قصّة : ألفريــــــــــــد و النّبـــــــــــــــلاء !
09-10-2016, 02:28 PM
عاش ألفريد غريبا في قرية النّبلاء ، ممقوتا من أهلها الذين يؤمنون بالفوارق و الطبقات الاجتماعية ، ينظرون إليه نظرة الاحتقار و الاستعلاء ، و لا يعيرون له اهتماما ، يُقَدَّمُ عليه غيره مهما صَغُر شأنه ، رغم نباهته و سعة علمه و رجاحة عقله وحدّة ذكائه .
اضطره ذلك للعمل في تنظيف مجاريهم النّتنة و جمع قمامتهم العفنة ، عسى أن يُحصّل قوت يومه ، و غالبا ما كان يوصف بالحقير و يُنعت بالدّنيء ، و يُعيّر بمهنته التي لا يقوم بها أحد سواه من أهل المدينة الذين تشبّعت نفوسهم كبرا و ارتوت ترفّعا ، و أُشْرِبَت قلوبهم الصّلبة من ذلك خيلاء كاذبا .
كان له صديقان ، أحدهما طبيب حاذق يُدعى هنري و الآخر فيلسوف مفكّر و اسمه نيكولاس ، اعترفا بقوة حكمته و بحر اطّلاعه و تنوّع علومه ، و كانا يحسدانه على ذلك ، و كثيرا ما كان يتناقش ثلاثتهم و يتجادلون في قضايا الفلسفة و الفكر و العلوم و الاجتماع حتى وقع بينهم يوما ما خلاف كبير .
الفيلسوف نيكولاس : قال أهل الفكر و أرباب الفلسفة شرف الإنسان و رفعته من شرف مهنته ، فالملك شرفه من سلطته و تاجه ، و التاجر شرفه من ثروته و ماله ، و غمز الطبيب ساخرا من ألفريد.
الطّبيب هنري : أوافقك الرأي أيها الفيلسوف البارع ، فالمرء يستقي نبله من نبل العمل الذي يقدمّه للبشر و مقدار احتياجهم له ، فأنت تربي الأجيال و تجتهد في حلّ قضاياهم مُعْمِلا تفكيرك فيما يجلب لهم المصالح و السّرور، و ما يدفع عنهم المضار و الشّرور ، و أنا أعالج أبدانهم إذا تسرّبت لها العلل و الأسقام ، و أنفسهم إذا تخللتها الأوهام ، و لا يستقيم أمر الناس دون وجودنا ، و لا ينافسنا في هذا الشّرف و النبل إلا أصحاب المعالي من الملوك و الوزراء و رجال الكنيسة العظماء .
ألفريد : إنّكما واهمان يا سادة ، فالشرف و النبل قيمتان جليلتان ، ينالهما المرء بحسن أخلاقه و بجمال سمته من تواضع و نجدة و صدق و مروءة …
و إن كان الأمر كما ذكرتما فأنا أكثر منكما نبلا ، و أكبر شرفا من الملك نفسه ، لأنني أطهّر قريتكم من القذارة ، و أنظّف شوارعها و أحياءها ، كما يطهّر الدواء مجاري العروق من السّقام ، و يُذهب علل الأبدان و يعيد لها عافيتها ، و يسترد نضارتها و رونقها بعد ضعفها و ذبولها ، و من العبث أن يتخلّى المرء عن أنفاسه التي تنعش روحه بأسباب البقاء .
أغرب الفيلسوف و الطبيب في الضحك حتّى تلوّت أبدانهم و ترنّحت لما سمعا كلامه .
الفيلسوف نيكولاس : ما ذكرته يا سيد هراء يُكذّبه واقعك البائس ، و ما نحظى به نحن من احترام و تقدير من أصغر نبيل إلى الملك نفسه .
ألفريد : هذا ما تواطأتم عليه أيّها السادة من مفاهيم مريضة للنبل و الشرف ، لكن التجربة وحدها تدلّ على المخطئ منا و المصيب .
الطبيب هنري : ماذا تقصد بذلك يا سيّد ؟
ألفريد : سنخضع ما تناقشنا حوله للتجربة و البرهان ، لنحدد الفائز منا و الخاسر في آخر المطاف ، فلترحلا عن القرية لمدة عام كاملة ، لنرى قيمة وجودكما بين الناس و عند عودتكما أفعل ما فعلتما .
رحل كل من الفيلسوف نيكولاس و الطبيب هنري بعيدا عن قريتهما لمدة سنة كاملة ، و بعد عودتهما التقيا بألفريد في المكان نفسه ، و طلبا منه أن يسرد عليهما ما جرى ؟
ألفريد : عند غياب الفيلسوف نيكولاس تراكمت المشاكل ، فاستدعى الملك الساسة من أهل الحل و العقد و الوزراء للتشاور و النظر فيما جدّ من قضايا ، ثم عكفوا على حلّها حتى أتوا على آخرها .
كما تسبب غيابك أيها الطبيب في تزايد الأمراض التي أودت بحياة بعض الناس ، فسخّر الملك تلاميذك النجباء للتصدّي لها فاستماتوا في تشخيصها و ابتكار الأدوية و العقاقير اللازمة و تمكّنوا بما أورثتهم من علوم الطب و أسراره من اجتثاثها جميعا .
لما سمعا ما ذكره صمتا وأطرقا حياء لأنّ غيابهما لم يكن له وزنه كما ظنا و اعتقدا.
ألفريد : الآن جاء دوري لأرحل المدة نفسها كما اتفقنا ، و نلتقي بعد عام في دارك أيها الفيلسوف و حول هذه الطاولة ، لنرى فصل الخطاب عندما تتجلى الحقيقة و يُرفع برقعها.
ـ رحل ألفريد كما اتفقوا ، و بعد عام رجع إلى القرية ، فوجدها خاوية على عروشها قد فارق كل سكانها الحياة ، و لم تبق منهم غير هياكلهم العظمية متناثرة في كل شارع ، فأفزعه ذلك و هاله الأمر و أدهشه .
أسرع الخطى نحو بيت الفيلسوف نيكولاس ليستطلع الأمر ، فوجد رفاته على الكرسي إلى جانب الطاولة و أمامه رسالة ، أدرك ألفريد أنّ أمرا جللا قد حدث .
كانت الرسالة مكتوبة بخط يد الفيلسوف نيكولاس قبل أن يودّع الدنيا ، فض ألفريد غلافها و بدأ بقراءتها .
رسالة الفيلسوف : صديقي الحكيم ألفريد ، لما غادرت َ القرية بعد شهر واحد ، تكدّست أطنان من النفايات و القاذورات و انتشرت الروائح الكريهة في كل مكان ، فالتمست من الملك أن يعيّن من أهل القرية من يقوم بإزالتها ، فامتنع لأنّ قانون النبل يمنع كل نبيل من رفع القمامة أو لمسها .
و لقد اجتهدت لإقناع الناس بحتمية ذلك فأبوا و رفضوا بشدة ، فتفشّى فيهم وباء قاتل ، حار صديقنا الطبيب هنري و تلاميذه في علاجه و بعد صراع طويل من المحاولات للقضاء على الوباء هلك هنري و من معه ، فساء الحال و تدهور الوضع .
ثم بدأ الناس يموتون كل يوم بالآلاف حتى أَصابتني العدوى ، و لست آسفا عليهم و على نفسي ، فالجزاء من جنس العمل ، فحررت لك هذه الرسالة لتعلم ما جرى و لأعترف لك يا صديقي بأنّك أنبل و أشرف من الملك نفسه و السلام .
أجهش ألفريد بالبكاء ، و ندم على سفره الذي لم يتوقّع منه كارثة كبرى تعود بالوبال على الجميع ، ثم غادر القرية و قلبه تسكنه الأحزان و ترتع فيه.
السعيد محرش
الطارف ـ الجزائر ـ
اضطره ذلك للعمل في تنظيف مجاريهم النّتنة و جمع قمامتهم العفنة ، عسى أن يُحصّل قوت يومه ، و غالبا ما كان يوصف بالحقير و يُنعت بالدّنيء ، و يُعيّر بمهنته التي لا يقوم بها أحد سواه من أهل المدينة الذين تشبّعت نفوسهم كبرا و ارتوت ترفّعا ، و أُشْرِبَت قلوبهم الصّلبة من ذلك خيلاء كاذبا .
كان له صديقان ، أحدهما طبيب حاذق يُدعى هنري و الآخر فيلسوف مفكّر و اسمه نيكولاس ، اعترفا بقوة حكمته و بحر اطّلاعه و تنوّع علومه ، و كانا يحسدانه على ذلك ، و كثيرا ما كان يتناقش ثلاثتهم و يتجادلون في قضايا الفلسفة و الفكر و العلوم و الاجتماع حتى وقع بينهم يوما ما خلاف كبير .
الفيلسوف نيكولاس : قال أهل الفكر و أرباب الفلسفة شرف الإنسان و رفعته من شرف مهنته ، فالملك شرفه من سلطته و تاجه ، و التاجر شرفه من ثروته و ماله ، و غمز الطبيب ساخرا من ألفريد.
الطّبيب هنري : أوافقك الرأي أيها الفيلسوف البارع ، فالمرء يستقي نبله من نبل العمل الذي يقدمّه للبشر و مقدار احتياجهم له ، فأنت تربي الأجيال و تجتهد في حلّ قضاياهم مُعْمِلا تفكيرك فيما يجلب لهم المصالح و السّرور، و ما يدفع عنهم المضار و الشّرور ، و أنا أعالج أبدانهم إذا تسرّبت لها العلل و الأسقام ، و أنفسهم إذا تخللتها الأوهام ، و لا يستقيم أمر الناس دون وجودنا ، و لا ينافسنا في هذا الشّرف و النبل إلا أصحاب المعالي من الملوك و الوزراء و رجال الكنيسة العظماء .
ألفريد : إنّكما واهمان يا سادة ، فالشرف و النبل قيمتان جليلتان ، ينالهما المرء بحسن أخلاقه و بجمال سمته من تواضع و نجدة و صدق و مروءة …
و إن كان الأمر كما ذكرتما فأنا أكثر منكما نبلا ، و أكبر شرفا من الملك نفسه ، لأنني أطهّر قريتكم من القذارة ، و أنظّف شوارعها و أحياءها ، كما يطهّر الدواء مجاري العروق من السّقام ، و يُذهب علل الأبدان و يعيد لها عافيتها ، و يسترد نضارتها و رونقها بعد ضعفها و ذبولها ، و من العبث أن يتخلّى المرء عن أنفاسه التي تنعش روحه بأسباب البقاء .
أغرب الفيلسوف و الطبيب في الضحك حتّى تلوّت أبدانهم و ترنّحت لما سمعا كلامه .
الفيلسوف نيكولاس : ما ذكرته يا سيد هراء يُكذّبه واقعك البائس ، و ما نحظى به نحن من احترام و تقدير من أصغر نبيل إلى الملك نفسه .
ألفريد : هذا ما تواطأتم عليه أيّها السادة من مفاهيم مريضة للنبل و الشرف ، لكن التجربة وحدها تدلّ على المخطئ منا و المصيب .
الطبيب هنري : ماذا تقصد بذلك يا سيّد ؟
ألفريد : سنخضع ما تناقشنا حوله للتجربة و البرهان ، لنحدد الفائز منا و الخاسر في آخر المطاف ، فلترحلا عن القرية لمدة عام كاملة ، لنرى قيمة وجودكما بين الناس و عند عودتكما أفعل ما فعلتما .
رحل كل من الفيلسوف نيكولاس و الطبيب هنري بعيدا عن قريتهما لمدة سنة كاملة ، و بعد عودتهما التقيا بألفريد في المكان نفسه ، و طلبا منه أن يسرد عليهما ما جرى ؟
ألفريد : عند غياب الفيلسوف نيكولاس تراكمت المشاكل ، فاستدعى الملك الساسة من أهل الحل و العقد و الوزراء للتشاور و النظر فيما جدّ من قضايا ، ثم عكفوا على حلّها حتى أتوا على آخرها .
كما تسبب غيابك أيها الطبيب في تزايد الأمراض التي أودت بحياة بعض الناس ، فسخّر الملك تلاميذك النجباء للتصدّي لها فاستماتوا في تشخيصها و ابتكار الأدوية و العقاقير اللازمة و تمكّنوا بما أورثتهم من علوم الطب و أسراره من اجتثاثها جميعا .
لما سمعا ما ذكره صمتا وأطرقا حياء لأنّ غيابهما لم يكن له وزنه كما ظنا و اعتقدا.
ألفريد : الآن جاء دوري لأرحل المدة نفسها كما اتفقنا ، و نلتقي بعد عام في دارك أيها الفيلسوف و حول هذه الطاولة ، لنرى فصل الخطاب عندما تتجلى الحقيقة و يُرفع برقعها.
ـ رحل ألفريد كما اتفقوا ، و بعد عام رجع إلى القرية ، فوجدها خاوية على عروشها قد فارق كل سكانها الحياة ، و لم تبق منهم غير هياكلهم العظمية متناثرة في كل شارع ، فأفزعه ذلك و هاله الأمر و أدهشه .
أسرع الخطى نحو بيت الفيلسوف نيكولاس ليستطلع الأمر ، فوجد رفاته على الكرسي إلى جانب الطاولة و أمامه رسالة ، أدرك ألفريد أنّ أمرا جللا قد حدث .
كانت الرسالة مكتوبة بخط يد الفيلسوف نيكولاس قبل أن يودّع الدنيا ، فض ألفريد غلافها و بدأ بقراءتها .
رسالة الفيلسوف : صديقي الحكيم ألفريد ، لما غادرت َ القرية بعد شهر واحد ، تكدّست أطنان من النفايات و القاذورات و انتشرت الروائح الكريهة في كل مكان ، فالتمست من الملك أن يعيّن من أهل القرية من يقوم بإزالتها ، فامتنع لأنّ قانون النبل يمنع كل نبيل من رفع القمامة أو لمسها .
و لقد اجتهدت لإقناع الناس بحتمية ذلك فأبوا و رفضوا بشدة ، فتفشّى فيهم وباء قاتل ، حار صديقنا الطبيب هنري و تلاميذه في علاجه و بعد صراع طويل من المحاولات للقضاء على الوباء هلك هنري و من معه ، فساء الحال و تدهور الوضع .
ثم بدأ الناس يموتون كل يوم بالآلاف حتى أَصابتني العدوى ، و لست آسفا عليهم و على نفسي ، فالجزاء من جنس العمل ، فحررت لك هذه الرسالة لتعلم ما جرى و لأعترف لك يا صديقي بأنّك أنبل و أشرف من الملك نفسه و السلام .
أجهش ألفريد بالبكاء ، و ندم على سفره الذي لم يتوقّع منه كارثة كبرى تعود بالوبال على الجميع ، ثم غادر القرية و قلبه تسكنه الأحزان و ترتع فيه.
السعيد محرش
الطارف ـ الجزائر ـ
من مواضيعي
0 كُـــــــــــنْ حَبـيبِـــــــــي
0 صـــــــــــورة الوجـــــــــــــود
0 صـــــــــــورة الوجـــــــــــــود
0 الـــتّـــــمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــرّد
0 النمــــــــــــــــــــــــــــر و الوشـــــــــــــــــــــــق
0 سمفـــــــــــــــونيــــــة الرّبــيــــــــــــــــــــــــع
0 صـــــــــــورة الوجـــــــــــــود
0 صـــــــــــورة الوجـــــــــــــود
0 الـــتّـــــمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــرّد
0 النمــــــــــــــــــــــــــــر و الوشـــــــــــــــــــــــق
0 سمفـــــــــــــــونيــــــة الرّبــيــــــــــــــــــــــــع