معاني العقل عند الإمام ابن تيمية
07-02-2016, 02:08 PM
معاني العقل عند الإمام ابن تيمية
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:
بينما نجد مَن سُمُّوا بفلاسفة الإسلام؛ أمثال:( الكندي، والفارابي، وابن سينا) جميعًا أخذوا بآراء الفلاسفة اليونانيين في:" ماهية العقل والنفس لدى الإنسان".
لذلك شيخ الإسلام:" ابن تيمية" - رحمه الله - عندما يتحدَّث عن العقل، يذكر رأي الأقدمين من فلاسفة اليونان، ويردُّه بقوة، ويعد آراءهم حدوسًا بشرية قابلة للخطأ، بينما هو يعتمد على الوحي الإلهي الذي:[ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه].
ويأخذ العقل عند شيخ الإسلام:" ابن تيمية" - رحمه الله - معاني أربعة، نُوجِزها فيما يلي:
أ- العقل: عَرَضٌ، أو صفة في الذات العاقلة.
ب- العقل: غريزة.
جـ- العقل: علم يحصل بالغريزة.
د- العقل: عمل بالعلم.
أ- العقل عَرَض، أو صفة بالذات العاقلة:
عندما يقول شيخ الإسلام:" ابن تيمية" - رحمه الله -:" إن العقل عَرَضٌ"، فهو يعني: أنه ليس جوهرًا قائمًا بنفسه كما هو في لغة الفلاسفة اليونانيين، ويدلِّل ابن تيمية على مفهومِه هذا بآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول في كتابه:(الرد على المنطقيين):
" فالعقل في لغةِ الرسول وأصحابه وأمَّته عَرَضٌ من الأعراض، يكون مصدر عقل يعقل كما في قوله - تعالى -: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179]، وليس فيها محل الشاهد، ولعله يقصد: ﴿ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ﴾ [الحج: 46]]، ونحو ذلك.
والعقل في لغة فلاسفة اليونان:" جوهرٌ قائم بنفسه"، فأين هذا من هذا؟ ولهذا جاء في الحديث: ((فَبِكَ آخُذُ وبك أعطي، وبك الثواب وبك العقاب))، وهذا يقال في عقل بني آدم"[1].
ويقول في الفتاوى:
"إن العقل في كتاب الله وسنة رسوله وكلام الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين هو: أمرٌ يقوم بالعاقلِ، سواء سُمِّي عَرَضًا أو صفة، ليس هو عينًا قائمة بنفسِها، سواء سُمِّي جوهرًا أو جسمًا أو غير ذلك، وإنما يُوجَد التعبير باسم العقل عن الذات العاقلة التي هي: جوهر قائم بنفسه في كلام طائفةٍ من المتفلسفة الذين يتكلَّمون في العقل والنفس".[2].
ونجدُ ابنَ تيمية - رحمه الله - في تبيانِه لمعنى العقل بعيدًا عن تعقيدات الفلاسفة اليونانيين، ومَن تبِعهم من المفكِّرين المسلمين، الذين جاؤوا بتفسيرات وتعريفات للعقل بعيدة عن الفهم، وفي حقيقتها ما هي إلا:" حدوس وتخيلات أو أوهام وظنون!!؟".
وهكذا نجد أن ابن تيمية رفض العقلَ على أنه:" جوهرٌ قائم بنفسه"، ورفض كلَّ ما يقوله الفلاسفة عن العقل، وكذلك رفض وجود العقول والنفس على أنها مجرَّدات ومفارقات، ويؤكِّد:" أنها موجودة في الأذهان لا في الأعيان"[3]، وبهذا لا تكون الملائكة هي:" العقولَ والنفوس!!؟": كما يقول المشَّاؤون[4] أتباع أرسطو.
وأنكر ابنُ تيمية الأحاديث الموضوعة التي ترفع من شأن العقل إلى درجة كبيرة، ومن هذه الأحاديث الموضوعة عنده:" أول ما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبِرْ فأدبر، فقال: وعزَّتي ما خلقت خلقًا أكرم عليَّ منك، فبك آخذ وبك أعطي، وبك الثواب، وبك العقاب".[5].
ويبيِّن ابن تيمية تناقضَ ألفاظ الحديث، فالقول: ((أول ما خلق الله العقل...)) يدلُّ على أنه أول المخلوقات، والقول: ((ما خلقتُ خلقًا أكرم منك)): يدل على أنه ليس أول المخلوقات[6].
ويردُّ ابنُ تيمية على الفلاسفة اليونانيين أتباعِ أرسطو: الذين قالوا بأن العقول غير مخلوقة، وليست من مادة، بأن الملائكة والإنس والجن كلها مخلوقات لله - تعالى - ودليل ذلك ما ورد في صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجانَّ من مارج من نار، وخلق آدم ممَّا وُصِف لكم".[7].
وينقد ابنُ تيمية:" نظرية تعدُّد العقول": التي قال بها أرسطو وتبِعه ابن سينا: الذي قسَّم العقل إلى:( عقل هيولاني، وعقل بالمَلَكَة، وعقل بالفِعل، وعقل مُستفاد)، ويعدُّها من أوهام الفلاسفة!!؟.
وكذلك ينقدُ:" نظريةَ الفيض عند ابن سينا"، وخلاصتها: أن الله - سبحانه - يعقل ذاته!!؟، فيفيض عنه عقل واحد بالعدد، مُمكن بذاته، واجب الوجود بغيرِه، وعندما يعقِل هذا العقلُ مبدأه، يفيض عنه عقلٌ ثانٍ هو: العقل الكلي، وعندما يعقِل ذاته بأنه واجب الوجود بغيره: تفيض عنه نفس الفلك الأقصى، وعندما يعقل نفسه بأنه ممكن: يصدر عنه جرم ذلك الفلك، ويفيض عن العقل الكلي ثالوث مؤلَّف من عقل ونفس وفلك، وتستمر سلسلة الفيض حتى تصل إلى العقل الأخير، وهو: العقل الفعَّال، أو عقل فلك القمر، وتحت هذا العقل يوجد عالم العناصر، عالم الجزئيات الخاضعة للكون والفساد.[8].
يقول ابن تيمية ناقدًا نظرية الفيض: " إن العقولَ التي تكون دائمةَ الفيض، يلزم أن يكون كلُّ ما يصدر عنها بواسطة أو بغير واسطة، لازمًا لهذه العقول، قديمًا بقدمِها، وإذا كانت قديمة أزلية: لا يكون فعلها وإبداعها متوقفًا على استعداد أو قبول يحدث عن غيرها".
ويقول: "إذا كان وحدَه هو: الفاعل (يعني العقل) لذلك كله، امتنع أن يكون علة تامَّة أزلية مستلزمة لمعلولها؛ لأن ذلك يُوجِب أن يكون معلولُه كله أزليًّا قديمًا بقدمِه، وكل ما سواه معلول له، فيلزم أن يكون كل ما سواه قديمًا أزليًّا، وهذا مكابرةٌ للحس وقول فاسد بالضرورة"[9].
ويقول: "إن ما يقولُه ابنُ سينا وأمثاله في: أن العالَم صدَر عن ذاتٍ بسيطة لا يقوم بها صفة ولا فعل، وأن قوله بأن العلة الواحدة البسيطة ينتج عنها معلولات كثيرة، هو: قولٌ ممتنع عن صريح العقول، ومهما أثبتوا من الوسائط كالعقول وغيرها، فيبقى هذا القول باطلاً"[10].
وهكذا نجد ابن تيمية نافيًا كل أقوال الفلاسفة اليونانيين ومَن تبعهم من المسلمين: مؤكِّدًا أن آراءهم ونظرياتهم موجودةٌ في الأذهان لا في الأعيان؛ أي هي: عبارة عن ظنون وأوهام وحدوس، ليس لها وجود في عالم الواقع المحسوس، ومؤكدًا صحة العقيدة الإسلامية البعيدة عن الظنون الفاسدة والأوهام الفلسفية الناقصة.
ب- العقل غريزة:
أي: إن العقل فطريٌّ في الإنسان، وهَبه الله له لكي يُدرِك ويتعلَّم ويعمل، ولم يكتسِبْه اكتسابًا بعد الولادة، وهذا المعنى للعقل قال به كلٌّ من الإمام أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي - رحمهما الله.
يقول ابن تيمية في كتابه: (الرد على المنطقيين)[11]:" وقد يراد به (أي العقل) الغريزةَ التي في الإنسان، كما قال الإمام أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما: "إن العقل غريزة".[12].
ويقول ابن تيمية أيضًا في الفتاوى:
"وقد يُرادُ بالعقل: نفس الغريزة التي في الإنسان، التي بها يعلم ويميِّز، ويقصد المنافع دون المضار، كما قال أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما: "العقل غريزة"، وهذه الغريزة ثابتة عن جمهور العقلاء، كما أن في العين قوَّة بها يبصر، وفي اللسان قوة بها يتذوَّق، وفي الجلد قوة بها يلمس"[13].
ويقول أيضًا في موضع آخر من الفتاوى مؤكِّدًا على وظيفة العقل التي ينال بها الإنسان العلم والعمل:
" العقلُ: الغريزة التي جعلها الله في العبد، التي ينال بها العلم والعمل"[14].
ج- العقل علم يحصل بالغريزة.
د- العقل علم بالعلم.
وقد يراد بمعنى العقل أيضًا عنده: العلم الضروري الذي يحصله الإنسان، ويطلق أيضًا على العمل بهذا العلم، لا العمل بلا علم، يقول - رحمه الله -:
" ثم من الناس مَن يقول: العقل هو علوم ضرورية، ومنهم مَن يقول: العقل هو: العمل بموجب تلك العلوم، والصحيح: أن اسم العقل يتناول هذا وهذا"[15].
ويؤكِّد ابنُ تيميَّةَ هذا المعنى في موضعٍ آخرَ من فتاواه، من: أن العقل هو: العلم الذي يعمل به لا مجرد العلم، وهو العمل بالعلم، لا العمل بلا علم.
يقول: " فالعقل لا يسمَّى به مجرد العلم الذي يعمل به صاحبه، ولا العمل بلا علم، بل إنما يسمى به العلم الذي يعمل به، والعمل بالعلم؛ ولهذا قال أهل النار: ﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10][16].
والعلم بهذا الاعتبار: أشرفُ من مسمَّى العقل، فإن مسمَّى العلم هنا: كلام الله - تعالى - وكلام الله أشرف من الغريزة التي يشترك فيها المسلم والكافر[17].
ومن العلوم ما لا يدرك بالحواس، فتسمَّى العلوم المسموعة، وقد تسمى هذه عقلاً أيضًا، يقول ابن تيمية: "وأيضًا قد تسمَّى العلوم المسموعة عقلاً؛ كما قيل:
رأيتُ العقلَ عقلينِ[IMG]file:///C:\Users\INVIT~1\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\0 1\clip_image002.gif[/IMG]
فمطبوعٌ ومسموعُ[IMG]file:///C:\Users\INVIT~1\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\0 1\clip_image002.gif[/IMG]
فلا ينفع مسموع[IMG]file:///C:\Users\INVIT~1\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\0 1\clip_image002.gif[/IMG]
إذا لم تكُ مطبوعُ[IMG]file:///C:\Users\INVIT~1\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\0 1\clip_image002.gif[/IMG]
كما لا تنفعُ العينُ[IMG]file:///C:\Users\INVIT~1\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\0 1\clip_image002.gif[/IMG]
وضوءُ الشمسِ ممنوعُ[18] [IMG]file:///C:\Users\INVIT~1\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\0 1\clip_image002.gif[/IMG]
ويرى شيخ الإسلام:" ابن تيمية" - رحمه الله -: أن العمل بالعلم هو: الأغلب في مسمى العقل عند السلف، يقول: فمطبوعٌ ومسموعُ[IMG]file:///C:\Users\INVIT~1\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\0 1\clip_image002.gif[/IMG]
فلا ينفع مسموع[IMG]file:///C:\Users\INVIT~1\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\0 1\clip_image002.gif[/IMG]
إذا لم تكُ مطبوعُ[IMG]file:///C:\Users\INVIT~1\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\0 1\clip_image002.gif[/IMG]
كما لا تنفعُ العينُ[IMG]file:///C:\Users\INVIT~1\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\0 1\clip_image002.gif[/IMG]
وضوءُ الشمسِ ممنوعُ[18] [IMG]file:///C:\Users\INVIT~1\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\0 1\clip_image002.gif[/IMG]
"وأما العمل بالعلم، وهو: جلب ما ينفع الإنسان، ودفع ما يضره بالنظر في العواقب، فهذا هو الأغلب على مسمى العقل في كلام السلف والأئمة، كالآثار المروية في فضائل العقلاء".[19].
بقلم الدكتور:" فهمي قطب الدين النجار".
هوامش:
[1] الرد على المنطقيين لابن تيمية ص 276، وهو جزء من حديث موضوع، سيورده ابن تيمية في الصفحة الآتية.
[2] فتاوى الرياض 9/271.
[3] الرد على المنطقيين ص 278.
[4] المشَّاؤون: أتباع الفيلسوف اليوناني أرسطو، وسُمُّوا بالمشائين؛ لأنهم كانوا يتحاوَرون في الفلسفة وهم يمشون.
[5] ذكر الدارقطني أنه حديث موضوع، وضعَّفه ابن حبان، والعُقَيلي، وابن الجوزي، وغيرهم؛ ارجع إلى المرجع السابق ص 197.
[6] المرجع السابق ص 197.
[7] الرد على المنطقيين ص 198، وانظر أيضًا: منطق ابن تيمية ومنهجه الفكري، د. محمد حسني الزين - المكتب الإسلامي 1399هـ/ 1979م، ص 186.
[8] انظر: رسالة في معرفة النفس الناطقة، لابن سينا، تحقيق د. أحمد فؤاد الأهواني 1952، ص 189.
[9] منهاج السنة لابن تيمية، تحقيق/ محمد رشاد سالم 1/105 - مكتبة دار العروبة - القاهرة: 1382هـ/ 1963م.
[10] المرجع السابق 1/126 - 127.
[11] ص 276، وانظر أيضًا: الاستقامة لابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم - ط جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1401هـ/1981م 2/161.
[12] يقول الحارث المحاسبي في مائية العقل مخطوط ص 105: "إن العقل غريزة وضعها الله - سبحانه - في أكثر خلقه، لم يطلقها عليها العباد ولا يعرف إلا انفعالها في القلب والجوراح".
[13] فتاوى الرياض 9/287.
[14] المرجع السابق 9/305.
[15] المرجع السابق 9/287، وانظر أيضًا: درء تعارض العقل والنقل 9/21.
[16] فتاوى الرياض 9/286 و287.
[17] درء تعارض العقل والنقل 9/122.
[18] درء تعارض العقل والنقل 9/122.
[19] درء تعارض العقل والنقل 9/122.