الأشهر الأخيرة في حياة الراحل بوضياف
30-06-2016, 10:24 PM

طاهر حليسي

مراسل صحافي ومدير مكتب الشروق بولاية باتنة


بخلاف الكتابات الجزائرية الشحيحة وربما المنعدمة حول قصة 11 جانفي 1992 واغتيال الرئيس الأسبق محمد بوضياف، ألف صحفيان فرنسيان، هما ميراي ديتاي العاملة في جريدة لوبوان، المختصة في الشؤون العربية، وجان بيار ديفولي المتعاون مع لوموند ولو بوان وباري ماتش مؤلفا، تناول الأحداث السرية لقصة توقيف المسار الانتخابي والاستنجاد بمحمد بوضياف، في أسلوب صحافي لا يخلو من الروائية، وقد شكل الكتاب الصادر في عام 1994 تحت عنوان "برميل البارود الجزائري القصة السرية لجمهورية تحت التأثير" مرجعا توثيقيا استقصائيا، طبعا في غياب كتابات جزائرية مباشرة ودقيقة، عن تلك المرحلة الحساسة من تاريخ الجزائر، بالرغم من مرور قرابة ربع قرن عن أحداثها.
حلم سجن فرسنس يعود من جديد!
يؤكد المؤلفان– بيار ديفولي وميراي ديتاي- أن علي هارون اتصل بمحمد بوضياف يوم السادس من شهر جانفي، ودار بينهما الحوار التالي:
•سي محمد لدي أمر مهم للغاية أود أن أطرحه عليك؟
•بل أخبرني ما الذي سيحدث في الجزائر؟
•ليس الآن سأزورك بعد غد في القنيطرة.
وفي الليلة السابقة يروي بوضياف لزوجته أن الرؤيا التي كانت دائما تفاجئه في أحلامه غداة وجوده بالسجن الفرنسي نهاية الخمسينيات، عادت من جديد تراود أحلامه بشكل غريب. والأغرب أن ذات الحلم كان هو هو، من دون أن يتغير شيء في تفاصيله أو شخوصه.
"رأيت في المنام ضابطا فرنسيا يخرج من القاعة حزينا ليترك فجأة الباب مفتوحا وراءه، وقادني حب التطلع لأخرج أستطلع ما هو موجود خارجها، فوجدتني أمشي في رواق. رواق معتم وطويل بلا نهاية، ثم عرجت على غرفة مضاءة هي غرفة مشفى، ولمحت فتاة صغيرة تنام فوق سرير أبيض، وضع في الوسط تماما، تقدمت نحو الطفلة وبمجرد ما أمسكت يدها فتحت عينيها فأفقت من النوم".
أحس بوضياف من خلال تجدد تلك الرؤيا أن القدر يهيئ له أمرا جللا لكنه لم يتوقع البتة أن يطلب لتولي رئاسة الدولة، فذاك لم يخطر في البال، لقد قال ممتعضا حينما أخلف علي هارون الاتصال به في اليوم الموالي: "واش حاسبين رواحهم؟ أنا خدام عندي "فبريكة الآجر"، ثم إنه قطع على هارون كل محاولة ليمضي به قدما نحو عمل لا يريد مباشرته وفاجأه قائلا في مكالمة 10 جانفي:
•إذا كنت تودّ أن تزورني من أجل إنشاء حزب جديد فلا داعي لتزعج نفسك، أما إذا كنت تودّ زيارتي كصديق مثلما كنت تفعل بين الفينة والأخرى فمرحبا بك دائما.

بوضياف نصح علي هارون بإكمال الدور الثاني!
كان بوضياف يعتقد أن وراء مكالمات علي هارون المفاجئة تختبئ رغبة منحه رئاسة حزب جديد، أو تجديد جبهة التحرير الوطني، أو إحياء مشروع حزبه المحل حزب الثورة الاشتراكية، لذا حينما زاره علي هارون يوم العاشر من شهر جانفي وتناول معه وجبة الغداء في منزله بمدينة القنيطرة المغربية، كان اللقاء ثقيلا للغاية، فقد كان علي هارون مركزا على كيفية مفاتحة رجل لديه مزاج صارم وصعب بدل تناول الطعام، وبما أن الحدث كان فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الدور الأول للانتخابات فقد خاطبه بوضياف قائلا:
•ماذا ستفعلون الآن؟ العالم كله يراقب لقد صرحت الحكومة بأن الانتخابات كانت نزيهة ونظيفة، فلا يمكنكم والحال هذه مناقضة أنفسكم. لا بد من الذهاب للدور الثاني ثم لنرى ما سيحدث.
اغتنم علي هارون المقدمة السانحة ثم شرع في الإيغال برفق في الموضوع الساخن:
•إذا ما أجري الدور الثاني فإن الجبهة ستتجاوز ثلثي المقاعد هذا سيسمح لها بتغيير الدستور وتعديل مؤسسات الدولة وستصبح البلاد أمام وضع متفجر، قوامه حرب أهلية تعقب اهتزاز التوزان السياسي والاجتماعي للبلد.
لم يعقب بوضياف بل راح يتفرس بمخيلته في سيناريو الرعب، فقرر هارون أن يدق المسمار في الصلب:
•اسمع يا سي محمد، في كل الحالات لن يسمح الجيش للإسلاميين بأخذ السلطة، فقد حدثت تطورات حاسمة خلال الأسبوع المنقضي، سيعلن الشاذلي بن جديد استقالته غدا السبت فقد حصل ثمة اتفاق في هذا الشأن وقد وافق على الرحيل. سيتم إلغاء الدور الثاني لا محالة والجيش مستعد لحفظ الأمن. سنؤسس المجلس الأعلى للدولة في هيئة قيادة جماعية. وطبعا مجلس كهذا يحتاج إلى قائد يملأ هذا المركز ويلعب هذا الدور بعدما اتضح أن المجلس الدستوري لا يمكنه خلافة الرئيس بالنيابة.
لم يتحدث بوضياف بل ازدادت هواجسه كأنه ينتظر نهاية العقدة الدرامية، ذلك أن حلمه السابق واتصالات هارون المتكررة به لم تكن من وحي الخيال، فقرر هارون أن يطرق المسمار في عنف:
•إني أتحدث معك باسم الجميع إننا نطلب منك العودة إلى البلاد وتولي زمام رئاسة المجلس الأعلى للدولة!
ثار بوضياف مثل ثور هائج
عاد بوضايف .. ليموت!
-لا هذا مستحيل. ليس الأمر بوارد البتة! كيف تريدون مني أن أقبل لعب هذا الدور؟ لقد تركت البلاد منذ عشرين سنة، أنت تعرف ما معنى عشرين سنة. تخونني الوسائل الحقيقية لفهم وتقييم الأوضاع. لكن لماذا أنا بالذات وليس شخصا آخر؟ لا لا هذا مستحيل.
عقب هارون بمسحة تضفي على العرض طابع الشرعية والمسؤولية التاريخية:
- شئت أم أبيت فأنت رجل لديه رصيد تاريخي هائل وهو على فكرة ليس ملكا شخصيا لك وحدك بل هو ملك للجزائر برمتها. نحن لا نطلب منك أن تقبل على الفور، يمكنك أن تأتي إلى الجزائر في زيارة سرية تستغرق أربعا وعشرين ساعة لتعاين بنفسك الوضعية وتطالع الأمور عن كثب، يمكنك الالتقاء بالشخصيات السياسية والمسؤولين الذين تود التحادث معهم، ليس هناك محرم واحد، تعال ثم قرر.
عندما خرج علي هارون ترك بوضياف في بركان من الأفكار، حتى إنه راح لساعات يمشي في سطح دارته مثل نمر يريد التخلص من القفص، ولم يجد من منفذ سوى النزول لمهاتفة صديقه الوفي رشيد كريم الذي كان بمثابة ابنه الروحي فهو أسس معه حزب الثورة الاشتراكية بعد الاستقلال عرف المنافي التي استقرت به بفرنسا حيث كان يزاول تدريس الاقتصاد بجامعة باريسية، طلب منه الحضور إلى المغرب على عجل يوم غد السبت 11 جانفي، دون أن يكشف له أنه يوم استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد.

بوضياف مخاطبا الملحق العسكري: "قل لمسؤوليك لن أعود إلى الجزائر"!
صباح السبت 11 جانفي، عاشت الجزائر العاصمة ساعات عصيبة على وقع إشاعات حقيقية وحقائق كاذبة، فلقد وصلت أنباء بأن أمرا ما سيحدث، في هذه الليلة، انتشرت فرق للشرطة أمام مقر البرلمان، وانتصبت بعض الدبابات قرب وزارة الدفاع غير بعيد عن فندق الأوراسي، وأما سرايا حزبي جبهة التحرير الوطني وحزب جبهة القوى الاشتراكية فكانت في حالة ترقب لقادم الساعات، فقد كان عبد الحميد مهري والحسين آيت أحمد على علم بما سيأتي بعدما فضل خالد نزار مكاشفتهما بالأمر. غير أن قلق جهاز المخابرات والشرطة والجيش كان متوجها صوب جبهة الإنقاذ التي وصلتها بعض شظايا قنبلة استقالة الرئيس المتوقعة بين اللحظة والأخرى، فحدس عبد القادر حشاني أن المقصود هو الدور الثاني من الانتخابات وليس الرئيس الذي طالما كان يطالب أنصار الجبهة بذهابه رافعين شعار "مسمار جحا لازم يتنحى"، هكذا أدرك الجناح المتشدد في جبهة الإنقاذ أن "مسمار جحا هو الفيس في حد ذاته"، لذا مارسوا ضغطا رهيبا على المجلس الشوري من أجل القذف بالآلاف من الأنصار في الشوارع بمجرد إعلان استقالة الرئيس، بيد أن بعض العقلاء الملتفين حول عبد القادر حشاني، طالبوا بالتريث وعدم المغامرة وانتظار انجلاء الوضع بما أن ذهاب الرئيس هو في حد ذاته انتصار للحزب!
حينما تحولت الإشاعة إلى حقيقة في نشرة الثامنة ظهر الشاذلي بن جديد يسلم رسالته الأخيرة في يد عبد الملك بن حبيلس رئيس المجلس الدستوري الذي بدا في الصورة مشدوها أو غير مصدق لما يقع، والسبب كما يكشفه الكاتبان "أنه، أي بن حبيلس، استدعي على عجل إلى مقر الرئاسة لتصوير المشهد الأخير، مشهد لم يدم سوى خمس دقائق كانت كفيلة بمسح اثنتي عشرة سنة من حكم ثالث رئيس للجزائر".
قبالة التلفزيون جلس بوضياف مع صديقه رشيد كريم في صالة منزله بالقنيطرة يشاهدان الحدث الجلل، فصاح رشيد كريم ناصحا بوضياف:
•"لقد حشروا أنفسهم في زاوية صعبة، ويعولون عليك لإنقاذهم منها، ليس لديك ما تربحه من هذه المغامرة. على أقصى تقدير يمكنك الانتظار بعض الشيء، لأنك ستكون ملاذهم الأخير في حال انسداد الآفاق، ساعتها تكون الأقوى".
وفي ساعة متأخرة من الليل كان الرائد قاسم الملحق العسكري بسفارة الجزائر بالرباط يتحدث مع بوضياف بشأن تنظيم سفريته السرية إلى الجزائر، لكن بوضياف أسال العرق البارد لمحدثه ولجماعة العاصمة حينما قال بنبرة حادة:
•أطلب منك أن تبلغ مسؤوليك أنني قررت عدم العودة إلى الجزائر!
في الواقع أثار رفض الرجل دوارا حادا في عقل جماعة الحل والربط وحشرهم في زاوية أضيق من مسألة ذهاب الرئيس، وتراءى للجميع أن البلاد ستدخل حتما في فراغ رهيب، أسوأ بكثير من قصة ذهاب الشاذلي، ذلك أن رفض رئيس المجلس الدستوري تولي الاستخلاف بالنيابة لأكثر من أربع وعشرين ساعة تكاد تنقضي في اليوم التالي ستوحي بأن الانقلاب الدستوري المتفق عليه سيظهر في صورة انقلاب عسكري صريح أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، وعبثا حاولوا الاتصال بالرجل أربع أو خمس مرات ظهيرة الأحد دونما خبر مفرح ينهي الكابوس المزعج، ولم يتوقع أحد أن يتصل بعم بوضياف في وقت متأخر من الليل يوافق على المجيء لمعاينة الموقف. فما الذي حدث؟

فتيحة تنجح حيث فشل هارون والجنرال نزار!

لحظات بعد اغتياله
يؤكد الصحفيان الفرنسيان أن زوجة بوضياف هي التي قلبت الموقف رأسا على عقب، وكشفت لهما المعلومة قائلة: "قلت له بعدما أنهى صلاة العشاء وتعشى.. محمد لم يحدث وأن هربت في حياتك، لطالما كنت تردد أنك ستعود إلى أرض الوطن، إذا ما كانت الجزائر في حاجة إليك، أظن أن الفرصة جاءتك اليوم. اذهب إلى هناك وقدر الأوضاع بنفسك، أخشى أن ينتابك الندم يوما ما إذا لم تفعل الآن".
عندما سمع بوضياف تلك الجمل البسيطة والواضحة نهض قائما ثم نزل إلى الصالة ليتصل بالعاصمة، ويؤكد بوضياف للصحفيين ذلك قائلا: "نجحت زوجتي فتيحة بفضل منطقها المبتسم أن تقول لي بالتحديد ما كان لا وعيي الباطن يود سماعه"!

بوضياف رفض بدلات سمالوتي وقال بدلة فتيحة تكفيني!
زار بوضياف الجزائر سرا مدة 24 ساعة، كانت كفيلة له بقبول المهمة بسرعة، فقرر العودة نهائيا إلى الجزائر رفقة زوجته، وعندما وقف يستمع لنشيد قسما اختصر المشهد فيما يلي: في تلك اللحظة شعرت بتتابع هائل للأحاسيس ، لقد استرجعت نفس الشغف الذي شعرت به خلال رحلة الحج الأولى لمكة، شعرت بحب جارف لكل المحيطين بي وبآفاق رحبة تنفتح داخلي... أحسست أيضا بعلامة استفهام كبيرة بدا لي مستحيلا تحديدها".
في المشهد الختامي عرف عن بوضياف زهده الشديد في مناحي الحياة حتى إنه كان يهمل الاعتناء بنفسه كثيرا فقد كان يرتدي بدلة واحدة في الغالب وحتى إنه حينما اتصل به موظفو الرئاسة لأخذ مقاساته لتحويلها إلى المصمم الشهير سمالوتي الذي دأب على خياطة بدلات الشاذلي بن جديد من محله بباريس تساءل الرجل مخطئا في اسم المصمم "من هو زمالوطي". القدر سيحتفظ أن بوضياف قرّر لباس بدلة رمادية اشترتها له زوجته فتيحة عبر شقيقتها من مونتريال الكندية من الدار الشهيرة "سافيل رو"، لقد قال للجميع: "لا حاجة لي ببدلات سمالوتي فالبدلة التي أهدتها لي فتيحة تكفيني". تتذكر فتيحة جيدا أن البائع الكندي مدح بدلته قائلا: "لقد صممت قبل سنوات نفس الطراز من البدلات للرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات"، لذلك حينما راحت تعدل ربطة عنقه في تلك البدلة لم تبطئ في القول" ممتاز إنك تشبه أنور السادات"!
صبيحة اليوم الموالي، 29 جوان 1992، تشابهت الأقدار العجيبة، فقد اغتال الضابط لمبارك بومعرافي الرئيس محمد بوضياف على المنصة في نفس البدلة التي اغتال فيها الضابط خالد الإسلامبولي الرئيس محمد أنور السادات عام 1981 في حادثة المنصة وفي بث كاد يكون مباشرا لينتهي حلم بوضياف ورؤيته بعد حكم لم يدم سوى 166 يوم بالتمام والكمال.