المرض النفسي
24-12-2007, 11:11 AM
المرض النفسي.
الجنون لفظ عامي متداول يشير إلى سلوك غير سوي، إذا كان سلوكا غير معقول لما يفسره و يبرره لمحيط المريض الاجتماعي. المرض النفسي يتجلى لمحيط المريض في سلوكات غير منطقية، غير معقولة بوعي لمبرر مقنع للرقيب الاجتماعي.
قد يكون سبب السلوك الغير سوي مسا من الجن، لكن ذلك سبب معقول و مفسر حيث الرقية تنفع. لك قد يكون السبب نفسي (عقلي و ليس عصبي) بكل ما يعنيه مفهوم النفس من معان، فلا تنفع الرقية حينئذ، إلا أن يعي المريض حقيقة حاله بمساعدة خبير بحقائق النفس البشرية. حينها يمكن للمريض أن يبذل جهدا واعيا لتعديل سلوكه الغير معقول و الغير مناسب لحقائق واقعه الحسي و المعنوي.
يمكننا القول أن النفس لب الشيء أو قلبه إذا توسطت الكل. إذا كان الإنسان بذاته يتشكل من بعدين، الواحد فطري (الحس) يتجسد في البدن، و الآخر مكتسب المعنى)، يتمثل في القيم و المعايير التي تلقاها الفرد من محيطه الاجتماعي منذ نعومة أظافره، النفس تشكل قلب الإنسان الذي يعقل المعنى للحس. و إن عجزت النفس عن القيام بعملية الربط تلك، نقول أنها معطوبة أو مريضة.
النفس بهذا المعنى لفظ يعبر عن البعد الذي يجمع أو يعقل البعد الفطري للبعد المكتسب، و يوفق بين مطالب البعدين في انسجام صحي.
المريض النفسي له قلب لا يعقل به.

على ضوء ما سبق، يمكننا القول أن المرض النفسي حالة عجزر عن التوفيق بين الحس و المعنى، يتسبب في هروب نفسي من تلك الوضعية المتأزمة. ذلك الهروب يأخذ أشكالا مختلفة وفق اختلاف التركيبة النفسية للأشخاص الذين يمرون بتجربة صراع بين المطالب، مؤلم، و عجز في التوفيق بين مطالب المعنى و ثوابت ما وقع في البعد الحسي.
منهم من يلجأ إلى عدم الإعتراف بالوقائع، هروبا إلى الأمام، و منهم من يعترف و لكن لا يجد حيلة إلا الإنطواء حول ذاته هروبا إلى الوراء، و منهم من يتخذ موقفا وسطا، لا هروبا إلى الأمام و لا هروبا إلى الوراء بل وقوفا و تمويها للوقائع و الأحاسيس عله يفلح في إشباع حاجته للإنسجام مع الحقائق المتضاربة.
المرض النفسي هروب من تلك الإفرازات المؤلمة الناتجة عن حركية ثنائية الإنسان الفطرية و المكتسبة المتضاربة أحيانا، و الغير مقبولة حينئذ
إذا كان هذا الهروب هروبا إلى الأمام، فقد يتخذ المريض حينئذ أي شخص بريء، ككبش فداء تباح فيه كل الضربات و المكائد، علها تخفف من ألم مجحود السبب إلى أن تستفحل العقدة
و كأن المريض يبحث حثيثا عن ذريعة لخلق مشاكل مع الآخر، عله يسلو هروبا من المشكل الأصلي، المستعصي، ليصدق بعد ردة فعل الشخص المعتدى عليه ظلما، أن كبش الفداء الذي ابتددع لنفسه هو السبب الحقيقي لبؤسه و شقائه
الهروب إلى الأمام المتمثل في اتخاذ كبش فداء عبارة عن آلية دفاع معروفة في علم النفس التحليلي، متاحة للجميع و لكن، كونها غير منطقية، غير مقبولة من طرف كل من يقاوم ألما في نفسه، يجهل أو يجحد مصدره
ليس كل مريض متألم من يختار الهروب إلى الأمام و يبرر لنفسه الظلم و العدوان على الآخر، متخذا أياه كبش فداء، و كان ذلك السلوك السحري إجراء ضروري لإبعاد الأرواح الشريرة في حضرة من السب و القذف إن لم يكن ضربا أو أبشع من ذلك
هناك من يختار الهروب إلى الوراء من خلال الانطواء على الذات عله بفك الطلسم من خلال ترصد المشاعر المرموز لها أحيانا في الأحلام، و المعبر عنها، أحيانا أخرى، في إبداعات فنية، تخفيفا للألم و بحثا عن المتفهم، أو ربما كذلك، الرجوع إلى مرحلة من مراحل الطفولة السعيدة و تقمص شخصية الأطفال في كلام و سلوك لا ينطبق على شخصهم الحقيقي. تلك الطرق لتجنب الألم غير سوية بتفاوت لأنها غير واقعية
قد تكون آلية الدفاع لا هروبا إلى الأمام و لا هروبا إلى الوراء بل في حدود الإمكان، وقوفا على معالم الألم و تسكينا له من خلال سلوكات تمويهية، هيستيرية، يشبع فيها المريض حاجته للراحة من ألم الفقدان، إشباعا خياليا ينم عن عدم الإقرار بالحقيقة، هروبا منها و رجوعا إليها بطرق مموهة وفق سلوكات رمزية تشير إليها
عدم الواقعية تلك هي التي تضفي على السلوك الهستيري طابعا مرضيا
النفس المريضة مرضت لأنها، أحيانا، لم تكن مهيأة بما فيه الكفاية، عند حدوث الأزمة النفسية لأنها لم تكن لديها القدرة الكافية لإيجاد المخرج الموفق، أو بالأحرى، القاسم المشترك، من خلال عقلنة حقائق الواقع المؤلم و قبوله كحدث وقع بمشيئة الله حيث لا حدث خارج مشيئته و إذنه
النفس المريضة، مرضت لأنها افتقرت في مرحلة ما إلى النضج الكافي للتوفيق بين التطلعات المعنوية و الواقع الحسي. أو، أحيانا أخرى، هي تمتلك تلك القدرة العقلية و لكن تكفر بما وقع، تجحده تغطيه، تكذب على نفسها و على الآخرين حتى يؤدي بها ذلك السلوك الغير مقبول من طرف محيط المريض الاجتماعي إلى تعقد الأزمة لتصبح عقدة نفسية يردم فيها سبب الأزمة الحقيقي و ينسى، ليتجلى أثره بعدها في وساوس قهرية أو سلوكات هستيرية أو غيرها من السلوكات المرضية التي تلهي المريض عن السبب الحقيقي لمعاناته. و هذا هو معنى الهروب السايكولوجي.
عدم الاعتراف بالحقائق يبعد من خيارات المريض، خيار البحث عن التوفيق بين ما يجب أن يكون في تصوره و ما هو كائن من وقائع. عدم الإعتراف بتلك الحقائق دليل على إخفاق في عقل المعنى للحس و التوفيق بينهما
المريض حين يرفض ما هو كائن، يرفض إثبات قدرة الخالق الفعال لما يريد. و كأن الشخص الراشد من هذا الصنف، إله مقابل الله يسائله عما فعل، ليثبت إرادته أو يرفضها، تماما مثل الشريك في الملك
الله يغفر الذنوب جميعا إلا أن يُشرك به
لذلك، و لأن في قلوب هؤلاء مرض، و حيث أن الشرك ظلم عظيم، زادهم الله مرضا، وفق دائرة مفرغة لا مخرج منها إلا إلى مزيد من تعقيداتها.
خلاصة القول هي أن النفس المريضة هي النفس التي لا تعقل حقائق الواقع المعنوية و الحسية لتوفق بينها، عجزا أو جحودا أو تحايلا. فتلجأ حينئذ إلى آلية دفاع تناسب حقيقة طبيعتها المؤمنة أو الكافرة أو المتذبذبة بين ذلك، و تتمثل هذه الآلية في الهروب السايكولوجي، هروبا تتجلى إخفاقاته في سلوكات غير موفقة، وساوس قهرية أو هستيريا أو غيرها من مظاهر السلوك المرضي، سلوكات غير معقولة لما يبررها من قيم و معايير المجتمع، لتتفاقم المشكلة نظرا لعدم الرضى الإجتماعي بتلك السلوكات. لكن، يبدو أن تلك الإخفاقات مفيدة في قرارة نفس المريض لأنها وسيلة دفاع متاحة، حيث تلهيه عن الحدث الأصلي المؤلم، المسبب للصراع النفسي، ليفلح في النهاية في ردمه في اللا شعور و نسيانه. لكن تلك الآلية في الدفاع لا تلغي السبب تماما. النفس المريضة تعمى عن السبب فقط و تلهو بآثاره المرضية
...الشكوى لله
الطبيب، إن وجد، استجابة
الآ بذكر الله تطمئن القلوب؟
من يعرف لا يعرف. من لا يعرف يعرف