلم.
الحال الثاني: خبر الواحد الذي لم يحتف بالقرائن، فهذا جمهور أهل الحديث على أن خبر الواحد إذا لم يحتف بالقرائن؛ فإنه صحيح يوجب العلم والعمل.
ملاحظين إذن: أن جمهور أهل الحديث يرون – على أي حال – أن خبر الواحد سواء كان محتفاً بالقرائن أو غير محتف بالقرائن؛ أنه يوجب العلم، وجمهور العلماء على أن خبر الواحد الذي احتف بالقرائن؛ أوجب العلم، أما خبر الواحد الذي لم يحتف بالقرائن؛ فإن جمهور أهل الحديث على أنه يوجب العلم، وكذا كبار العلماء في المذاهب على مثل كلام جمهور أهل العلم.
فمن نقل أن أهل العلم يرون: أن خبر الواحد لا يوجب العلم وأنه يوجب الظن عندهم فقد أخطأ في النقل".ا
قلت: فثبت أن القول بظنية حديث الآحاد وهو قول جمهور المتكلمين وليس قول جمهور أهل الحديث، والعبرة - كما هو معلوم - بقول أهل الصنعة.
ثم لما ثقلت مطارق أهل الحق عليه تراجع عن القول بالظنية إلى قول آخر من أقوال أهل البدع - فلم يتراجع إلى قول أهل الحديث - حيث قال في "قطع اللجاج" (ص46): "فإني أدين الله بأن أخبار الآحاد إذا حفَّتها قرائن، فإنها تفيد العلم النظري الاستدلالي، كما قرره غير واحد من العلماء".ا، قلت: وهذا ليس هو قول أهل الحديث؛ بل هو أحد أقوال الأشاعرة والمتكلمين كما في شرح اللُمع لأبي إسحاق الشيرازي (2/578): "وهو - أي خبر الآحاد - يوجب العلم، والعلم الذي يحصل بهذه الأخبار مكتسب وليس بضروري"، وقال أبو المظفر في القواطع (1/16): "وأما العلم المكتسب فهو الواقع عن نظر واستدلال"، ومن المعلوم أن الشيرازي من مُتكلمي الأشاعرة، فعُلم أن أبا الحسن سلفه في قوله هذا هم الأشاعرة وليس أهل الحديث، مما يبين بجلاء تلاعبه وعدم تراجعه؛ وإلا ما الذي يمنعه من أن يُصرح تصريحًا لا لبس فيه رجوعه إلى قول أهل الحديث، ثم يُتبع هذا التصريح بنقل كلام أئمة السلف في تقريره، ويُردف بهذا التصريح أيضًا البراءة من الشبهات التي ساقها في إتحاف النبيل لإثبات ظنية حديث الآحاد والتي هي شبهات الأشاعرة والمعتزلة.
وقد يقول البعض: ألم يقُل بعض الأئمة السابقين من علماء السنة بالقول بظنية حديث الآحاد، ورغم هذا هم من الأئمة المشهود لهم بالعلم والفضل؟ فنقول: لا يعني صدور هذه الزلة من هؤلاء العلماء أن المسألة يسوغ فيها الخلاف؛ ولا يعني هذا إقرار هذا القول المُحدث؛ بل علماء الحديث يُنكرون هذا القول منهم، مع حفظ أقدارهم والاعتراف بفضلهم.
فيقول القائل: فلِمَ لم يُعامل أبو الحسن بنفس المعاملة حيث إنه كان له خدمة لعلم الحديث، وكان يُظهر الانتصار لمنهج السلف في بعض الجوانب.
فالجواب: إن تحذير العلماء من أبي الحسن ليس بسبب كونه يقول بظنية حديث الآحاد فحسب بل لِما أظهره من الأصول الأخرى الفاسدة التي ذكرنا بعضها؛ هذا بجانب استماتته في الدفاع عن هذا القول الباطل وتلبيس الأمر بمحاولة إظهار بعض العلماء بأنَّهم يقولون بنفس القول مثل قيامه بحذف كلام من مقال لسماحة الشيخ ابن باز / قد نقل فيه كلامًا عن النووي يقرر فيه النووي القول بالظنية، ليشعر القاريء بأن الشيخ ابن باز يوافق النووي على هذا القول؛ ثم نسبة القول بالظنية إلى الجمهور تدليسًا على الناشئين الذين لا يدرون الفارق بين جمهور الأصوليين والمتكلمين، وبين جمهور أهل الحديث.
فكل هذا وغيره - مما يضيق المقام عن ذكره - مِمَّا جعل عدد كبير من العلماء يُحذر من أبي الحسن وينسبونه إلى أهل الأهواء لأن فعل أبي الحسن ليس بحسن بل أثار الفتن.
التعديل الأخير تم بواسطة جمال الأثري ; 30-12-2007 الساعة 07:52 PM