الصحوة الدينية .. أسباب وتحليلات
07-09-2017, 06:18 AM


أسباب الصحوة الدينية

والحقيقة أنَّ عودة الناس إلى الدين ليست أمرًا مستغربًا؛ بل المستغرب أنَّهم كانوا بعيدين في فترة الخمسينيَّات والستينيَّات؛ فالدين مزروعٌ في فطرة البشر ومقترنٌ به منذ بداية الخَلْق، أو على حدِّ تعبير كارين أرمسترونج: "الإنسان كائنٌ ديني"[1]. إلَّا إنَّ كثيرًا من العوامل التي عاشتها البشريَّة في القرون الأخيرة دفعتها نحو العودة إلى الدين بشكلٍ أعظم.

1- الخسائر الاجتماعيَّة

لقد أسفرت الحقبة الماديَّة عن تغيُّرٍ مؤثِّرٍ في التركيبة الأسريَّة والاجتماعية؛ فالمجتمعات التي تخلَّت عن الدين وسَعَتْ نحو المادَّة أفاقت لتجد نفسها قد خسرت أوثق الروابط الإنسانيَّة قاطبة.. رابطة الأسرة؛ لقد تحوَّل أعضاء الأسرة بالتدريج إلى أعضاء مستقلِّين، لكلٍّ حقوقه الفرديَّة، وتتحوَّل الأسرة إلى حقوقٍ للمرأة، حقوق للطفل، وتختفي العائلات الكبيرة وتسود العائلات الصغيرة ذات الأفراد (الاثنين أو الثلاثة)، بل ظهرت الأسر التي بأب دون أم، أو التي بأم دون أب، وتحلُّ العلاقات التعاقديَّة محلَّ العلاقات التراحميَّة، حتى وصل الحال إلى أن يعيش الذكر مع الأنثى دون عقد زواج، في مساحةٍ من الحريَّة تُتيح لكلٍّ منهما أن يُواصل العلاقة يومًا آخر أو ألَّا يفعل[2].

ووصلت معدَّلات الطلاق في أميركا إلى 64,72%[3]، بينما سجَّلت سويسرا أعلى المعدلات في دول الاتحاد الأوربِّي بنسبة طلاق تصل إلى 46%[4]، فيما بلغ متوسِّط نسب الطلاق في دول الاتحاد الأوربِّي 40%[5].

وتعليقًا على هذا الارتفاع في نسب الطلاق، نقرأ في تحليل خبراء الاجتماع السويسريِّين، الذين اهتمُّوا بالبحث في دلالات التقرير السالف الإشارة إليه قولهم: إنَّ "تلك الزيادة في حالات الطلاق تعكس حالةً من التوتُّر الاجتماعي، تُؤَدِّي إلى فشل الطرفين في تحقيق حياةٍ زوجيَّةٍ مستقرَّة، لاختلاف رؤية كلٍّ منهما لمفهوم الأسرة والهدف من الزواج؛ إذ لا تزال أغلبيَّة المجتمعات الأوربيَّة تبحث منذ سنوات عن تفسيرٍ لمصطلح الزواج وأهميَّته، وهذه النتيجة هي محصلة طبيعيَّة لسنوات من التقليل من شأن كيان العائلة وغالبيَّة القيم والمبادئ، فلم يَعُدْ هناك اهتمامٌ بمفهوم الانتماء للوطن أو الدين، وسيطرت الفرديَّة والانعزاليَّة على تفكير أجيالٍ متعدِّدة، حتى الحب تحوَّل إلى علاقةٍ مرتبطة بحسابات الربح والخسارة.

كما أنَّه ليست هناك مشاعر متبادلة تحثُّ الطرفين على تحمُّل المسئوليَّة، وعندما يحاول الرجل والمرأة بناء كيان أُسَرِيٍّ مشترك، فإنَّ قيم الفرديَّة تكون هي المسيطرة في خلفيَّة كلٍّ منهما، وبالتالي لا يُمكن انتظار تقديم أي طرفٍ منهما لتضحيَّات؛ لإنقاذ الأسرة إذا ما تعرَّضت لمشكلةٍ ما، فيكون الطلاق هو الحلُّ الوحيد"[6].

2- انهيار الشيوعيَّة

وعاد الناس إلى الدين بعد الانهيار الكبير الذي أصاب المنهج الشيوعي، الذي كان يستبعد الأديان، لا بل يُهاجمها، ويراها "أفيون الشعوب"، فترتَّب عليه انهيارٌ أخلاقيٌّ كبيرٌ كان نتيجةً منطقيَّةً لغياب الإله والدين والقيم، وكان لا بُدَّ بعد فشل التجربة -التي لم تُحَقِّق لا الرخاء الاقتصادي ولا الإشباع النفسي الروحي- أن يعود الناس إلى الدين.

3- العلمانية والمادية الطاغية

أو كما يُقَرِّر صمويل هنتنجتون -بحقٍّ- فإنَّه "بشكلٍ أعمَّ، فإنَّ الصحوة الدينيَّة في أرجاء العالم هي ردُّ فعلٍ ضدَّ العلمانيَّة، والنسبيَّة الأخلاقيَّة، والانغماس الذاتي، وإعادة تأكيد لقيم النظام والانضباط، والعمل والعون المتبادل والتضامن الإنساني. الجماعاتُ الإنسانيَّة تُلَبِّي الاحتياجات الاجتماعيَّة التي أهملتها بيروقراطيَّات الدولة (الأجهزة الإداريَّة)، وهي تتضمَّن توفير الخدمات الطبيَّة والعلاجيَّة، ودور الحضانة والمدارس، ورعاية المسنين، والإغاثة السريعة بعد الكوارث الطبيعية.. وغيرها، والمساعدة الاجتماعية أثناء فترات الحرمان الاقتصادي. انهيار النظام والمجتمع المدني يُحدث فراغًا تملؤه الجماعات الدينيَّة والأصوليَّة غالبًا"[7].

وكان من الطبيعي -أيضًا- أن يكون ردُّ الفعل هذا بشكلٍ عنيفٍ غير ناضج، متطرِّفٍ في كثيرٍ من الأحيان، وعلى حسب قوَّة الفعل تكون قوَّة ردِّ الفعل، وعلى قدر الحاجة تكون شدَّة الاندفاع إليها، وحين يُحرم الناس من "المشترك الأسمى" -الذي يُمَثِّل بالنسبة إليهم جوهر الوجود وفائدته وغايته- فلا بُدَّ أن نتوقَّع حدَّةً وعنفًا في الانعتاق من هذا الحرمان.

إنَّ الماديَّة الطاغيَّة التي عاشت وسادت بقيمها طوال الفترات الماضية -ولا تزال تُؤثِّر تأثيرًا مفزعًا- هي نفسها قوَّةٌ تُفَسِّر انتشار المناهج الروحيَّة في الغرب، فازدادت نسب الدخول في الإسلام، وكذلك نسبة الذين يعتنقون البوذية الوثنيَّة، هذا يحدث مع ضعف الدول التي ينتمي إليها هذا الدين مقارنةً بالدول التي يكسب فيها أرضًا، بل إنَّ كثيرًا من الذين يدخلون الإسلام في الغرب يندرجون في الطرق الصوفيَّة.

لقد نشرت صحيفة هاآرتس الصهيونيَّة على صفحةٍ كاملةٍ تقريرًا يقول: إنَّ أجهزة المخابرات الأوربيَّة والأميركيَّة والموساد الإسرائيلي قدَّموا تقارير مطوَّلة إلى وكالة المخابرات الأميركيَّة، يُحَذِّرون من ارتفاع معدل انتشار الإسلام في الغرب، تُفيد بأنَّ العامين الماضيين شهدا اعتناق أكثر من خمسين ألف شخص أوربِّي للإسلام أغلبهم من النساء، وأنَّ الإسلام أصبح ينتشر بطريقةٍ مخيفة، وأنَّ المسلمين الجدد يعملون على تأدية جميع شعائر وطقوس الإسلام بمنتهى الدقَّة، ويُصبحون أكثر تديُّنًا من المسلمين بالوراثة، وأنَّ العالم كلَّه يجب أن يحترس من هذه الظاهرة المخيفة والرهيبة في آنٍ واحد، خاصَّةً في ظلِّ إقبال المرأة الأوربيَّة والأميركيَّة على الدخول في الإسلام، وما يُمَثِّله هذا من خطر جسيم؛ باعتبار أنَّ المرأة تدخل الإسلام ومن خلفها أسرة بأكملها، لا يقلُّ متوسِّط عدد أفرادها عن خمسة أفراد[8].

4- تفتت القوى الكبرى

كما تسبَّب تفتُّت القوى والتكتلات الكبرى في تشرذمٍ وتشظٍّ للشعوب التي كانت منضوية تحتها، وكان لا بُدَّ لهذه الشراذم أن تبحث عن مظلَّةٍ أخرى، أو هويَّةٍ أخرى تعود وتنتمي إليها، وغالبًا ما كانت هذه الشراذم تختار المظلَّة الواسعة للدين.

الخلافة الإسلامية

حين انهارت الخلافة الإسلاميَّة في الربع الأوَّل من القرن العشرين توقَّع البعض أنَّ ثَمَّة رابطة أخرى يُمكنها أن تكون بديلًا: الرابطة القوميَّة، ثُمَّ الرابطة القطريَّة، ثُمَّ الرابطة الجغرافيَّة، فمصر يُمكن أن تكون من العرب، أو من دول إفريقيا، أو من دول المتوسِّط. وإيران دولة فارسية، أو هي من دول الخليج، أو من دول بحر قزوين. وتركيا دولة طورانيَّة، أو من دول أوربَّا، أو من دول الأرخبيل أو بحر مرمرة أو البحر الأسود.

إلَّا أنَّ كلَّ هذه الدول بعد فتراتٍ من الابتعاد عن الرابطة الإسلامية -وهو الابتعاد الذي لم تكن اليد الخارجيَّة بعيدةً عنه- تعود عن غير ترتيبٍ إلى الهويَّة الإسلاميَّة والانتماء الإسلامي، ومعها من القوميَّات: العرب والطورانيِّين والفرس والأفارقة والمغول وغيرها، ومعها من اللغات: العربيَّة والفارسيَّة والتركيَّة والهنديَّة والإندونيسيَة، ولغات محليَّة كثيرة في إفريقيا وآسيا، ومن الأقطار بلاد من الساحل الغربي للمحيط الهادي إلى الساحل الشرقي من المحيط الأطلسي.

الاتحاد السوفيتي

كذلك انهيار الاتحاد السوفيتي؛ حين تشظَّى هذا المارد الكبير الذي كان يأكل نصف آسيا تقريبًا غير شيءٍ من أوربَّا، ثُمَّ وراءه نفوذ في شرق أوربَّا ووسط وجنوب وغرب آسيا، وشمال إفريقيا. حين تشظَّى هذا المارد عادت شظاياه إلى دينها، حتى قلبه -الذي كان عاصمة الشيوعيَّة ذات يوم- عاد مرَّةً أخرى إلى المسيحيَّة الأرثوذكسيَّة، فإذا نظرنا إلى خريطة الأديان من قَبْلِ الثورة الشيوعيَّة ومن بعدها، لربَّما ظنَّنا لوهلةٍ أنَّ شيئًا لم يحدث طوال مائة عام؛ فلقد أعاد الدين نفسه إلى الخريطة على النحو السابق، وكأنَّما استردَّ من التاريخ والجغرافيا ما كانت الشيوعيَّة قد سرقته منه في غفلةٍ من الزمن.

الاتحاد اليوغوسلافي

وليس ببعيدٍ عن هذا ما نتج من تفكُّك الاتحاد اليوغوسلافي، لقد عادت الخريطة الدينيَّة نفسها إلى ما قبل عهد تيتو، بل وترتَّب عليها حروب ومذابح ومجازر بالغة العنف، ليس إلَّا لأنَّ قومًا لم يَتَّعِظُوا، فحاولوا لمرَّةٍ أخرى توحيد الاختلاف الديني قهرًا، ثُمَّ إنَّهم -أيضًا- لم ينجحوا.

لقد عاد الناس إلى الدين لتفتُّت القوى الكبرى إلى عرقيَّات كثيرة؛ فظهرت عشرات العرقيَّات التي تدور بينها الحروب والنزاعات، وفي هذا الإطار فَسَّر وزير الدفاع الفلبيني أورلند ميركادو (Orland Mercado) الوضع في بلاده -التي حفلت بالاضطرابات- بقوله: "إنَّ للمشكلة عدَّة أسباب؛ مع نهاية الحرب الباردة، فإن الصراعات التي نراها اليوم لها أساس ديني إثني، بل فيها نوعٌ من الصدام بين الحضارات والثقافات، المشكل معقَّد والحلُّ لا يُمكن إلَّا أن يكون معقَّدًا"[9].

الخلاصة المهمَّة في هذا السياق بعد رؤيتنا لهذه الحقيقة هي أن نُدرك خطورة أن ينشب صراع ديني في عالمنا الآن، الذي هو في هذه اللحظة عالم متديِّن، يشهد صحوة دينيَّة في كلِّ حضاراته ودوله؛ لذا فإنَّ على العقلاء أن يَحْذَروا وأن يُحَذِّروا من اشتعال مثل هذا الصراع المرعب، الذي تهلك فيه الإنسانية لا لشيء إلَّا لأنَّ مجنونًا -أو بضعة مجانين- يُريد أن يفرض على الناس بالقوَّة عقيدته هو، ومهما كان حُسن مقصده بالنسبة إلى مقاييسه، فإنَّ هذا لا يغفر له أن يُشعل صراعًا كهذا؛ لا تتوقف فيه الدماء على هذا الجيل، بل تتوارث الأجيال القادمة ثارات آبائها وأجدادها.

كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني
[1] نشرت الكاتبة البريطانيَّة المتخصِّصة في مقارنة الأديان كارين أرمسترونج في سبتمبر 2009م كتابًا عن التاريخ الإنساني المتعلِّق بالإله وأعطته عنوان "الله لماذا؟"، تُرجم إلى العربيَّة، ونُشر في إصدارات سطور الجديدة، وهو كتاب قيِّم كعادة كتبها.
[2] انظر: عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، 2/157، وما بعدها.
[3] تقرير بعنوان "Divorce Rate - U.S.A" من موقع "aboutdivorce"، (www.aboutdivorce.org).
[4] تقرير المكتب الفدرالي السويسري للإحصاء، عرض له موقع الجزيرة نت، (www.aljazeera.net).
[5] تقرير منشور بشبكة الأمان الإخبارية، (www.amanjordan.org).
[6] تقرير: "سويسرا تتصدر قائمة معدَّلات الطلاق في أوربَّا"، منشور بموقع الجزيرة نت بتاريخ 28/12/2005م.
[7] صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات، ص162.
[8] عرض للتقرير موقع إسلام ويب في تحقيق بعنوان: "مسلمات الغرب والمخابرات الأميركيَّة"، بتاريخ 16/12/2004م.
[9] حوار مع صحفية لوموند الفرنسية بتاريخ 5/7/2000م، نقلًا عن: محمد سعدي: مستقبل العلاقات الدولية، ص251.