التقاعد السياسي
03-07-2015, 10:16 AM
يفاجأ المرء أحيانًا بعمره دون أن يسأل أو يتذكر. يصطدم به كما يصطدم برفيق طفولة قديم في الطريق، يحاول أن يتذكر اسمه ووجهه فينساه بعد قليل. ولا عجب في ذلك، فنحن في مجتمعاتنا العربية لم ننشأ في بيئة يحتفل فيها المرء بيوم مولده، ولا نعتبره عيدًا يستحق التذكر والاحتفال بين الأولاد والزوجة والأصدقاء كما قد يحدث هذه الأيام، حين يبحث الناس عن مبررات مصطنعة للاحتفال والتظاهر بالسعادة لأن سنة انقضت من العمر بكل ما تحمله من مشقة وعناء. لا يكفي التذكر فيها بسنوات الطفولة والدراسة والعمل والاغتراب عن الحياة ثم التصالح مع النفس والرضي بما قُسم.. لا يتذكر يوم مولده أو لا يريد أن يتذكره،

فالحياة ليست لحظات سعادة دائمة ولا شقاء دائم، ولكنها خليط يمتزج. يفارق فيه المرء حاضره وماضيه، ولا يتبقي في داخله غير شعور واهم بأن عمره العقلي أو النفسي هو العمر الحقيقي. لا تهم الشكليات الاجتماعية، ولا التقاليد المرعية، ولا الاستسلام لحالة من الإيهام الافتراضي الذي ينقضي بانقضاء المجاملات الاجتماعية وإطفاء الشموع التقليدية.

يكبر المرء مع نفسه دون أن يلحظ ذلك. ولا يكف المحيطون بك عن تذكيرك كلما سنحت الفرصة: شعرك بات أكثر بياضًا. صلعتك أكثر لمعانًا. عيناك تخطئان فك الحروف والكلمات. سرعتك في المشي والحركة صارت أكثر بطئًا وأقل توازنًا.. ولا تحب أن يذكرك أحد بذلك. فالواحد منا يظن أنه مازال شابًا لم يدخل بعد دائرة الشيخوخة والكهولة، حتي يتلقي خطابًا من دائرة عمله بأنه بلغ سن التقاعد، أو يصاب فجأة بمرض، أو يذكره الطبيب بأنه لم يعد شابًا، فلا داعي للعجلة والركض في مسالك الحياة. وعليه أن يركن إلي شيء من الهدوء، إلي ما صنعه من صداقات فيسترجعها ومن عداوات فلا يأسي عليها.

في مجتمعاتنا العربية يبحث الناس لك عن لقب. ولا يناديك أحد باسمك مجردًا. فأنت في الأوساط الشعبية «عمي الحاج» أو «يا شيخ». أو إذا وجدت نفسك في أوساط شبابية فأنت «عمو» أو «أونكل» أو «جدو» بحسب ما تقتضيه الظروف. يحاول كل من حولك أن يذكرك بعمرك أو أنك لا تنتمي إلي نفس الجماعة ولا تفهم لغتها ورموزها. كل من يصغرك بضع سنوات يعتبرك من آثار الماضي. وكل من يكبرك بضع سنوات يعتبرك من جيله أو أكبر قليلاً، ولابد أن تكون قد عاصرت ما عاصروه من أحداث بعيدة وذكريات منسية!

تبدو فكرة انسلاخ العمر في مجتمعاتنا مرتبطة بما يتوقعه الآخرون منك.. في ملبسك ومأكلك وأسلوب حياتك، بل حتي طريقة كلامك وصداقاتك ومشاعرك. بينما ترتبط في المجتمعات الصناعية المتقدمة بما تختزنه من قدرات ذهنية وصحية وعملية، وقدرة علي التكيف مع المجتمع ومسايرة مستجداته. ويحكي عن المستشار الألماني كونراد اديناور الذي ظل يحكم إلي ما بعد الثمانين من عمره ــ بعد الحرب العالمية الثانية ــ أنه سئل ما الذي يجعله قادرًا علي الاحتفاظ بحيويته ونشاطه الذهني في هذه السن العالية، فكانت إجابته أنه يحرص دائمًا علي أن يحيط نفسه بالشباب، بمن هم أصغر سنًا وأكثر حيوية وإقبالاً علي الحياة، لكي تنتقل إليه عدوي الشباب والحيوية والمرح. فوضع الحواجز بين الأعمار والأجيال، يجعل الحياة أكثر فقرًا وجدبًا، ولا تسمح بالتفاعل وانتقال الخبرات والتعلم من تجارب الآخرين.
ولكن ما هكذا يستطيع المرء أن يخدع نفسه طول الوقت. فاكتمال الصحة والخلو من العلل والأمراض، والتوازن النفسي، ويقظة الذهن ونشاط العقل، لا تسبغ علي المرء شبابًا وَلّي، ولا تغير من نظم الإدارة الحديثة، وقوانين العمل، والحكم الصالح، التي تقتضيها حاجة المجتمع إلي التجديد والتغيير. وهو ما أجمله الجاحظ دون أن تكون لديه هذه النظرة العصرية:
أترجو أن تكون وأنت شيخ
كما قد كنت أيام الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب
جديد كالدريس من الثياب

ينعكس هذا الاتجاه الشبابي علي دنيا السياسة والأنشطة النقابية والحزبية بشكل صارخ، وعلي مجالات الأعمال والشركات والمؤسسات الصناعية.
ففي الديمقراطيات الغربية التي تقوم عليها الدول الصناعية الكبري، يكون عامل السن أحد العوامل المهمة في جاذبية المرشح للمناصب القيادية، بحكم اقترابه من الفئات العمرية الناشطة.. لم يعد من المهم أن يتميز الحاكم أو النائب أو رئيس مجلس الإدارة أو رئيس الحزب، بالحكمة والرصانة وسعة الصدر وطول الباع، بقدر ما يجب أن يتميز به من طاقة متجددة علي العمل، وقدرة علي تحمل الضغوط والأعباء، وعدم تهيب المغامرة واقتحام المخاطر، وتجربة الجديد.
لقد أصبحت ثقافة الشباب جزءًا مهمًا من ثقافة المجتمعات الغربية، تضفي تأثيرها علي جوانب الحياة المختلفة.. ويعمد السياسيون إلي التظاهر أمام أنفسهم وأمام المجتمع، بأنهم يحتفظون بكامل لياقتهم الصحية

لا يحب السياسيون والزعماء في كثير من أنحاء العالم أن يفكروا في نهايتهم أو نهاية حكمهم. ويعتريهم الوهم بأن بقاءهم في السلطة يمكن أن يستمر إلي الأبد، أو علي الأقل هذا ما يترسخ في عقلهم الباطن، وهم يظنون أنهم قادرون ــ مازالوا ــ علي تنفيذ مخططاتهم وسياساتهم. ولكن تطور النظم السياسية في الديمقراطيات الغربية، وما ابتدعته من دساتير وقوانين وتقاليد للحكم، لم تدع لهم مجالاً للمراوغة والمماطلة. فهناك حدود وضوابط لا يمكن اختراقها أو انتهاكها وتعديلها لتلائم رغبات الحكام ونزواتهم، طالما كانت سلطة الحكم بناء علي إرادة شعبية وطبقًا لانتخاب حر، في إطار نظام برلماني ديمقراطي. إذ يتحتم علي الحاكم أن يعيد طرح الثقة فيه وفي حكومته عن طريق انتخابات حرة كل بضع سنوات، ليحصل علي تجديد ولايته.. وهناك توافق عام علي وضع حد زمني لتكرار هذه الولاية.

تساؤلات حول ضرورة سد الفجوة العمرية بين النخب الحاكمة وشعوبها. وبعبارة أخري حول ضرورة فتح الطريق أمام تعاقب الأجيال وتمكين الشباب من المشاركة في الحكم وتحمل المسئولية.
ولعل هذه هي المشكلة التي تواجهها الدول العربية بصفة عامة. حيث يحجم الشباب عن المشاركة في السياسة، أو بعبارة أخري يتم استبعادهم بواسطة الكبار عن ممارسة السياسة بطرق مختلفة، تبدأ من المدرسة والجامعة وتنتهي إلي الشارع. وحين يشكو البعض من عدم الإقبال علي التصويت في الانتخابات والمشاركة في النشاط السياسي من جانب الفئات الشابة والطبقات المتوسطة، كما يحدث في الانتخابات العامة التي جرت أخيرًا في مصر، فإن السبب في ذلك يرجع بالضرورة إلي احتكار الساسة المحترفين من الأجيال القديمة للعمل السياسي، وجمود الهياكل الداخلية، سواء علي مستوي النخب الحاكمة، أو علي مستوي الأحزاب والمجالس المحلية، بل وعلي مستوي النقابات والتجمعات المدنية، التي لا يكاد يجد الشباب فيها مكانًا.

وهنا يبدو التساؤل مشروعًا عن: متي يتقاعد السياسيون عن ممارسة السلطة؟ ما هي السن أو المرحلة العمرية التي يجب أن يخلي فيها الشيوخ مقاعدهم للأجيال التالية، الأصغر سنًا والأكثر شبابًا والأقدر علي الإمساك بمعطيات العصر، وهم في نفس الوقت الأكثر تمثيلاً للأغلبية الساحقة من شعوبهم؟
هذه هي المعضلة التي تواجه عملية التغيير في المجتمعات العربية، وقد حلتها المجتمعات الأوروبية وتجاوزتها بمراحل علي الرغم من تضخم مشكلة المسنين فيها. ويرجع السبب في ذلك إلي غياب التقاليد السياسية والدستورية التي تنظم عملية تتابع الأجيال في بلادنا. وحيث مازالت التقاليد القبلية والعشائرية التي تؤسس لتراتبية عمرية يحتل فيها الشيوخ مواقع السلطة والحكم هي الأساس. وكما رأينا في العراق أخيرًا، فقد لعب شيوخ القبائل والعشائر، والمرجعيات الدينية، ومعظمهم يعتبر من فئة «شباب الشيوخ» علي أحسن تقدير أي فوق الستين، الدور الحاسم في الانتخابات وفي إقرار الدستور الذي يحدد مستقبل البلاد، بينما انصرف الشباب إلي العمليات الانتحارية وأعمال العنف والمقاومة والاستشهاد!!

متي ــ في عالمنا العربي ــ يتقاعد السياسي من السلطة؟ ومتي يدرك أن قطار التغيير قد وصل وتجاوز محطته، وأن عليه أن يهبط من مقعد القيادة بهدوء وسلاسة؟ أو بعبارة أخري متي تتاح الفرصة للأجيال الأكثر شبابًا أن تتحمل نصيبها من المسئولية؟
تتطلع المجتمعات العربية اليوم إلي فجر جديد، يتم فيه تداول السلطة ــ أفقيا ــ ليس بين القوي والأحزاب السياسية فحسب، بل ــ رأسيا ــ بين الأجيال المتتابعة، فلا يظل احتكار السلطة قصرًا علي جيل أو فئة عمرية بعينها، ولن يتحقق هذا بغير إبداع أساليب جديدة في التفكير وتقاليد عصرية في إدارة المؤسسات الثقافية والسياسية، تساعد علي مواجهة عالم متغير، لا يشيخ فيه الحكام علي مقاعدهم بحجـة احتكار الحكمة وبعد النظر، ولا تصبح أعياد الميلاد مجرد مناســـبة احتفـــالية بــدون معني أو هدف.




ليس للكاتب منصب وراتب بل قلم ومنبر

مع تحياتي وإلتزامي فارس معمر
التعديل الأخير تم بواسطة فارس معمر اسامة ; 06-07-2015 الساعة 07:50 AM