رسالة في ليلة التنفيذ للشاعر المصري هاشم الرفاعي(1935-1959)
19-08-2017, 11:49 PM
رسالة في ليلة التنفيذ
أبتاه ماذا قد يخط بناني *** والحبلُ والجلاَّدُ ينتظران
هذا الكتاب إليك من زنزانةٍ *** مقرورة صخريةِ الجدران
لم تبقَ إلا ليلة أحيا بها *** وأحسُّ أنَّ ظلامها أكفاني
ستمرُّ يا أبتاه لست أشك في*** هذا وتحملُ بعدها جثماني
* * *
الليل من حولي هدوءٌ قاتلٌ***و الذكريات تَمُور في وجداني
و يَهُدُّني ألمي فأنشد راحتي***في بضع آيات من القرآن
والنفسُ بين جوانحي شفافةٌ *** دبَّ الخشوع بها فهزَّ كياني
قد عشت أُومِنُ بالإله ولم أذقْ ***إلا أخيرا لــــــذةَ الإيمان
* * *
والصمت يقطعه رنينُ سلاسلٍ *** عبثتْ بِهنَّ أصابع السّجّان
مابين آونة تمر وأختها *** يرنو إلي بمقلتيْ شيطان
من كوةٍ بالباب يرقُب صيده*** و يعود في أمن الى الدَّورَان
أنا لا أحس بأي حقدٍ نحوه*** ماذا جنى فتمسُّه أضْغاني
هو طيِّبُ الأخلاق مثلك يا أبي*** لم يبد في ظمأ إلى العدوان
لكنَّه إن نام عني لحظةً ***ذاق العيالُ مرارة الحرمان
فلربما ــ وهو المروع سحنة ***لو كان مثلي شاعرا لرثاني
أو عادـــ من يدري ـــ إلى أولاده***يومًا، تذكر صورتي فبكاني
وعلى الجدار الصلب نافذة بها *** معنى الحياة غليظة القضبان
قد طالما شارفْتُها متأملاً ***في السائرين على الأسى اليقضان
فأرى وجومًا كالضباب مصوّرًا***ما في قلوب الناس من غليان
نفس الشعور لدى الجميع وإن همُ ***كتموا.. وكان الموت في إعلاني
ويدور همسٌ في الجوانح:ما الذي ***بالثورة الحمقاء قد أغراني؟
أو لم يكن خيرًا لنفسي أن أُرى...***مثل الجموع أسير في إذعان؟
ما ضرني لو قد سكتُّ وكلما***غلب الأسى بالغتُ في الكتمان؟
هذا دمي سيسيل يجري مُطفئا***ما ثار في جنبيَ من نيران
وفؤادي الموّار في نبضاته *** سيكف من غده عن الخفقان
والظلم باق.. لن يحطِّم قيدَه *** موتي ولن يودي به قرْباني
ويسير ركب البغي ليس يَضيره *** شاةٌ إذا اجتثت من القطعان؟
* * *
هذا حديث النفس حين تشِفُّ عن *** بشريتي وتمور بعد ثوان
وتقول لي :إن الحياة لغاية***أسمى من التصفيق للطغيان
أنفاسُك الحرَّى وإن هي أُخمدت *** ستظل تغمر أفْقَهم بدخان
وقُروح جسمك وهو تحت سياطهم ***قسمات صبحٍ يَتَّقيه الجاني
دمعُ السجين هناك في أغلاله ***ودمُ الشهيد هنا سيلتقيان
حتى إذا ما أُفعمت بهما الرُّبا***لم يبق غير تمردِ الفيضان
ومن العواصف ما يكون هُبوبها***بعد الهدوء و راحة الربان
إن احتدام النار في جوف الثرى***أمرٌ يُثيرُ حفيظةَ البُركان
وتتابعُ القطرات ينزل بعده***سيلٌ يليه تدفق الطوفان
فيموجُ يقتلع الطغاةَ مزمجرًا***أقوى من الجبروت والسلطان
* * *
أنا لست أدري هل ستُذكَر قصتي***أم سوف يعدوها رحى النسيان؟
أوأنني سأكون في تاريخنا***متآمرا أم هادمَ الأوثان
كل الذي أدريه أنَّ تجرُّعي***كأس المذلة ليس في إمكاني
لو لم اكن في ثورتي متطلبا***غير الضياء لأمتي لكفاني
أهوى الحياة كريمةً لا قيدَ لا ***إرهاب ،لا استخفاف بالإنسان
فإذا سقطْتُ سقطت أحمل عزتي***يغلي دمُ الأَحرار في شرياني
* * *
أبتاه إنْ طلع الصباح على الدُّنا*** وأضاء نورُ الشمس كل مكان
واستقبل العصفور بين غصونه***يومًا جديدًا مشرقَ الألوان
وسمعتَ أنغام التفاؤل ثرَّةً *** تجري على فم بائع الألبان
وأتى يَدقُّ كما تعوَّد بابَنا *** سيدقُّ باب السجن جلادان
وأكون بعد هُنَيَّة متأرجحا *** في الحبل مشدودًا إلى العيدان
ليكن عزاءك أن هذا الحبل ما *** صنعته في هذي الربوع يَدان
نسجوه في بلد يشع حضارةً *** وتضاء منه مشاعلُ العرفان
أو هكذا زعموا...وجيء به إلى *** بلدي الجريح على يدِ الأعوان
أنا لا أريدك أن تعيشَ محطَّما *** في زحمة الآلام والأشجان
إن ابنك المصفود في أغلاله *** قد سِيقَ نحو الموت غير مدان
فاذكر حكاياتٍ بأيام الصِّبا ***قد قلتَها لي عن هوى الأوطان
واذا سمعتَ نشيج أمي في الدُّجى ***تبكي شبابًا ضاع في الرّيْعان
وتكتِّم الحسرات في أعماقها ***ألمًا تُواريه عن الجيران
فاطلبْ إليها الصفح عني، إنني*** لا أبتغي منها سوى الغفران
مازال في سمعي رنينُ حديثها *** ومقالها في رحمةٍ وحنان
أبُنَيَّ، إني قد غدوت عليلةً *** لم يبق لي جلدٌ على الأحزان
فأذقْ فؤاديَ فرحةً بالبحث عن***بنتِ الحلال ودعك من عصياني
كانت لها أمنية ريانة*** يا حسن آمال لها وأماني!
و الآن لا أدري بأي جوانحٍ *** ستَبيتُ بعدي أم بأي جنان؟!
* * *
هذا الذي سطّرْتُه لك يا أبي ***بعض الذي يجري بفكر عان
لكنْ إذا انتصَر الضياء ومُزِّقَت***بيد الجموع شريعةُ القرصان
فلسوف يذكرني ويكبر همتي ***من كان في بلدي حليفَ هوان
وإلى لقاءٍ تحت ظل عدالةٍ****قدسيةِ الأحكامِ والميزان
التعديل الأخير تم بواسطة ahmeed69 ; 20-08-2017 الساعة 12:31 AM