الخوف الذي استعمرني
02-08-2007, 09:06 AM
الخوف الذي استعمرني..
صديقي أحمد،
وددت ألاّ أشركك في مأدبة طعامها علقم نتجرّعه كلّ يوم، لولا أنّك ألححت عليّ أن أحكي لك عمّا يجري ها هنا، في بلادنا، لأنّه، كما تقول في رسالتك، اختلط عليك الأمر بين الحقيقة و الخيال، فأنت هنالك في غربتك ، تسمع أخبارا مفزعة و تقع عينك على مشاهد مروّعة، تجري في بلادنا الحبيبة، عقلك أبى تصديقها ، و جوفك رفض ابتلاعها.
يا صديقي،
ماذا أقول لك؟ إنّ الله اصطفاك من عباده كيلا تعيش أمورا يأباها.. الإنسان. فخليق بك أن تحمده حمدا كثيرا، إذ رحمك من النّظر إلى صورة جميلة رسمتها ذات يوم قطعة شعرية، هي الآن تتلطّخ بالدّماء و الدموع.
إنّني أترجّاك من كلّ قلبي ألاّ تعود.. حتّى تبقى البلاد في نفسك مدى الزّمن، سنفونية عذبة تشتهيها الأذن و قصيدة أزليّة يردّدها اللّسان بكلّ حبّ و إخلاص .
أقول لك هذا، لأنّنا، ها هنا ، و منذ مدّة، لا نصبح سوى على ألفاظ ألفها اللّسان، حسبنا أنّها عملة لم تعد تصرّف في حاضرنا بعد أن طوينا ليل الاستعمار إلى الأبد: يصبح النّاس كلّ يوم، و هم يلوكون ألفاظ الموت بتلذّذ لا تفسير له، و يلوكون ألفاظ الأسى بدلا من الخبز الّذي فقد طعمه، و هربت رائحته العطرة إلى أرض أخرى .
و أضحت الأرواح ، يا صديقي، عبارة عن أرقام في طرفي معادلة نتيجتها سالبة في كلّ الأحوال ، أو، إن شئت، هي أرقام في بارومتر الاغتيالات اليوميّة، ترتفع فيه و تنخفض خطوط الموت في منحنى خطير، بمعنى آخر، صرنا أطراف معادلة الموت، الرّابح في هذه المعادلة خاسر إلى أن يثبت العكس، و لن يثبت. هل تعرف لماذا لن يثبت العكس؟ لأنّنا ضحايا، جميعنا؟ ضحايا بريئة ؟ ذلك هو السؤال المحيّر الذي لم أجد له جوابا . لعلّ المستقبل يجيبنا، أمّا اليوم، فالكلّ ضحيّة الكلّ، و كرة الاتّهام تنتقل من أسفل إلى أعلى، و من أعلى إلى أسفل ، و في كلّ الاتّجاهات، و لا أحد يعلم إلى أين منتهاها، و تبقى البراءة لقيطة مجهولة النسب، نتحاشاها فرارا من الحقيقة التّي لا تعرف من لباس غير العراء، و نفضل ارتداء أثواب النفاق على أثواب المكاشفة التي تسقط عن العورات أوراق الزيف.
صديقي أحمد،
سأحدّثك عن الخوف الذي استعمرني ذات ليلة و احتلّ جميع أركاني. ذلك الخوف الجاثم في أضلعي، لم يكن وهميّا كما كنت أُقنع نفسي، بل كان حقيقة متجسّدة مثل كتلة من المطاط ما انفكّت تتضخّم و تتضخّم إلى أن صيّرتني بالونا بلا قوّة و لا إرادة.
ما أصعب ، يا صديقي، أن تجد نفسك في لحظة كأنّك وهم أو سراب،تحسّ و لا تتألم، حولك فراغ مريع لا تعلم كنهه أو مداه، أو كأنّك الفراغ ذاته.
هكذا ألفيت نفسي. فهل تنتظر أن يبقى لك كيان حين تواجهك القسوة و إغراءاتها البشعة؟ كيف، و أنا أشهدت عيني الفاجعة، أشهدتها جثثا مسلوبة الحياة بأفظع الأساليب؟
سأحمّلك يا صديقي، جزءا من الكابوس الذي قضّ مضجعي أيّاما و ليال.. و رجائي أن يمدّك الله بالكثير من الصبر و التحمّل لأنّني أعرف عن قلبك رهافة إحساسه و رقّته.
في ذلك الصباح، و أنا في طريقي إلى المخبزة التي تبعد عن الحيّ ببضعة مئات من الأمتار، تلك الطريق التي اعتدنا ـ أنا و أنت و رزقي و عليّ ـ أن نقطعها ذهابا و إيابا كلّ مساء بعد غروب الشمس ، نتبادل أجمل ما نحفظ من الأشعار والألحان ، و نسرّ إلى بعضنا مغامراتنا العاطفية، و نخطّط لمستفبلنا، فنبني تارة و نهدّم ما بنينا تارة أخرى.. فجأة، لمحت جثّتين تفترشان الطريق.. وجمت..ثمّ كان هناك شيء ما يجذبني بقوّة نحوهما ، و تتحول عيني ثم أعود و أنظر لأرى وجها أليفا.. وجها أعرفه و تعرفه، و أنظر إلى الوجه الآخر، فأرى وجها آخر أعرفه و تعرفه.. يا لهول ما رأيت.. تسمّرت رجلاي لحظات، و فقدت إثرها كلّ إحساس، انهار بنياني ، و كلّ ما أذكره بعد ذلك هو أنّ أشياء مجهولة اعترتني، لم أستطع أن أميّزها.. ثمّ وجدتني بقدرة قادر في البيت، حكيت، بل رميت ما رأيت، و كان ما رأيت من نفسي بعد ذلك أكثر و أكبر.. كلّما اقترب اللّيل.
كانا يا صديقي، مذبوحين في اللّيلة الماضية كما تذبح الكباش، و على بعد أمتار من الحيّ، و أنا أغطّ في نوم القطيع. و من ذلك اليوم، نسيت طعم الأشياء، إلاّ طعم انتظار الدّور.
ذات يوم من أيام جوان 95م
صديقي أحمد،
وددت ألاّ أشركك في مأدبة طعامها علقم نتجرّعه كلّ يوم، لولا أنّك ألححت عليّ أن أحكي لك عمّا يجري ها هنا، في بلادنا، لأنّه، كما تقول في رسالتك، اختلط عليك الأمر بين الحقيقة و الخيال، فأنت هنالك في غربتك ، تسمع أخبارا مفزعة و تقع عينك على مشاهد مروّعة، تجري في بلادنا الحبيبة، عقلك أبى تصديقها ، و جوفك رفض ابتلاعها.
يا صديقي،
ماذا أقول لك؟ إنّ الله اصطفاك من عباده كيلا تعيش أمورا يأباها.. الإنسان. فخليق بك أن تحمده حمدا كثيرا، إذ رحمك من النّظر إلى صورة جميلة رسمتها ذات يوم قطعة شعرية، هي الآن تتلطّخ بالدّماء و الدموع.
إنّني أترجّاك من كلّ قلبي ألاّ تعود.. حتّى تبقى البلاد في نفسك مدى الزّمن، سنفونية عذبة تشتهيها الأذن و قصيدة أزليّة يردّدها اللّسان بكلّ حبّ و إخلاص .
أقول لك هذا، لأنّنا، ها هنا ، و منذ مدّة، لا نصبح سوى على ألفاظ ألفها اللّسان، حسبنا أنّها عملة لم تعد تصرّف في حاضرنا بعد أن طوينا ليل الاستعمار إلى الأبد: يصبح النّاس كلّ يوم، و هم يلوكون ألفاظ الموت بتلذّذ لا تفسير له، و يلوكون ألفاظ الأسى بدلا من الخبز الّذي فقد طعمه، و هربت رائحته العطرة إلى أرض أخرى .
و أضحت الأرواح ، يا صديقي، عبارة عن أرقام في طرفي معادلة نتيجتها سالبة في كلّ الأحوال ، أو، إن شئت، هي أرقام في بارومتر الاغتيالات اليوميّة، ترتفع فيه و تنخفض خطوط الموت في منحنى خطير، بمعنى آخر، صرنا أطراف معادلة الموت، الرّابح في هذه المعادلة خاسر إلى أن يثبت العكس، و لن يثبت. هل تعرف لماذا لن يثبت العكس؟ لأنّنا ضحايا، جميعنا؟ ضحايا بريئة ؟ ذلك هو السؤال المحيّر الذي لم أجد له جوابا . لعلّ المستقبل يجيبنا، أمّا اليوم، فالكلّ ضحيّة الكلّ، و كرة الاتّهام تنتقل من أسفل إلى أعلى، و من أعلى إلى أسفل ، و في كلّ الاتّجاهات، و لا أحد يعلم إلى أين منتهاها، و تبقى البراءة لقيطة مجهولة النسب، نتحاشاها فرارا من الحقيقة التّي لا تعرف من لباس غير العراء، و نفضل ارتداء أثواب النفاق على أثواب المكاشفة التي تسقط عن العورات أوراق الزيف.
صديقي أحمد،
سأحدّثك عن الخوف الذي استعمرني ذات ليلة و احتلّ جميع أركاني. ذلك الخوف الجاثم في أضلعي، لم يكن وهميّا كما كنت أُقنع نفسي، بل كان حقيقة متجسّدة مثل كتلة من المطاط ما انفكّت تتضخّم و تتضخّم إلى أن صيّرتني بالونا بلا قوّة و لا إرادة.
ما أصعب ، يا صديقي، أن تجد نفسك في لحظة كأنّك وهم أو سراب،تحسّ و لا تتألم، حولك فراغ مريع لا تعلم كنهه أو مداه، أو كأنّك الفراغ ذاته.
هكذا ألفيت نفسي. فهل تنتظر أن يبقى لك كيان حين تواجهك القسوة و إغراءاتها البشعة؟ كيف، و أنا أشهدت عيني الفاجعة، أشهدتها جثثا مسلوبة الحياة بأفظع الأساليب؟
سأحمّلك يا صديقي، جزءا من الكابوس الذي قضّ مضجعي أيّاما و ليال.. و رجائي أن يمدّك الله بالكثير من الصبر و التحمّل لأنّني أعرف عن قلبك رهافة إحساسه و رقّته.
في ذلك الصباح، و أنا في طريقي إلى المخبزة التي تبعد عن الحيّ ببضعة مئات من الأمتار، تلك الطريق التي اعتدنا ـ أنا و أنت و رزقي و عليّ ـ أن نقطعها ذهابا و إيابا كلّ مساء بعد غروب الشمس ، نتبادل أجمل ما نحفظ من الأشعار والألحان ، و نسرّ إلى بعضنا مغامراتنا العاطفية، و نخطّط لمستفبلنا، فنبني تارة و نهدّم ما بنينا تارة أخرى.. فجأة، لمحت جثّتين تفترشان الطريق.. وجمت..ثمّ كان هناك شيء ما يجذبني بقوّة نحوهما ، و تتحول عيني ثم أعود و أنظر لأرى وجها أليفا.. وجها أعرفه و تعرفه، و أنظر إلى الوجه الآخر، فأرى وجها آخر أعرفه و تعرفه.. يا لهول ما رأيت.. تسمّرت رجلاي لحظات، و فقدت إثرها كلّ إحساس، انهار بنياني ، و كلّ ما أذكره بعد ذلك هو أنّ أشياء مجهولة اعترتني، لم أستطع أن أميّزها.. ثمّ وجدتني بقدرة قادر في البيت، حكيت، بل رميت ما رأيت، و كان ما رأيت من نفسي بعد ذلك أكثر و أكبر.. كلّما اقترب اللّيل.
كانا يا صديقي، مذبوحين في اللّيلة الماضية كما تذبح الكباش، و على بعد أمتار من الحيّ، و أنا أغطّ في نوم القطيع. و من ذلك اليوم، نسيت طعم الأشياء، إلاّ طعم انتظار الدّور.
ذات يوم من أيام جوان 95م