أيها الأئمة.. تخفيف في تمام
18-02-2018, 09:13 AM


قال مُصَلٍّ:

أصلح اللهُ الإمامَ!

لقد طَوَّل في صلاته حتى كدنا نتساقط!

رَدَّ عليه آخر:

بل أراه قد اختصر، وكان ينبغي أن يُطيل أكثر من ذلك!

ألست تقف بالساعات في أمور معاشك ولهوك؟

أكثيرٌ على الله أن تقف له هذه الدقائق؟!

قال ثالثٌ:

بل ما أروع ما فعل! إن قراءته ليست بالطويلة ولا بالقصيرة!

دخل في الحوار رابع يُؤَيِّد الأول:

لكن يا إخواننا ليس كلنا شباب يتحمَّل!

وأين نُصَلِّي إن طَوَّل بنا الإمام؟

دخل هنا خامس يُؤَيِّد الثاني:

يا أخوة يا كرام لماذا الاختلاف؟

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بالأعراف كلها، وما يتكلَّم أحد!

وجذب الحوارُ سادسًا، أتى ليدعم الثالث:

الحقُّ إن إمامنا يعرف السُّنَّة، وقراءته -فيما أرى- مناسبة!

هذا نموذج من حوار متكرِّر بشكل أو آخر في مساجدنا، فقَلَّ أن تجد المُصَلِّين متَّفقين على قراءة الإمام، وجُلُّهم يختلفون حول القدر المناسب في القراءة في الصلوات الجماعية؛ ففريق يرى التخفيف لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر به، وفريق يرى أن المسلمين يقضون أوقاتًا طويلة في عملٍ أو لهوٍ أو نومٍ، فإذا جاء وقت الصلاة حرصوا على التخفيف! فأين الصواب في ذلك؟

الصواب هو ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتباع سُنَّته كفيل بأن يُخرجنا من هذا الجدل، والتخفيف كما نعلم سُنَّة ثابتة، وله أدلَّة كثيرة؛ فمنها ما جاء عَنْ أبي مسعود الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلَانٌ. فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ المَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الحَاجَةِ»[1]. وعن عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رضي الله عنه، قَالَ: «آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَمَمْتَ قَوْمًا، فَأَخِفَّ بِهِمُ الصَّلَاةَ»[2].

وواضح من الروايات أن المقصود بالتخفيف هي صلوات الجماعة؛ أمَّا صلاة المسلم الفردية في بيته فليفعل فيها ما يشاء؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ»[3].

فهذه الأنواع التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذين يرغبون في التخفيف لا تخلو منهم صلاة، فهناك دومًا كبير في السن، أو مريض، أو امرأة ترعى أطفالًا، أو صاحب حاجة..

ولكن تبقى مشكلة! وهي أن مسألة التخفيف أمرٌ نسبي؛ فمعظم الناس لا يدرون ماذا يعني التخفيف؟! إن قراءة سورة الأنفال مثلًا في العشاء تخفيفٌ لمن كان يُريد القراءة بالبقرة أو آل عمران! وقراءة سورة الضحى تطويلٌ لمن كان يريد الصلاة بالإخلاص أو الكوثر! فما حلُّ المعضلة؟!

الحلُّ هو العودة إلى المقياس النبوي للتخفيف والتطويل، ولا ينبغي لنا هنا أن نعود إلى حديث واحد؛ إنما إلى أحاديث كثيرة، ومواقف متعدِّدة، ومجموع هذه المواقف يُعطينا انطباعًا عن الحدِّ المطلوب في القراءة؛ الذي يُحَقِّق التخفيف دون الإخلال بخشوع المُصَلِّين.

و المؤكَّد أنه كان يُنَوِّع في القراءة، فيُطوِّل أحيانًا، ويُقَصِّر أخرى، ليُبَيِّن للمسلمين الحدود التي يمكن أن يتحرَّكوا خلالها، وواضح أن الأمر فيه سعة، وأن مراعاة أحوال المـُصَلِّين شيء ضروري للغاية، ولئن تحيَّر الإمام في طول الصلاة فبالغ في تقصير وقت القراءة فهذا أفضل له من مبالغته في التطويل؛ فالصلاة صحيحة في كل الأحوال؛ لكنها قد تكون مُنَفِّرة للبعض إذا زادت جدًّا عن توقعاتهم، ويحسن أن نختم هذا الفصل بذكر موقف من مواقف السيرة النبوية يُعَلِّمنا أن الإمام لا بُدَّ أن يحرص حرصًا بالغًا على المأمومين؛ فعن أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا، قَالَ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا. فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالكَبِيرَ وَذَا الحَاجَةِ»[4]. ففي هذا الموقف دلالات كثيرة على أن الأَوْلَى بالإمام أن يميل إلى جانب التخفيف عنه إلى جانب التطويل إن لم يستطع تحديد الأنسب؛ فأولًا لم يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن قدر القراءة التي سَمَّاها الشاكي تطويلًا؛ إنما عَذَرَه وعَنَّفَ الإمامَ دون سؤال، دلالة على أهمية رعاية حال المأموم الضعيف، وثانيًا كانت الصلاة الموصوفة في الحديث هي صلاة الغداة؛ أي الصبح، وهي أكثر الصلوات طولًا في القراءة، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن الإطالة حتى في صلاة الصبح فالنهي عن الإطالة في الصلوات الأخرى أَوْلَى، وثالثًا كان غضبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم شديدًا جدًّا عندما عَلِم بهذا الأمر، لدرجة أن أبا مسعودٍ رضي الله عنه اعتبر أن هذه أشد درجات غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تُنْقَل عنه -صلى الله عليه وسلم- على الناحية الأخرى هذه الدرجة من الغضب لتخفيف أحد الأئمة للقراءة، فعُلِمَ أن التطويل في القراءة أخطر من التخفيف، ورابعًا بَيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم العِلَّة من وراء التخفيف؛ فذكر صورًا من الناس قد تكون معذورة في عدم حضور صلاة الجماعة أصلًا، ومع ذلك فهو لم يأمر هؤلاء الضعفاء بتحمُّل تبعات رغبتهم في حضور صلاة الجماعة مع عذرهم، إنما ألزم الإمامَ باحترام وجودهم، والتخفيف لأجلهم، وحيث إنه لن يخلو مسجدٌ من شيخ كبير، أو مصلٍّ مريض، أو صاحب حاجة، لَزِمَ الإمام أن يُخَفِّف في كل أحواله، ولم يلزم المأموم أن يبحث عن مسجدٍ تُخَفَّفُ فيه الصلاة.

إن كل ما سبق يُؤَكِّد أن الأصل في الأمر هو التخفيف، وكانت هذه هي سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى آخر أيام حياته؛ ولقد قال عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ رضي الله عنه: كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَمَّرَنِي عَلَى الطَّائِفِ قَالَ لِي: «يَا عُثْمَانُ تَجَاوَزْ فِي الصَّلَاةِ، وَاقْدِرِ النَّاسَ بِأَضْعَفِهِمْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَالصَّغِيرَ، وَالسَّقِيمَ، وَالْبَعِيدَ، وَذَا الحَاجَةِ»[5]..

حقًّا..

ما أرحم أن نَقْدِر الناس بأضعفهم!

ثم ما أجمل أن نختم بتوصيف عائشة رضي الله عنها لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنَ الْآخَرِ، إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا، كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ»[6].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] البخاري: كتاب العلم، باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، (90)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، (466).

[2] مسلم: كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، (468).

[3] البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، (671)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، (468).

[4] البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود، (670)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، (466).

[5] ابن ماجه (987)، وأحمد (17939)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. وابن خزيمة (1608).

[6] البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، (3367)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله، (2327).

هذا المقال من كتاب كيف تخشع في صلاتك للدكتور راغب السرجاني