عبادة الإصلاح بين الناس
20-02-2017, 12:15 PM

عبادة الإصلاح بين الناس

أنور إبراهيم النبراوي


الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:


الإصلاح من المصالحة؛ وذلك برفع النزاع والفرقة، وإطفاء الثائرة بين الناس، وإزالة الفساد الذي دب إليها بسبب الخصام والتنازع على أمر من أمور الدنيا، والإصلاح بين المؤمنين إذا تنازعوا: واجب لا بد منه؛ لتستقيم حياة المجتمع، ويتجه نحو العمل المثمر، قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا }.

إن الإصلاح من مقتضيات الأخوة بين المؤمنين، ومن لوازم التقوى، وبه تستمطر الرحمات من الله؛ قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، فإن رحمة الله قريب من المحسنين الذين يصلحون بين الناس، فالإصلاح نوع من أنواع الإحسان، ولهذا يأتي بمعنى الإحسان؛ قال تعالى:{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

وضد الإصلاح الإفساد؛ كما في قوله: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، ومن علامات المنافقين وسيماهم: السعي في الفساد، ومحاربة الإصلاح، ثم ادعاء خلاف ذلك؛ كما أخبر الله عنهم:{قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، بينما حقيقة أمرهم؛ أنهم كما رد الله عليهم بقوله:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}.

إن الإصلاح هو: ما يميز أهل الإيمان في زمن الغربة؛ عن زيد بن مِلْحَةَ - رضي الله عنه
- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إن الدين ليَأْرِزُ إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليَعْقِلَنَّ الدِّينُ من الحجاز مَعْقِلَ الأُرْوِيَّةِ من رأس الجبل، إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي).

وقال الله:{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ }، وأصلح هنا تدل أيضًا على معنى آخر لطيف للإصلاح، ألا وهو: الرفق.


فالإصلاح معناه يدل على حسنه، فكم من فساد انقلب بالإصلاح إلى صلاح. لما يحدث فيه من التسامح والعفو أو التراضي على وجه من الوجوه.

* قال الفضيل:"إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلًا، فقل يا أخي: اعف عنه، فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله - عز وجل - قل: فإن كنت تحسن تنتصر مثلًا بمثل، وإلا فارجع إلى باب العفو، فإنه باب أوسع؛ فإنه من عفا وأصلح، فأجره على الله، وصاحب العفو ينام الليل على فراشه، وصاحب الانتصار يقلب الأمور".

فالإصلاح من أعظم الخيرات، كما أن عواقبه كلها خير:[ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ].


والإصلاح منبعه: النفوس السامية، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج بنفسه، ويسعى للإصلاح بين الناس، فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال:" اذهبوا بنا نصلح بينهم"، ووقع ذلك منه: امتثالا لأمر الله، قال تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}، وهو في الآية جاء قرين الأمر بالمعروف، وفي موضع آخر جاء بمعنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.

* قال الطبري عند قوله تعالى:[أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ] هو:" الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين بما أباح الله الإصلاح بينهما: ليرجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة على ما أذن الله وأمر به".

وكما أن في الإصلاح ما فيه من الأجور والخيرات والفضائل العظيمة، كذلك فإن في تركه: خسرانا كبيرا وشرا مستطيرا؛ فقد جاء عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟، قالوا: بلى، قال: صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة"، وأخبر المصطفىصلى الله عليه وسلم بأنها لا تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين.

بل ويكفي أثرا وخطرا ما يحل بالمتخاصمين من حرمان المغفرة، وعدم ارتفاع العمل الصالح لهما حتى يحدث الصلح بينهما؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه
- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا. أنظروا هذين حتى يصطلحا. أنظروا هذين حتى يصطلحا"؛ لأنه بالإصلاح تحل المودة محل القطيعة، والمحبة محل الكراهية، ولذا يستباح الكذب في سبيل تحقيقه، قال ابن بابَوَيْه:" إن الله - عز وجل - أحب الكذب في الإصلاح، وأبغض الصدق في الفساد"، وعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:" ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيرًا وينمي خيرًا".

ويقول ابن القيم - رحمه الله -:" فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى الله سبحانه ورضى الخصمين، فهذا أعدل الصلح وأحقه، وهو يعتمد العلم والعدل، فيكون المصلح عالمًا بالوقائع، عارفًا بالواجب، قاصدًا للعدل، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم"، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الناس صدقة".

إن الإصلاح بين الناس يغرس في نفوسهم فضيلة العفو، لا سيما بين الأقارب، وآكد من ذلك بين الأزواج، كما قال تعالى:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}، ومما يؤكد فضل الإصلاح وعظم مكانته: تقدمه في الذكر على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم مع أن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم: أجل قدرا وأولى أهمية وفضلا، وذلك حين قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }، كل ذلك: تنبيها وبيانا لأهمية الإصلاح.