التاريخ الهجري هوية المسلمين
04-12-2018, 03:42 PM


إنَّ عادة التواريخ الابتداء ببدء الخلق أو بدولةٍ من الدول، فليست أمَّةٌ أو دولةٌ إلَّا ولها تاريخٌ يرجعون إليه، ويُعوِّلون عليه، ينقله خَلَفُها عن سَلَفِها، وحاضِرُها عن غابِرها، تُقيَّد به شوارد الأيَّام، وتُنصَب به مَعالم الأعلام، ولولا ذلك لانقطعت الوُصَل، وجُهِلَت الدول... وإنَّ التأريخ بالهجرة نسخ كلَّ تاريخٍ متقدِّم [1].

كيف ارتبط التاريخ الهجري بحياة المسلمين

الله سبحانه وتعالى خلق الشمس والقمر وجعل لكلٍّ منهما منافع، فقال تعالى:{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96] فبالشمس والقمر تُعْرَف الأزمنة، والأوقات، وتُضبط أوقات العبادات وآجال المعاملات، ويُعرَف بها ما مضى من المدَّة، فلولا وجود الشمس والقمر وتناوبهما واختلافهما لَمَا عرف ذلك الناس، بل ربَّما ما كان يعرفه إلَّا أفرادٌ بعد الاجتهاد والحسابات الطويلة، وبذلك تفوت مصالح ضروريَّة على العباد [2].

والسَّنَة عند العرب عبارةٌ عن اثني عشر شهرًا من الشهور القمرية، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5] [3]، هذه شهور السنة القمريَّة التي هي مبنيَّةٌ على سير القمر في المنازل، وهي شهور العرب التي يعتدُّ بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حَجِّهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم [4].

الفرق بين التاريخ الهجري والميلادي

نحن بين سنتين؛ سنة شمسيَّة تعتمد على الشمس، وسنة قمريَّة تعتمد على منازل القمر وطلوعه في بداية كلِّ شهرٍ أو اختفاءه في نهايته، وهناك تفاوتٌ بينهما من حيث عدد الأيَّام؛ فالسنة القمريَّة ثلاثمائة وأربعةٌ وخمسون يومًا، وبعض يوم (خُمْس أو سُدْس)، وأمَّا الشمسيَّة فثلاثمائة وخمسةٌ وستُّون يومًا وبعض يوم (ربع يوم)، ولهذا كان التفاوت بينهما أحد عشر يومًا إلَّا قليلًا: تكون في كلِّ ثلاثة وثلاثين سنة وثلث سنة: سنة. ولهذا قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25]، قيل: معناه ثلاثمائة سنة شمسية. {وَازْدَادُوا تِسْعًا}: بحساب السنة القمرية. ومراعاة هذين عادة كثيرٍ من الأمم (من أهل الكتابين)[5].

كيف تتأثر العبادات بالتاريخ الهجري؟

تتأثَّر العبادات التي يتعبَّد بها الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى بالتقويم الهجري؛ صحيحٌ أنَّ السَّنَة الشمسيَّة والسَّنَة القمريَّة يتَّفقان في عدد الشهور، لكنَّهما يختلفان في عدد الأيَّام؛ فالسنة الشمسيَّة تزيد على السنة القمريَّة بأحد عشر يومًا كما ذكرنا، وهذا بلا شَكٍّ سيُؤثِّر في قضيَّةٍ حول الزكاة؛ لأنَّ الزكاة إذا حُسِبَت بالسنة القمريَّة سيختلف الأمر عمَّا إذا حُسِبَت بالسنة الشمسيَّة، لأنَّنا إذا حسبنا الزكاة بالسنة الشمسيَّة أكلنا على الفقراء إحدى عشر يومًا، وهذا يعني أنَّنا إذا استمررنا في ذلك نكون بعد ثلاثةٍ وثلاثين سنةً شمسيَّةً أكلنا سنةً كاملةً من الزكاة على الفقراء[6].

قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]. فالمقصود بالاثني عشر شهرًا التي منها أربعةٌ حُرُم السنة القمريَّة، فمن كان يُريد أن يتبع المعتمد عند ربِّ العالمين في تاريخ السنين فلا بُدَّ أن يتبع التقييم القمري؛ لأنَّ الله أخبر أنَّ هذا هو الدين القيِّم ليُبيِّن الفرق بينه وبين ما تعتمده الأمم الأخرى[7]، ولذلك قال القرطبي رحمه الله: «هذه الآية تدلُّ على أنَّ الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنَّما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهرًا؛ لأنَّها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعيَّن له شهر، وإنَّما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج»[8].

ويقول الشوكاني رحمه الله: «في هذه الآية بيانٌ أنَّ الله سبحانه وضع هذه الشهور وسمَّاها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف يوم خلق السموات والأرض؛ المحرم، وصفر، وربيع، وربيع، وجماد، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وذو القعدة، وذو الحجة، وهذا هو المعروف عند الله، المعلوم عند ربِّ العالمين، المعتمد يوم خلق السموات والأرض، وأنَّ هذا هو الذي جاءت به الأنبياء ونزلت به»[9].

يقول الله سبحانه وتعالى أيضًا:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189]. ومعنى الآية أنَّها مواقيتٌ للناس في حَجِّهم وصومهم وفطرهم ونُسُكهم وحلهم وعدَّة نسائهم، ونكاحهم وطلاقهم وعدَّتهم[10]، وغير ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إنَّها مواقيتٌ للناس، وهذا عامٌّ في جميع أمورهم، فجعل الله الأهلَّة مواقيتًا للناس في الأحكام الثابتة بالشرع، وهذا يدخل فيه الصيام، والحج، ومدَّة الإيلاء، وصوم الكفَّارة»[11].


[1] السخاوي: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، ترجمة الدكتور صالح أحمد العلي، مؤسسة الرسالة، ص44.
[2] محمد صالح المنجد: تفريغ لحلقات برنامج الراصد، 55/5.
[3] الرازي: تفسير الرازي (مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1420هـ، 16/40.
[4] سيد طنطاوي: التفسير الوسيط، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998م، 6/283.
[5] ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ= 1995م، 25/138.
[6] محمد صالح المنجد: تفريغ لحلقات برنامج الراصد، 55/7.
[7] محمد صالح المنجد: تفريغ لحلقات برنامج الراصد، 55/8.
[8] القرطبي: تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1384هـ= 1964م، 8/133.
[9] الشوكاني: فتح القدير، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى - 1414هـ، 2/409.
[10] القرطبي: تفسير الطبري (جامع البيان في تأويل القرآن)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسَّسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420هـ= 2000م، 3/554.
[11] ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجموع الفتاوى، 25/133، 134.
قصة الإسلام