الوسطية في التعامل مع الدنيا
06-03-2016, 01:49 PM
الوسطية في التعامل مع الدنيا



الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:



حث الإسلام على عمارة الأرض، وعمارتها تكون: أولا بإقامة دينه، ثم بأداء الحقوق وحفظها، وبعمارتها المعنوية والمادية بما ينفع الناس، ويحقق لهم العيش السعيد فيما لا يطغى على المعايير المعنوية والأخلاقية.
وألا تكون الأهداف المادية هي: المبتغى والمرتجى، بل لابد من تقوية الأهداف المعنوية والدينية والأخلاقية، فالتوازن مهم في التعامل مع الدنيا.
فطُوبَى لمن اتَّصَفَ بالصفات التي يُحبُّها الله ويرضاها مع الإيمان واليَقين، وويلٌ لمن اتَّصَف بالصفات المذمومة، والأخلاق الممقوتَة.
ألا وإن صلاحَ هذه الأمة في أوَّلها بالزُّهد واليقين، وهلاكَها بالحِرص والأمل.
والزُّهدُ الواجب هو:" كفُّ النفس عن المُحرَّمات، وسلامةُ المُسلم من أموال الناس ودمائِهم، وتوقِّي المكاسِب المُحرَّمة، والحذرُ من المُشتبَهات، وإعطاء الحقوق للخلق المُتعلِّقة بالذِّمَم والأمانات".
وما زادَ على ذلك فهو: إحسانٌ وفضلٌ، وخيرٌ وبرٌّ، وطُهرٌ وزكاةٌ، مُرغَّبٌ فيه شرعًا، يُعظِمُ الله به الأجرَ والثوابَ، ويرفعُ به الدرجات، ويدفعُ الله به عن العبد خِزيَ الدنيا، ومصارِع السُّوء، ويُحسِنُ به العاقبَة، قال الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
والفلاح منزلةٌ ينالُها العبدُ برحمةِ الله، ووصفَ الله تعالى رسولَه – صلى الله عليه وسلم – والمُؤمنين معه بها، فقال تعالى:(لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وسخاوةُ النفس، وسلامةُ الصدر، وحُسن السريرة، وطِيبُ السَّجايا: تُلائِمُ الزُّهد وتألَفُه وتكونُ معه، وهذه الخِصالُ ونحوُها أو واحدةٌ منها مع صحة العقيدة: تُدخِلُ صاحبَها الجناتِ بسلامٍ؛ فعن أنس – رضي الله عنه – قال: كنا جُلوسًا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: « يطلُعُ عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة»، فطلَع رجلٌ من الأنصار تنطُفُ لحيتُه من وضوئِه، قد علَّق نعلَيْه بيدِه الشِّمال، فلما كان الغدُ قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – مثلَ ذلك، فطلعَ ذلك الرجلُ مثلَ المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – مثلَ مقالتِه أيضًا، فطلَع ذلك الرجلُ على مثلِ حالِه الأُولى.
فلما قامَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – تبِعَه عبدُ الله بن عمرو فقال: إني لاحَيتُ أبي، فأقسمتُ ألا أدخُلَ عليه ثلاثًا، فإن رأيتَ أن تُؤوِيَني إليك حتى تمضِي فعلت؟ قال: نعم.
قال أنس: فكان عبدُ الله يُحدِّثُ أنه باتَ معه تلك الليالي الثلاث، فلم يرَه يقومُ من الليل شيئًا، غيرَ أنه إذا تعارَّ تقلَّبَ على فراشِه ذكرَ اللهَ وكبَّرَ، حتى يقومَ لصلاةِ الفجر، قال عبدُ الله: غيرَ أني لم أسمَعه يقول إلا خيرًا.
فلما مضَت الليالي الثلاث، وكِدتُ أن أحتقِرَ عملَه، قلتُ: “يا عبد الله! لم يكُن بيني وبين أبي غضبٌ ولا هِجرةٌ، ولكني سمعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول لك ثلاث مرات: «يطلُعُ عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة». فطلعتَ أنت الثلاث المرات، فأردتُ أن آوِيَ لأنظُر ما عملُك فأقتدِيَ به، فلم أرَك تعملُ كبيرَ عمل، فما الذي بلغَ بك ما قالَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -؟!”.
قال: ما هو إلا ما رأيتَ، فلما ولِّيتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيتَ، غيرَ أني لا أجِدُ في نفسي لأحدٍ من المُسلمين غِشًّا، ولا أحسُدُ أحدًا على خيرٍ أعطاه الله إياه.
قال عبدُ الله: “فهذه التي بلغَت بك”؛ رواه أحمد والنسائي، وإسنادُه صحيحٌ.
وعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: قلتُ: يا رسول الله! أيُّ الناس خيرٌ؟ قال: «كلُّ مؤمنٍ مخمُوم القلب، صدوقُ اللسان». قلنا: يا رسول الله!، وما مخمُوم القلب؟، قال: «التقِيُّ النقِيُّ الذي لا غِلَّ فيه ولا غِشّ، ولا بغيَ ولا حسَد»؛ رواه ابن ماجه بإسنادٍ صحيحٍ.
وأما الحِرصُ على جمع الدنيا من حلالٍ وحرامٍ فهو: من أدواءِ القلوب، وأسباب الهلَكة، ومَحق الرِّزق، ومن الأضرار العاجِلة والآجِلة.
والحِرصُ يُلائِمُه ويُوافِقُه ويُؤاخِيه ويكونُ معه البُخلُ والشُّحُّ، والبُخلُ من الخِصال الذَّميمة التي يُبغِضُها الله تعالى؛ عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «السَّخِيُّ قريبٌ من الله، قريبٌ من الناس، قريبٌ من الجنة، بعيدٌ من النار، والبخيلُ بعيدٌ من الله، بعيدٌ من الناس، بعيدٌ من الجنة، قريبٌ من النار، ولَجاهلٌ سخِيٌّ أحبُّ إلى الله من عابدٍ بخيلٍ»؛ رواه الترمذي.
والبُخلُ هو: منعُ الزكاة والنَّفَقاتُ الواجِبة، وحِرمانُ السائل والضيف، والإمساكُ عن أبوابِ الخير بفضلِ المال، قال الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى.وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى . وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) ، وقال تعالى في أهل النفاق: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ)،أي: يبخَلون بالإنفاق في سُبُل الخير.
والشُّحُّ شرٌّ من البُخل؛ فالشُّحُّ هو: الحِرصُ على أموال الناس وحقوقهم، والسعيُ في تحصيلِها وضمِّها إلى اليَد ظُلمًا وعُدوانًا وبغيًا وتكالُبًا على الدنيا الزائِلَة الغرَّارة، وحسدًا، واستِخفافًا بعذابِ الله – عز وجل – وعقوبتِه، وعدمَ خوفٍ من الربِّ – جل وعلا -، ونسيانًا للعواقِب الوَخيمَة التي تنتظِرُ الشَّحيحَ.
وقد حذَّرَنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – من الشُّحِّ؛ فعن جابر – رضي الله عنه – أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إياكُم والظُّلم؛ فإن الظُّلمَ ظُلُماتٌ يوم القيامة، واتَّقُوا الشُّحَّ؛ فإن الشُّحَّ أهلكَ من كان قبلَكم، حملَهم على أن سفَكوا دماءَهم، واستَحلُّوا محارِمَهم»؛ رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «واتَّقُوا الفُحشَ والتفحُّش؛ فإن الله لا يُحبُّ الفُحشَ ولا التفحُّشَ، وإياكُم والشُّحَّ؛ فإنه أهلكَ من كان قبلَكم، أمرَهم بالظُّلم فظلَموا، وأمرَهم بالفُجور ففجَرُوا، وأمرَهم بالقَطيعة فقَطَعوا»؛ رواه أحمد وأبو داود.
وعن أبي الهيَّاج الأسدي قال: كنتُ أطوفُ بالبيت، فرأيتُ رجُلاً يقول: اللهم قنِي شُحَّ نفسي، لا يَزيدُ على ذلك. فقلتُ له، فقال: إني إذا وُقيتُ شُحَّ نفسي لم أسرِق، ولم أزنِ، ولم أفعل. وإذا الرجلُ عبدُ الرحمن بن عوفٍ – رضي الله عنه -؛ رواه ابن جرير.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «شرُّ ما في رجُلٍ: شُحٌّ هالِع، وجُبنٌ خالِع»؛ رواه أحمد وأبو داود.
ومن أشراط الساعة: أن يُلقَى الشُّح؛ يعني: ينزِلُ بالقلوب.
ويكثُر بالشُّحّ العُدوان، والظُّلم، والبَغيُ، والقَطيعَة، والفِتَن، وأخذُ المالِ من حلالٍ أو حرامٍ، وقد يقعُ القتلُ، ولا يزالُ يزدادُ الشُّحُّ حتى تُخرِجَ الأرضُ كُنوزَها من الذهبِ والفضَّة، فتقذِفُ ما في باطنِها كأمثالِ الاسطُوان، كلُّ قومٍ يظنُّون أن ذلك من أرضِهم، وهي عامَّةٌ في جميع الأرضِ.
فلا يُنتفَعُ بعد ذلك بذهبٍ ولا بفضَّةٍ، فيأتي القاتلُ، فيقول: في هذا قتلتُ، ويأتي القاطِع، فيقول: في هذا قطعتُ رحِمِي، ويأتي السارِقُ، ويقول: في هذا قُطِعَت يدِي، وهذا من أشراط الساعة.
قال الله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا).
إن الأملَ يضعُفُ معه العمل، ويُنسِي الآخرة، وإن الهوَى يصُدُّ عن الحقِّ، فاحذَروا شهوات الغيِّ في بُطونكم وفُرُوجِكم، وعظِّمُوا حُرُمات الله، ولا تتعدَّوا حُدودَه، واحفَظوا حقوقَ المُسلمين وحُقوقَ الجار؛ فاليومَ عملٌ واجتِهاد، غدًا حسابٌ وجزاءٌ، قال الله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
وفي الحديث: «لن تزُولا قدَمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن أربع: عن عُمره فيما أفناه، وعن شبابِه فيما أبلاه، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيمَ أنفقَه، وعن علمِه ماذا عمِلَ فيه».
فقدِّموا لأنفُسِكم أفضلَ ما تقدِرون، ولا تغُرَّنَّكم زهرةُ الحياة الدنيا كما غرَّت الهالِكين من قبلكم.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

منقول بتصرف يسير.
جزى الله خيرا راقمه.