مقتل توران شاه وأزمة الحكم
10-07-2016, 01:38 PM




كان توران شاه الأيوبي شخصية عابثة! فلقد اتصف هذا السلطان الشاب بسوء الخلق، والجهل بشئون السياسة والحكم، وأعماه الغرور الذي ركبه بعد النصر على لويس التاسع ملك فرنسا عن رؤية أفضال ومزايا من حوله، فقد بدأ من ناحية يتنكر لزوجة أبيه شجرة الدر، واتهمها بإخفاء أموال أبيه، بل وهددها بشدة حتى دخلها منه خوف شديد، ومن ناحية أخرى لم يحفظ للمماليك جميل الانتصار الرائع الذي حققوه في موقعة المنصورة، فبدأ يقلل من شأنهم، ويقلص من مسئولياتهم، وبدأ على الجانب الآخر يعظم من شأن الرجال الذين جاءوا معه من حصن كيفا، وبدا واضحًا للجميع أنه سيقوم بعمليات تغيير واسعة النطاق في السلطة في مصر.

كل هذا في غضون الأشهر الثلاثة الأولى في مصر! وبعد موقعة فارسكور مباشرة.

خافت شجرة الدرّ على نفسها، وأسرت بذلك إلى المماليك البحرية، وخاصةً فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس، وكان المماليك البحرية يكنون لها كل الاحترام والولاء لكونها زوجة أستاذهم الملك الصالح، وكانت علاقة الأستاذية هذه من القوَّة بحيث تبقى آثارها حتى بعد موت الأستاذ.. ثم إن شجرة الدرّ قد وجدت الوساوس نفسها في نفوس المماليك البحرية في ذات الوقت؛ ومن ثَمَّ اجتمع الرأي على سرعة التخلص من «توران شاه» قبل أن يتخلص هو منهم.. فقرروا قتله!

والحق أن المماليك بصفة عامَّة كان عندهم تساهل كبير في الدماء.. فكانوا يقتلون «بالشك!».. فإذا شكوا في أحد أنه «ينوي» أن يغدر فإن ذلك يعتبر عندهم مسوغًا كافيًا للقتل، ولا أدري كيف كان هذا التساهل عامًا في حياة المماليك، فقد ظل هذا التساهل في الدماء في كل فترات دولة المماليك، وكم من أمرائهم، وكم من خصومهم، بل كم من عظمائهم قُتل بسبب الشك في نياته، وقد يكون هذا راجعًا إلى التربية العسكرية الجافة التي نشأ عليها المماليك، فكانت فيهم قسوة نسبية وشدة، وعدم تمييع للأمور، فهم يحبون حسم كل أمورهم بالسيف الذي يحملونه منذ نعومة أظفارهم.. غير أن الذي لا يُفهم هو أن هؤلاء المماليك كانوا -أيضًا- ينشئون على التربية الدينية والفقهية.. ولا أدري أي سند فقهي يعضد قتل رجل ما، حتى ولو غلب على الظن أنه سيقوم بعزلك أو «احتمال» قتلك!

المهم أنه في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والتدبيرات الخفية لم يكن يُستهجن أمر هذا القتل، حتى لتجد أن القاتل قد يفخر أمام الناس بقتله لخصمه، بل قد يصعد وهو مرفوع الرأس إلى كرسي الحكم، ولا يشعر بأي تأنيب للضمير، وكأن الدماء التي تسيل ليس لها وزن عند الله عز وجل، ولا عند الناس.

هذا ليس دفاعًا عن «توران شاه» أو عن أي قتيل غيره، فقد يكون القتيل شخصية عابثة سيئة كريهة، ولكن العقوبات في الإسلام تأتي بمقاييس معينة وبمقادير خاصة.. وهذه المقاييس لم نحددها نحن، بل حددها رب السموات والأرض.. فالسارق وإن كان مجرمًا سيئًا كريهًا فإنه لا يُقتل لمجرد السرقة بل تقطع يده، والزاني غير المحصن وإن كان قد أتى بفعلة مشينة، وقام بعمل شنيع فإنه يُجلد ولا يُرجم وهكذا.

ولا أعتقد أن الوساوس التي كانت تدخل نفوس بعض المماليك من غيرهم كانت مسوغًا شرعيًا كافيًا للقتل.. نعم قد تكون مسوغًا شرعيًا للعزل أو الاعتراض أو الحبس.. لكن الوصول إلى حد القتل أمر كبير جدًّا.

لقد رفض عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقتل عبدًا مجوسيًا غير مسلم مع عظم شكه في أن العبد سيقتله، فقد كان العبد المجوسي «أبو لؤلؤة» يعيش في المدينة، ويكره «عمر بن الخطاب» كراهية شديدة، وعمر رضي الله عنه هو «أمير المؤمنين» آنذاك، وكان عمر يعلم منه هذه الكراهية، لكنه لم يفكر في قتله أو حبسه أو ظلمه بأي صورة من صور الظلم، لأن الأمر مجرد شك لم يرتكز على يقين.

بل روى «ابن سعد» في (الطبقات الكبرى) بسند صحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لهذا المجوسي ذات يوم: ألم أحدث أنك تقول: لو أشاء لصنعت رحى تطحن بِالرِّيحِ (وكان المجوسي صانعًا ماهرًا(، فالتفت إليه المجوسي عابسًا، وقال: «لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها»، وقد قال هذه الكلمات بلهجة جعلت عمر يُقبل على من معه، ويقول: توعدني العبد[1]!

فعمر رضي الله عنه شك شكًا كبيرًا أن هذا العبد يتوعده بالقتل، و«عمر» رضي الله عنه ليس ككل المسلمين.. إن شكه يقترب من يقين الآخرين، فهو الملهم الذي كان القرآن ينزل موافقًا لرأيه في كثير من المسائل.

ومع ذلك فعمر رضي الله عنه لم يعتمد شكه قط في قتل -أو حتى حبس- «العبد المجوسي»، الذي ليس من المسلمين أصلًا، لكن تحريم الظلم، وإرساء العدل أصل من الأصول لا فرق فيه بين المسلم وغير المسلم.

{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة: 5].

وسبحان الله! صدق ظن عمر رضي الله عنه، ومرت الأيام، وقَتل العبد المجوسي «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه، ولكن ذلك لم يغيّر من القاعدة الإسلامية شيئًا.. فلا يقتل أو يحبس، أو تقام عقوبة ما، ولو صغرت على رجل أو امرأة، أو حر أو عبد، أو غني أو فقير، إلا بدليل.. ودليل قوي ظاهر متفق على وضوحه.

{إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا}[يونس: 36].

بل حدث مع «علي بن أبي طالب» رضي الله عنه ما هو أعجب من موقف «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه، فعمر كان يشك في أبي لؤلؤة المجوسي، وكان هذا قبل أي محاولة للقتل.. أما «علي بن أبي طالب» رضي الله عنه فلم يأمر بقتل الذي طعنه فعلاً - وهو «عبد الرحمن بن ملجم» - إلا حينما يتيقن المسلمون أن عليًا رضي الله عنه قد مات، وهنا يقتل القاتل بسبب قتله لعلي رضي الله عنه، أما إذا لم يمت علي رضي الله عنه فلا يقتل!

قال علي بعد أن طعنه «عبد الرحمن بن ملجم»: «النفس بالنفس، إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي».

ثم أوصى أولاده، وأقاربه قبل أن يموت، فقال: «يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين، تقولون: «قُتل أمير المؤمنين، قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يُقتلن إلا قاتلي، انظر يا «حسن» إن أنا مت فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثل بالرجل، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إياكم والمثلة، ولو أنها بالكلب العقور»[2].

هذا هو الإسلام، ومع كون بعض البشر تقبل نفوسهم أن يعذبوا غيرهم من الناس بجريمة أو دون جريمة.. فإن الإسلام يحرم المثلة بالكلب العقور!

مقتل «توران شاه»:
اتفقت شجرة الدرّ مع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس وغيرهما من المماليك الصالحية البحرية على قتل «توران شاه»، وبالفعل تمت الجريمة في يوم 27 من المحرم سنة 648 هجرية، أي بعد سبعين يومًا فقط من قدومه من حصن كيفا واعتلائه عرش مصر! وكأنه لم يقطع كل هذه المسافات لكي «يحكم» بل لكي «يُدفن»[3]!

وهكذا بمقتل «توران شاه» انتهى حكم الأيوبيين تمامًا في مصر.. وبذلك أغلقت صفحة مهمة من صفحات التاريخ الإسلامي.

المماليك يفكرون في الحُكم:
حدث فراغ سياسي كبير جدًّا بقتل توران شاه، فليس هناك أيوبي في مصر مؤهل لقيادة الدولة، ومن ناحية أخرى فإن الأيوبيين في الشام ما زالوا يطمعون في مصر، وحتمًا سيجهزون أنفسهم للقدوم إليها لضمها إلى الشام، ولا شك أنه قد داخل الأيوبيين في الشام حنق كبير على المماليك لأنهم تجرءوا وقتلوا أيوبيًا.. ولا شك -أيضًا- أن المماليك كانوا يدركون أن الأيوبيين سيحرصون على الثأر منهم، كما أنهم كانوا يدركون أن قيمتهم في الجيش المصري كبيرة جدًّا، وأن القوَّة الفعلية في مصر ليست لأيوبي أو غيره إنما هي لهم، وأنهم قد ظُلموا بعد موقعة المنصورة وفارسكور؛ لأنهم كانوا السبب في الانتصار ومع ذلك هُمّش دورهم.

كل هذا الخلفيات جعلت المماليك -لأول مرة في تاريخ مصر- يفكرون في أن يمسكوا هم بمقاليد الأمور مباشرة! وما دام «الحكم لمن غلب»، وهم القادرون على أن يغلبوا، فلماذا لا يكون الحكم لهم؟!

لقد استُخدم المماليك في مصر من أيام الطولونيين، والذين حكموا من سنة 254 هجرية إلى سنة 292 هجرية، يعني قبل هذه الأحداث بحوالي أربعة قرون كاملة، وكذلك استُخدموا في أيام الدولة الأخشيدية من سنة 323 هجرية إلى سنة 358 هجرية، واستُخدموا -أيضًا- في أيام الفاطميين الشيعة الذين حكموا من سنة 358 هجرية إلى زمان صلاح الدين الأيوبي، حيث انتهت خلافتهم في سنة 567 هجرية (ما يزيد على قرنين كاملين).. واستُخدِموا -أيضًا- وبكثرة في عهد الأيوبيين كما رأينا.

وفي كل هذه الفترات كان الجيش يعتمد تقريبًا على المماليك، ومع ذلك لم يفكروا مطلقًا في حكم ولا سيادة، بل كانوا دائمًا أعوان الملوك، وما كانت تخطر على أذهانهم فكرة الملك قط لكونهم من المماليك الذين يباعون ويشترون، ولم تكن لهم عائلات معروفة ينتمون إليها، ولا شك أن هذا كان يشعرهم بالغربة في البلاد الجديدة التي يعيشون فيها، كما أن الخطر لم يكن يمسهم شخصيًا؛ فهم تبع للسلطة الجديدة، ولا يُستهدفون لذواتهم، أما الآن فالمؤمرات تدبر لهم، والدائرة ستدور عليهم، والملوك ضعفاء، والقوَّة كلها بأيدي المماليك.. فلماذا لا يجربون حظهم في الحكم؟!

لكن صعود المماليك مباشرة إلى الحكم سيكون مستهجنًا جدًّا في مصر، فالناس لا تنسى أن المماليك -في الأساس- عبيد، يباعون ويشترون، وشرط الحرية من الشروط الأساسية للحاكم المسلم.. وحتى لو أُعتقوا فإن تقبُّل الناس لهم (كحُكَّام) سيكون صعبًا.. وحتى لو كثرت في أيديهم الأموال، وتعددت الكفاءات، وحكموا الأقاليم والإقطاعات، فهم في النهاية مماليك.. وصعودهم إلى الحكم يحتاج إلى حجة مقنعة للشعب الذي لم يألفهم في كراسي السلاطين.

فماذا يصنع المماليك لمواجهة كل هذه الأمور؟
هذا ما نتعرف عليه في المقال القادم بإذن الله.

[1] ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/345
[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3/256، 257.
[3] ابن كثير: البداية والنهاية 13/208.



د/ راغب السرجاني