معركة غزة.. أول النصر
22-08-2016, 09:15 PM




على الرغم من كل هذا الإعداد المادي والدبلوماسي والمعنوي والاقتصادي لهذا الجيش، وعلى الرغم من التحفيز العظيم الذي قام به العلماء لحثّ الناس على الجهاد، فإن هناك بعض المسلمين ضعفاء القلب لم يصدقوا أن القتال أصبح أمرًا واقعًا.. فطوال هذه الفترة يعتقدون أن هذه مجرد نفرة حماسية، وسوف تهدأ الأمور بعدها، اعتقدوا أن هذه كلمات تقال من قطز كعادة الزعماء في الضحك على شعوبهم لمجرد التنفيس عن الضغوط لكي لا يحدث انفجار، وما اعتقدوا قط أن قطز يُعدّ إعدادًا حقيقيًا للقتال.. فلما اقتربت ساعة الصفر أيقن هؤلاء أن الأمر حقيقي، وأن اللقاء قريب، بل قريب جدًّا.

هنا تزعزعت قلوب هؤلاء الرجال -أو صور الرجال- وبدءوا يفكرون في الهرب من الجيش.. ثم بدأ بعضهم فعلًا في الفرار، والاختباء عن أعين المراقبين، بل إن منهم من خرج بالكلية من مصر ليهرب إلى قُطر آخر فمنهم من هرب إلى الحجاز، ومنهم من هرب إلى اليمن، ومنهم من وصل في هروبه إلى بلاد المغرب!

قد يعتبر بعض المحللين أن هذه خسارة.. وأن الجيش فقد بعضًا من عناصره المهمَّة، أو على الأقل سيصبح الجيش قليلاً في أعين الأعداء.

لكن سبحان الله! الخير كل الخير كان في هروب هؤلاء في هذه اللحظات السابقة للقتال! ولعل الله عز وجل يصعّب جدًّا من اللقاء قبل حدوثه حتى ينقّي الصف، فلا يخرج إلى القتال إلا من ينوي أن يثبت.

قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[التوبة: 47].

هؤلاء المذبذبون لو خرجوا في الجيش المسلم لأضعفوا قوته، ولبثّوا فيه الاضطراب والقلق، تارة عن غير عمد بخوفهم وجبنهم، وتارة عن عمد بُغية إثارة الفتنة، ورغبة في إضعاف الصف، وهذه ليست المشكلة الوحيدة، بل المشكلة الأكبر أن بعض المسلمين الصادقين قد يستمع إلى كلامهم ويقتنع بتشكيكاتهم، فيفقد المسلمون قوَّة أخرى مهمَّة.. وذلك كما يقول الله عز وجل: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}[التوبة: 47].. ولذلك فخروج هؤلاء من الصف في هذا الوقت المبكر كان مصلحة للجيش المسلم، وإن ظهر للعين غير ذلك، ولذلك لم يحرص قطز : كثيرًا على إعادة ضمّ هؤلاء؛ فالجندية الحقيقية في الإسلام لا يُهرب منها، بل يُشتاق إليها.

إلى فلسطين:
وبدأ تجمع الجيش المسلم في معسكر الانطلاق، وكان هذا المعسكر في منطقة الصالحية بمحافظة الشرقية الآن وهي منطقة صحراوية واسعة تستوعب الفرق العسكرية المختلفة، وكانت نقطة انطلاق للجيوش المصرية المتجهة إلى الشرق.

وتجمعت الفرق العسكرية من معسكرات التدريب المنتشرة في القاهرة والمدن الكبرى،ثم أعطى قطز: إشارة البدء والتحرك اتجاه فلسطين.



التحرك إلى سيناء:
واتجه الجيش المسلم من الصالحية إلى اتجاه الشمال الشرقي حتى وصل إلى سيناء، ثم اتجه شمالًا أكثر ليسلك طريق الساحل الشمالي لسيناء بحذاء البحر الأبيض المتوسط.
كان هذا التحرّك في أوائل شهر شعبان سنة 658 هجرية وهذا يوافق شهر يوليو من سنة 1260 ميلادية[1]، أي أن هذا التحرك كان في أشد شهور السنة حرًّا، والسير في الصحراء القاحلة الطويلة في سيناء، وليس في الطريق مدن آهلة اللهم إلا العريش.. ومع ذلك فقد صبر الجيش المجاهد.. وليتذكر الجميع غزوة تبوك وما صاحبها من صعوبات شديدة الشبه بما يصاحب هذه الموقعة؛ فالمسلمون في تبوك فوق الحر وفوق الأزمة الاقتصادية وفوق قطع المسافة الصحراوية الطويلة كانوا يذهبون لقتال قوَّة هائلة هي قوَّة الرومان، وهذه المرة كذلك يقطع المسلمون المسافة الطويلة في هذا الحر وفي هذه الأزمة الاقتصادية ليقابلوا جيشًا هائلًا هو جيش التتار.. والتاريخ يكرّر نفسه.. غير أن المسلمين في تبوك لم يجدوا الرومان في انتظارهم فلم تتم المعركة، أما في موقفنا هذا فالتتار كانوا في الانتظار.

بيبرس قائد الجيش:
كان قطز يتحرك على تعبئة.. بمعنى أنه يتحرك وقد رتّب جيشه الترتيب الذي سيقاتل به لو حدث قتال، وذلك حتى إذا فاجئه جيش التتار يكون مستعدًا.

ووضع على مقدمة جيشه ركن الدين بيبرس القائد العسكري الفذ، ليكون أول من يصطدم بالتتار، فيحدث نصرًا -ولو جزئيًا- مما سيرفع من معنويات المسلمين بالتأكيد[2].

وكان قطز -أيضًا- قد سلك في ترتيب جيشه أمرًا لم يكن يعهده المعاصرون في زمانه، وذلك على سبيل التجديد في القيادة والإعداد حتى يربك خطط العدو، فكوَّن قطز مقدمة الجيش من فرقة كبيرة نسبيًا على رأسها ركن الدين بيبرس، وجعل هذه الفرقة تتقدم كثيرًا عن بقية الجيش، وتظهر نفسها في تحركاتها، بينما يتخفي بقية الجيش في تحركاته، فإذا كان هناك جواسيس للتتر اعتقدوا أن مقدمة الجيش هي كل الجيش، فيكون استعداد التتار على هذا الأساس، ثم يظهر بعد ذلك قطز، وقد فاجأ التتار الذين لم يستعدوا له.

غزة.. أول النصر:
وهكذا اجتاز ركن الدين بيبرس الحدود المصرية في 26 من يوليو سنة1260 ميلادية، ودخل حدود فلسطين المباركة، وتبعه قطز بعد ذلك في سيره.. واجتازوا رفح وخان يونس ودير البلح واقتربوا جدًّا من غزة.

وحدث ما توقعه قطز، واكتشفت عيون التتار مقدمة الجيش الإسلامي بقيادة ركن الدين بيبرس، واعتقدت أن هذا هو جيش المسلمين كله، ونقلت الأخبار إلى حامية غزة التترية، وأسرعت الحامية التترية للقاء ركن الدين بيبرس، وتم فعلًا بينهما قتال سريع، هذا كله وجيش قطز الرئيسي ما زال يعبر الحدود الفلسطينية المصرية.

ولكن كما ذكرنا كانت مقدمة الجيش المسلم مقدمة قوية وقائدها ركن الدين بيبرس قائد بارع، والحامية التترية في غزة صغيرة نسبيًا، والجيش التتري الرئيسي على مسافة كبيرة من غزة، فقد كان جيش التتر بقيادة كتبغا يربض في سهل البقاع في لبنان على مسافة ثلاثمائة كيلومتر تقريبًا من غزة، فتم اللقاء في غزة بمعزل عن الجيوش الرئيسية للمسلمين والتتار، وبفضل الله استطاعت مقدمة الجيش المسلم أن تنتصر في هذه الموقعة الصغيرة.. وقُتل بعض جنود الحامية التترية، وفرّ الباقون في اتجاه الشمال لينقلوا الأخبار إلى كتبغا في لبنان[3].

مفاجأة غير متوقعة:
لقد فوجئت الحامية التترية في غزة! وكانت المفاجأة سببًا لهزيمة قاسية لهم، وليست المفاجأة الوحيدة في وقعة غزة هي مفاجأة المباغتة أو الخطة العسكرية أو الأبعاد الإستراتيجية في اتخاذ المواقع المناسبة أو غير ذلك من مفاجآت فنون الحرب.. إنما المفاجأة الحقيقية للتتار كانت اكتشاف أن هناك طائفة من المسلمين ما زالت تقاتل، وما زالت تحمل السيوف، وما زالت تدافع عن دينها وعن أرضها وعن شرفها وعن كرامتها.. لقد ألِفَ التتار أن يجدوا جموع المسلمين يفرون ويهربون، وألِفَ زعماء التتار أن يجدوا زعماء المسلمين يطلبون التحالف المخزي والركوع المذل.. وما توقعوا أن تظل هناك طائفة مسلمة تدافع عن حقها.

لقد كان هذا هو ظن التتار، وهو ظن ليس في محلّه حتمًا، فإن هذه الأمة مهما ضعفت فإنها لا تموت، ومهما ركع منها رجال فسيظلّ فيها آخرون يدافعون عنها ما بقيت الحياة.

روى الإمام مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ»[4].

وسبحان الله! ففي رواية الإمام أحمد عن أبي إمامة رضي الله عنه هناك زيادة مهمَّة، وهي أن الصحابة سألوا عن هذه الطائفة فقالوا: «يا رسول الله وأين هم؟» قال: «بِبَيْتِ المَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ المَقْدِسِ»![5].

فلسطين أرض الانتصارات:
ومع أن الذين قاتلوا التتار في غزة، ثم بعد ذلك في عين جالوت لم يكونوا -في المعظم- من أهل بيت المقدس ولا فلسطين، فإن الله -سبحانه- قد جعل هذا المكان الطاهر «فلسطين» موطنًا لانتصارات المسلمين.

نعم قد تحدث هنّات وسقطات.. لكن حتمًا يكون هناك قيام.

على أرض فلسطين وما حولها من أرض الشام وُجهت ضربات إسلامية موجعة للإمبراطورية الرومانية في أجنادين وبيسان واليرموك وبيت المقدس.

وعلى أرض فلسطين وما حولها وجهت ضربات إسلامية موجعة للصليبيين في حطين وطبرية وبيت المقدس.

وعلى أرض فلسطين وجهت ضربات إسلامية موجعة للتتار في غزة ثم في عين جالوت كما سنرى ثم في بيسان.

وعلى أرض فلسطين وجهت ضربات إسلامية موجعة لبقايا الصليبيين بعد ذلك في عكا وعسقلان وحيفا.

وعلى أرض فلسطين وجهت ضربات إسلامية موجعة للفرنسيين في عكا.

وعلى أرض فلسطين كذلك وجهت ضربات إسلامية موجعة للإنجليز في الثورات المختلفة وأشهرها ثورة 1936 والتي استمرت قرابة أربع سنوات.

وعلى أرض فلسطين وُجِّهَت - وما زالت تُوَجَّه - ضربات إسلامية موجعة لليهود.

وسيكون هلاك اليهود -بإذن الله- على هذه الأرض.

وستكون الحرب الأخيرة بين المسلمين واليهود على هذه الأرض، وسيقتلهم المسلمون.

هذا ليس استنتاجًا أو استنباطًا، إنما هو حقيقة كونية، وبشارة نبوية!

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ المُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمْ المُسْلِمُونَ.. حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ.. يَا عَبْدَ اللهِ.. هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ... إِلاَّ الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ»[6].

فاللهم عجل بنصرك.

[1] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص172.
[2] ابن تغري بردي: النجوم الزاهر في ملوك مصر والقاهرة 7/101.
[3] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص122، 123.
[4] البخاري: كتاب بدء الوحي (252)، ومسلم (5059).
[5] مسند أحمد 5/ 269.
[6] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء (7523).



د. راغب السرجاني