العرب والتيه السياسي
11-07-2015, 10:17 AM
العرب والتيه السياسي
قبل مدة ليست بالطويلة تنادي العرب ــ أو بالأحري نودوا ربما مجبَرين ــ إلي قمتهم السنوية التي يتصادف ــ وهي للمفارقة التاريخية مصادفة سنوية ــ أن تتزامن مع مناسبة هي الأكثر التباسًا في الضمير العربي في تاريخنا الحديث؛ الحرب علي العراق. والتي أدت في نهاية المطاف ليس فقط إلي سقوط عاصمة العرب الشرقية، وإنما إلي زلزال بلغ من عنفه أن غباره ــ رغم مرور كثير من السنين ــ مازال كثيفًا يغطي الأفق، ويحجب المسافات المفترضة بين كثير من المفاهيم التي ظلت مستقرة لعقود. مضيعًا معالم طرق كانت بداياتها قد تاهت أصلاً من تحت أقدام العرب الذين لم يدركوا مبكرًا أنهم يدلفون إلي ألفية ثالثة لها بحكم تطور التاريخ قوانين جديدة؛ غالبة وحاكمة.

قبل خمسة عشرة عاما كاملة، ومع بداية قرن جديد، ولم تكن النيران قد لونت الأفقَ العراقي بعد، رغم سنوات الحصار ومناوشات الصواريخ والطائرات، كتب «هيكل» «نهايات طرق «ولسوء الحظ أن الطرق تبدو عند نهاياتها.. وكأنها وصلت إلي تيه لا يظهر عليه أفق أنه مع بداية هذا القرن الجديد الحادي والعشرين فإنه يبدو أن العربي أصبح هو التائه، وهو صدي بالمقلوب لتعبير شائع قبل ذلك قرونًا عن اليهودي التائه أنه في قرن سبق، فإن ذلك اليهودي التائه وجد لنفسه مكانًا حط فيه رحاله، وحصن موقعه. وفي الوقت نفسه فإن العربي اختلطت عليه الأمور، وبدا وكأنه ضيعَ عالمه وفيه تراثه ومستقبله، ثم إنه ارتحل بحاضره تائهًا بين الحقيقة والوهم، وبين الرؤية والسراب، وبين الحلم والعجز
وهكذا بدأ القرن الحادي والعشرون.. واليهودي الذي كان تائهًا بات متحصنًا في المشروع الصهيوني علي أرض فلسطين، في حين أن العربي الذي كان راسخًا في الطبيعة والتاريخ، أصبح هو الشارد في التيه: قد يعرف من أين؟ ــ لكنه لا يعرف إلي أين؟!
***
مرت خمسة عشرة عاما عصفت فيها الرياح العاتية بأوضاع بدت أبدية. ومرت في الأنهر كثير من المياه والدماء.. والأفكار. وبات واضحًا أن بعضًا من الأعاصير إنما استهدف «البناء العربي» ذاته، والذي رأي راسموا الخرائط الجديدة، أن لا مكان له في نظام إقليمي جديد. وفي أجواء ما بعد الأعاصير تلك المثقلة بالغموض والمرتبكة بالقلق، ذهب العرب (بعضهم) إلي قمم كثيرة فماذا جري؟

في حين انشغل العرب ــ مختلفين ــ باختيار من يتولي منهم تسويق مبادرتهم القديمة الفاشلة والتي لاتساوي الحير الذي كتبت به في كثيرا من الأحيان والتي تقاعسوا ا ضعفًا أو افتقارًا للإرادة ــ عن دفعها إلي الواجهة، انشغل الإسرائيليون «بالعمل علي الأرض» والبناء الفعلي وحدة سكنية جديدة توسيعًا لمستعمرات ضواحي القدس.
وتاركين لجماعة «الأملَ الكاذب» في تنفيذ تفاهمات شرم الشيخ، بات واضحًا ــ علي الأرض ــ أن الأمر ليس أبدًا كما هلل له البعض وقتها. ولا عزاء لمسكنات التفاهمات في شرم الشيخ، ولا شيء غير ذلك.
والحال هكذا، كان طبيعيا ألا تتطلع الجماهير العربية المحبطة إلي شاشات التليفزيون ألاإذاكانت هناك ثورة او حراك شعبي
هل صورة الواقع العربي بهذه الكآبة؟
ربما لا يكون هذا صحيحًا علي إطلاقه. فهناك دائمًا بارقة أمل. والحاصل أننا لا نستطيع أن نقرأ أوراق العرب إلا إذا وضعناها علي نفس الطاولة مع رد الفعل الإسرائيلي ــ وربما الأمريكي أيضًا ــ عليها.

علق احد القادة الإسرائليين على الحامعة العربية بأنها «كيانٌ مهترئ«.. لم يستوعب المتغيرات علي الأرض.. ومازال يتحدث لغة الماضي».
الإسرائيلي بلغة الماضي.. وما هي المتغيرات التي يتحدث عنها؟
أن المجتمعين في القمم «لم يأتوا بجديد» لأنهم مازالوا يحاولون تسويق أفكارهم القديمة التي قبل سنوات.
ولاجديد في القمم إذن ــ وما نشكرها عليه ــ هو عدم خروجهم بجديد، كان الآخرون ينتظرونه منهم أو يدفعونهم إليه.

إن الحركة البادية في المنطقة تحركها أحداث محلية ، يري آخرون «الظل الأمريكي» في خلفية الصورة دائمًا. إن لم يكن بالتخطيط والتدبير لأحداث بدت عفوية، فبالضرورة بالاستفادة منها ودفع تيارها نحو مجرى معد سلفًا.
كأنما هو قدر «العربي التائه» بعد أن وضعته إنتكاسة الربيع الرعربي «مطرقة المحتل وسندان الطاغية». فها هو اليوم قبل أن يتمالك نفسه ويتعافي فكريا، يوضع أمام اختيار آخر صعب: افتئاتٌ علي «مواطنته» في الداخل أو مقايضةٌ علي «وطنيته» من الخارج.

كأنما هما شقا رحي. وكأنما مكتوبٌ عليه ــ إذ يبحث عن حريته ــ أن يختار بين مستبدٍ مضيعٍ لها أو متكسبٍ بائع لها.. أو أن ينتظرَ «في نهاية النفق» من يأتي له بها مقايضًا.
ونخشي أنه في الغابات الكثيفة لنظام عالمي جديد، وفي غياب واضح لسياسات كما لسياسيين بحجم الآمال والتحديات، يتوهُ العرب ــ أو بالأحري نظامُهم الإقليمي ــ بين «جماهيرية» المتجاوزة، وحنكة الذين آثروا الاختفاء بالغياب، وبين سياسات المراهنة والصفقات، محافظةً علي الأنظمة لا علي غيرها.. في حين يعلم مرتادو الغابات من صيادين ورحالة أن لا مراهنة ــ هناك ــ تضمن الحفاظ علي الأمن. ولا صفقةً تنفع مع الثعالب أو الضباع أو الأسود.

يميل الصحفيون عادة إلي إنهاء تقاريرهم السنوية حول القمة بالسؤال التقليدي حول ما إذا كانت تلك هي آخر القمم؟ والإجابة شديدة البساطة. فرغم ما يبدو أنه استجداءٌ سنوي للأمين العام «لحق الجامعة علي العرب»، ورغم أنه قد لا يكون في «الأنظمة العربية» ما يغري بالدفاع عنها، إلا أن دروس التاريخ تقول إن في «النظام العربي» ما يستوجب التمسك به. وفي أجواء ما يبدو «سايكس بيكو» جديدة.. يصبح الواجب «فرض عين».

نشكر للعائدين من القمم «ذهابَهم». ونعلم أن هذا ــ علي الأقل ــ أضعف الإيمان. ولكننا نعلم أيضًا أن «البوصلة» هي أول ما يبحث عنه التائهون في صحراءٍ غابت معالمُها، أو غابةٍ تكاثفت أغصانُها لتحجب الشمسَ ومعالمَ الطريق. ويعرف الفيزيائيون، فضلاً عن المجربين، أن البوصلة لا تدلُ علي طريق أو اتجاهات صحيحة، إلا إذا توافر لحركتها شرطٌ واحدٌ فقط:.. الحرية.
ليس للكاتب منصب وراتب بل قلم ومنبر

مع تحياتي وإلتزامي فارس معمر