رد: مقالات للكاتب والمعارض الجزائري يحي ابو زكريا
21-11-2008, 10:32 AM
رؤى فكرية
عندما ذهب بعض النقّاد إلى القول بأنّ مالك بن نبي تجاوز المفكر الإجتماعي إبن خلدون لم يبتعدوا عن جادة الصواب , فمالك بن نبي وضع مجموعة من النظريات و الرؤى التي تصلح أن تكون مشروعا للنهضة المرتقبة , و قد ترك إرثا كبيرا من الأفكار و الرؤى والنظريات و التي فصلّها تفصيلا في كل كتبه .
في البداية تجب الإشارة إلى أنّ مالك بن نبي قدم تعريفا مميزا للحضارة و نبهّ المسلمين إلى ضرورة العمل على إنتاج الحضارة لأنّها الإطار الذي ستحلّ في خضمها كل المشكلات والمعضلات في العالم الإسلامي , و قد كان يعيب على المفكرين الذين طرحوا مشاريع جزئية و غاصوا في البحث عن الأمراض دون الغوص في العلل الحقيقية لهذه الأمراض , وقد إعترض حتى على جمال الدين الأفغاني و محمد عبده اللذين أعجبا مالك بن نبي بطرحها كونهما كانا حريصين على تعليم المسلمين العقيدة و وهم في الواقع في غغنى عن التعليم لأنّ العقيدة متجذرة في الواقع الإسلامي .
و يأخذ مالك بن نبي على المسلمين إدمان الكلام على الفعل الحضاري الحقيقي و يسرد في كتابه مذكرات شاهد على القرن قصّة رجل جزائري طلب ان يتكلم في جمع وأخذ يصيح ويصرخ إلى أن سمح له بإعتلاء المنبر وكان في بده مكنسة فقال : أريد أن أكنس الإستعمار من الجزائر كما أكنس التراب بهذه المكنسة و نزل من المنبر وكله رضا بإنّه أدّى دوره , لقد قام بدوره في مقاومة الإستعمار بهذا المشهد , و حولّ الشحنة الإيمانية إلى شحنة كلامية ضاعت في الهواء , و لم يبق شيئ نقدمه للأوطان في المعارك الحقيقية .
و كان بن نبي يطالب بالتروي في تصميم أي مشروع نهضوي و أن لا نستعجل الخطى , و لذلك ظلّ على مدار سنوات يصممّ مروعه النهضوي وقد بدأه بتعريفه للحضارة و ضرورة أن تصبح هدفا لكل المسلمين . وفكرة الحضارة عند مالك بن نبي بمثابة الأصل الذي تفرعّت عنه مجموعة كبيرة من الأفكار و الرؤى والطروحات , و إذا أردنا أن نفصلّ منهجية مالم بن نبي الفكرية فهي كالتالي :
الحضارة : ما هيتها , آليات صناعتها , هويتها , دور الفكرة الدينية في إطلاق الحضارة , الإسلام و الحضارة , الحضارة ليس حالة أبدية فهي خاضعة لحركة التاريخ و الحضارة ذاتية وليست منتجا مستوردا ..
النهضة : شروط النهضة , و كيفية النهضة , نهضة الفرد أم المجموع , آليات النهضة , الفكرة التي تحرك النهضة .
الإنسان : الإنسان بإعتباره محركا لحركة الترايخ وصانعا للنهضة والحضارة .
مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي : الإنصراف إلى المشاكل الفكرية الوهمية و الإبتعاد عن الأفكار الجوهرية التي تصنع النهضة .
الفعالية و المصداقية : عدم إرتقاء المسلم إلى مستوى الفعالية الحضارية أنتج التخلف .
الإنقباض والإسترخاء في الدورة الحضارية و مراحل التطور الحضاري .
المنهج التغييري :ضرورة أن يبدأ المسلمون من تغيير أنفسهم كمقدمة لأي تغيير إجتماعي.
القابلية للإستعمار وهو ما فصله مالك بن نبي في مجمل كتبه .
الدورة الحضارية : إنّ الذي ينعم النظر في حركة التاريخ يتجلّى له بوضوح أنّ أقصى ما تعمرّه أيّ قوة حضاريّة هو خمس قرون , لتنتقل الدورة الحضاريّة إلى بقعة أخرى تكون قد إستجمعت شروط الإنطلاق النهضوي والحضاري . وهذا ما تجسدّ بالفعل في التاريخ البشري إذ أنّ المدرسة المسيحية سيطرت على الساحة الدولية في ذلك الوقت لمدّة خمس قرون وبعد ظهور الإسلام إنقرضت حضارة روما التي قامت على أساس الديّانة المسيحيّة فاسحة المجال أمام المدّ الإسلامي الذي يخضع هو الآخر لقوانين التاريخ وسنن الله في الكون , وقد تقلصّ هذا المدّ بفعل ظروف تاريخيّة معروفة للباحثين فعاودت التوجهّات الرومانيّة النهوض من جديد , لتتعثرّ مسيرتها بعد فتح الأندلس , ثمّ أنّ التوجهات ذات الموروث الروماني إستعادت أنفاسها لتسقط إلى حين أمام المدّ العثماني الإسلامي . وبعد أن أستكمل هذا المدّ دورته – يجب الإشارة إلى أنّ الخلافة العثمانية بدأت تبسط سيطرتها على الأقاليم إسلامية في القرن الخامس عشر الميلادي – تساقط لتنبعث من جديد القوة الغربية مشبعة بتراث المسلمين الفكري والسياسي ومشبعة بتجارب مستقاة من واقع التجربة الإنسانية الملئ بالأحداث . و مذ ذلك التاريخ و الحضارة الغربيّة هي المتحكمّة في مجريات الأمور الثقافية والصناعية والسياسية والعسكرية والتقنيّة و الأمنيّة .
وبعد هذه الدورة التامة التي ساد فيها الغرب فستميل هذه الدورة إلى جهة أخرى , خصوصا إذا علمنا أنّ شروط إنتقال هذه الدورة قد بدأت تتوفّر في الجهة التي تنتظر دورها في توجيه الحضارة الإنسانيّة المعاصرة . وقد تمكنّ العديد من المفكرين الغربيين من الوصول إلى هذه النتيجة كروبنسون وبرتراند رسل وروني دوبو و روجي غارودي .
لقد كان مالك بن نبي يدعو إلى الإهتمام بالمستقبل بدل الماضي , بل كان يعتبر الإهتمام والتركيز على الماضي واحدة من أهم الأسباب التي قصمت ظهر العالم الإسلامي .
و يعيش العالم العربي والإسلامي اليوم مرحلة من أعقد مراحله حيث التراجع سيّد الموقف في كل التفاصيل , وقد أصبحت النكسة بل النكسات ملازمة لحياتنا السياسية و الإقتصادية و الثقافية و الإجتماعية ناهيك عن الأمنيّة والعسكريّة , وكلما أوغلنا في قطاع معين نكتشف حجم التراجع فيه , و حجم التخلف أيضا , فقطاع السياسة لا يحتاج إلى تقديم أدلّة و مبررات لكشف حجم التراجع فيه , فالوجوه هي الوجوه , والبرامج هي البرامج , و المناورات هي المناورات , وعندما تطالب الشعوب العربية بالتغيير يقوم رسميونا بإضافة عبارات جديدة إلى مسمياتهم الإيديولوجية التي يحكموننا بها , فيصبح الحزب الدستوري الإشتراكي الحزب الدستوري الديموقراطي والحزب الوطني الإشتراكي الحزب الوطني الديموقراطي , و جبهة التحرير الوطني حزب جبهة التحرير الوطني , و تصبح المملكة الوراثية مملكة دستورية , و المملكة العائلية مملكة وطنية و ما إلى ذلك من التغييرات التي تطاول الظاهر دون المضمون , و الشكل دون الجوهر , و إذا إستماتت جماهيرنا في المطالبة بالتغيير , يقوم رئيس الجمهورية بإقالة رئيس الحكومة في الساعة الواحدة ظهرا ويعينه رئيسا للحكومة بمرسوم جديد في الساعة الثانية ظهرا في نفس اليوم – ساعة واحدة للضحك على الذقون و تخدير الجماهير – ويقوم رئيس الحكومة بجلب نفس الأشخاص ويعين من كان وزيرا للزراعة وزيرا للثقافة فيخلط بين أبي الطيب المتنبي و البطاطا , و يصبح وزير الإقتصاد السابق وزيرا للموارد المائيّة و هلمّ جرّا و يبقى الرئيس هو الرئيس , و النهج هو النهج , و السياسة هي السياسة , وفي الوقت الذي تعلن فيه الحكومات عن إلغاء محاكم أمن الدولة ترفع ميزانية الأجهزة الأمنية لرفع عدد المخبرين الذين سكنوا في كل الزوايا والشوارع و حتى حركة القططة والكلاب الشاردة باتت مرصودة .
ولم يكتف القيمّون على هذه السياسات على القفز على ضرورات التغيير ومواكبة العصر , بل خلقوا تيارات فكرية و إعلامية وثقافية لا تناقش إلا قضايا الماضي الذي هو في حكم العدم كما يقول الفلاسفة , فعلى الصعيد السياسي فإنّ الغالب على نقاشاتنا هو الماضي و العهود البائدة و الحق مع من كان مع علي أو أبي بكر , وصممت برامج إعلامية للحديث عن الماضي و الغوص في تفاصيله , فهذا شاهد على العصر وذاك شاهد على القرن , و ذلك شاهد على المرحلة , ولم أشاهد أي برنامج يتحدث عن المستقبل و يستشرف لنا المرحلة المقبلة في كل تفاصيلها , وفي الغرب وحده يوجد أزيد من ثلاثة آلاف مركز إستشرافي يعنى بالدراسات المستقبلية بما في ذلك مستقبل العالم العربي والإسلامي , أمّا في العالم العربي فلا يوجد أي مركز يتولى قراءة المستقبل لا قريبه ولا متوسطه ولا بعيده .
في خطابنا السياسي مازال حاكمنا يحدثنا عن بداياته , وكيف قام بإنقلابه مع زملائه الذين إنقلب عليهم وقتلهم عن بكرة أبيهم , وما زال رؤساء الحكومات يحدثوننا عن إنجازاتهم السابقة في عهد الحرب الباردة وسياسة القطبين , و مازال مثقفونا يحدثوننا عن إزدهار الثقافة في عهد الأندلس , ومازال خطباؤنا في المساجد يحدثوننا عن صراعات الصحابة و دور البيضاء والصفراء في إثارة الفتن بين المسلمين .
لقد أصبح الماضي مرجعيتنا وثقافتنا وزاويتنا وركننا الركين , وحتى حكامنا يذكروننّا بالماضي لأنّهم منذ الماضي وهم يحكموننا , ومنذ نعومة أظفاري وأنا أشاهد الكثير من الرؤساء الذين يحكموننا حتى أنّ الكثير منهم لم تتغيّر ملامحه بحكم طلاء الشعر الممتاز الذي يستخدمونه ويستورد لهم خصيصا وكان الأولى بهم أن يستخدموا الحنّاء لأنّها من الماضي .
أما في الغرب فهاجسهم المستقبل , الفضاء , القرية الكونية , القرية الفضائية , دراسات بالجملة والمفرّق عن الزراعة في هذا الإقليم الغربي سنة 2030 , الصناعة في ذاك الإقليم في سنة 2040 , كيفية إستثمار الطاقة الشمسية في المجالات كافة , والأكثر من ذلك دراسات عن آفاق العالم العربي والإسلامي برؤى غربية قحّة .
بسبب كل ما جئنا على ذكره وغيره كثير فقدنا دورنا راهنا ومستقبلا , فنحن خارجون من كل الخرائط الثقافية و السياسية والإقتصادية و الأمنية والإستراتيجية , ثمّ إذا أردنا بداية الإصلاح في عالمنا العربي والإسلامي فمن أين نبدأ فالعفونة في كل مكان !
المنظومة السياسيّة متهرئة من أساسها وقوامها التملق والمحسوبية و القمع والديكتاتورية بالإضافة إلى أنّ الأجهزة الأمنية المتواطئة مع السيد الرئيس هي التي تسيّر ما يعرف بالدول تسامحا في بلادنا , والإقتصاد قوامه عصابات من رجال مخابرات وسياسة وضباط عسكريون يمسكون بإقتصاد أمّة بكاملها , والثقافة هي أكثر العناصر مظلومية في واقعنا العربي ويكفي النظر إلى مصاديق الثقافة و أحوال المثقفين الذين لا يجدون قوت يومهم لندرك مأسويّة الثقافة في بلدنا , أمّا أمننا فهو مخروم من أساسه وتكفي دبابة أمريكية واحدة لتطيح بأي رئيس عربي يخشوشن على شعبه فقط و يحني الرقبة أمّام الأمريكي صانع القضاء و القدر العربيين والإسلاميين .
كنّا نأمل أن نبدأ مسارنا مع بداية الألفية الثالثة بشكل صحيح في ضوء التجارب والأخطاء السابقة , لكن لو يبعث أجدادنا من القرن العاشر وقبله وبعده لوجدوا الحال هي الحال , والظرف هو الظرف , والفكر هو الفكر , و الطرح هو الطرح , والمرض هو المرض , والإستبداد هو الإستبداد , وما زلنا نختلف بين يجوز ولا يجوز حتى أصبحت أمة محمد كالعجوز . الفرد يرث والأمة ترث , الفرد يرث المال والعقارات وقد لا يرث شيئا إذا كان والداه معدمين , و الأمة ترث الخصائص الإجتماعية و الثقافية والنهضوية و الإقتصادية و الحضاريّة من الأمة التي سبقتها , ولأننّا أمةّ كتب لها أن تعيش على مفرق قرنين قرن مضى وقرن راهن جديد , وجب علينا أن نفكّر بإمعان ماذا حققنا في القرن الماضي وماذا سترك لأبنائنا في القرن الراهن والمقبل .
لا شكّ في أنّ مجرّد التفكير فيما سنتركه كأمّة للأجيال اللاحقة مزعج وجالب للهمّ والغمّ على إعتبار أنّ الواحد منّا يعمل من الصباح إلى المساء مقابل أن يسدّ ديونه ويفكّر دوما في كيفية توفير لقمة العيش لأبنائه , فإذا الفرد لا يفكّر في أن يترك شيئا لبنيه فكيف يضطلّع بهمّ التفكير فيما سوف يتركه للأجيال المقبلة !
في الغرب حيث كل شيئ جاهز فالأجيال المقبلة سوف تستلم الراية من الأجيال الحالية والبنى التحتيّة النهضوية والتقنية قائمة والتواصل قائم بين الجامعات ومستقبل التقنيّة التي ستنتج من هنا وإلى أربعين سنة المقبلة , أضف إلى ذلك فإنّ العقل الغربي تمّت برمجته على النظر البعيد و التوجه إلى الأمام و إستشراف القادم من الأيام , والقضايا التاريخية و الخلافات الدينية لا تناقش إلا في الجامعات المتخصصّة والمعاهد العليّا المتخصصة في قضايا التاريخ واللاهوت وعلوم الأديان .
غير أنّه يجب التذكير أنّ الذي يخططّ وينفّذ في الغرب هي المؤسسّات الرسمية الحكومية المنسجمة مع توجهات الرأي العام والتي تولي البحث العلمي والتخطيط المستقبلي أهميّة قصوى وهذا غير متوفّر البتّة في عالمنا العربي . ففي عالمنا العربي فإنّ النظم السياسية المفروض أن تبقي تركة جيّدة للأجيال المقبلة فإنّها أضاعت الأجيال الراهنة فما بالك بالأجيال المقبلة . فقصر الرؤية والمصالح الضيقة و الهوى العشائري والنزعة الديكتاتورية العسكرية و النفس الأمني البوليسي هي مفردات الحالة السياسية الرسمية وهذه المفردات والأخلاقيات تصطدم جملة وتفصيلا مع أسس المنطق السليم ومنه ضرورة إعداد مستقبل مقبول لأجيالنا المقبلة . وفي هذا السياق يشار إلى أنّ العالم العربي قوامه محوران محور نفطي ثري ومحور زراعي فقير , ففي المحور الأول تحتكر أسرة واحدة كل مقدرات الأمة و ثروات النفط حتى بات أعضاء هذه الأسرة من أغنى أغنياء العالم حسب أشهر المجلات التي ترصد ثروات رجال المال , وبدل أن يسخّر هذا المال في إنتاج صناعة قومية قوية , فقد تحولّ إلى خدمة أشخاص معينين بإضافة إلى خدمة الأجهزة الأمنية و الأجهزة الأمنية الأمريكية على وجه التحديد التي تضطلع بحماية هذه الأسر الثرية الحاكمة من المهد وإلى اللحد بقرار غربي أيضا .
وحتى ما تبقى من فتات النفط لم يسخّر في خدمة المشروع النهضوي بقدر ما سخّر في بناء إقتصاد الخدمات والإستهلاك من قبيل الفنادق الفخمة و المرافق السياحية الجميلة الغنّاء والتي تدخل في سيّاق إمتاع هذه الأسر أيضا , فهو بهذا إقتصاد يندرج في خدمة الأسر الحاكمة وإمتاعها , ودخلت أمريكا والشركات العالمية المتعددّة الجنسيات على الخطّ و إمتصّت هذه الأسر التي أغدقت عليها بالمال والإستثمار للحصول على الرضا الذي هو ضروري للبقاء في العروش , و هذا المحور سيترك للأجيال القديمة مواثيق وعهود تحالف وإرتباط وثيق بالولايات المتحدة الأمريكية , هذه المواثيق التي تعطي لأمريكا الحق كل الحق في ظاهر أرضنا وبطنها , بالإضافة إلى ذلك فإنّ هذه الأسر ستترك للأجيال المقبلة صحراء جفّ ضرع نفطها أو سيجفّ من هنا وإلى نصف قرن على إعتبار أنّ كميات النفط الهائلة والتي تشكلت عبر القرون الماضية ستنفذ في فترة زمنية معينة لأنّ النفط ليس كماء الرذاذ يتشكّل بسرعة كلما توفرّت الشروط البئية لصناعة المطر , وسوف تترك هذه الأسر للأجيال المقبلة ديونا هائلة و عجز مطلق عن صناعة أي شيئ مادامت الصين هي التي تصنع لنا سجادات الصلاة و أمريكا هي التي تستخرج نفطنا و تبيعنا من الإبرة و حتى الدجاج المجمّد , ولو تركنا كل هذا جانبا فإنّ المؤسسات الحاكمة في محور الغنى والثروة لا تملك أدنى فكرة عن علم المستقبل , والبعض يعتبر أنّ سهرة واحدة مع فتاة روسية أو أوكرانية تغني عن الأمة وفروعها ومستقبلها .
و في محور الدول الفقيرة فإنّ بروز العسكريتاريا أدى إلى توريث الأبناء الحكم بدل توريث الأمّة , فالأمة في عرف العقلية العسكرية لا ترث بل هي تسيّر كالقطيع وهذا العسكري الحاكم هو الذي يجب أن يرسم النهج والرؤية والتفكير في المستقبل شرك باللّه.
ويبقى القول ساعد الله أجيالنا المقبلة وألهم الصبر للأجيال الراهنة لتصطبر على حكام أضاعوا الماضي والراهن والمستقبل .
يعيش العالم الإسلامي حالة تشكلّ ذروة السقوط الحضاري و الشلل الكامل عن صناعة الدور والحدث , و قد أصبحت كل مواقعنا الجغرافيّة من طنجة وإلى جاكرتا مستباحة وتصاغ مقدراّتها ومصيرها على عين أمريكا . وتذكرّنا بداية القرن الراهن ببداية القرن الفارط عندما أصبح عالمنا العربي والإسلامي عرضة للسيطرة والإستعمار ومصادرة الأرض والمصير , والفارق الأساس بين القرنين أنّ القرن الفارط أنتج كمّا هائلا من المقاومين والأحرار الذين اتخذوا من الزيتونة والأزهر والقرويين والنجف وقم ومعاهد قسنطينة الجزائريّة منطلقا لصناعة الفعل التحررّي والبطولي والذي أفضى ورغم فداحة الخسائر إلى استقلال بلادنا العربيّة والإسلاميّة من ربق السيطرة الاستعمّاريّة فيما العصر الراهن جمدّت فيه الطاقات وعطلّت الأمة عن أداء دورها . و بعد الإستقلالات تولّت أنظمة وطنيّة صناعة القرار , والمفارقة أنّ هذه الأنظمة لم تكن على مستوى شعوبنا العربية والإسلاميّة ولم تكن على حجم التضحيّات التي قدمت في سبيل نيل الحريّة هنا وهناك , وأنغمست هذه النظم في اللعبة الدوليّة وأصبحت جزءا من الاستراتيجيات الدوليّة التي تواصل وأستمرّ طمعها في عالمنا العربي والإسلامي لكن بطرق وأساليب مغايرة . وبدل أن تنطلق هذه النظم في تفجير الطاقات الداخليّة والاستفادة من المقومّات النهضويّة الموجودة في مواقعنا فإنّها راحت تماطل عواصم القرار الغربي مرة بحجة مقتضيات الشرعية الدولية وتارة بحجة الحصول على الرضا الغربي الذي هو ضرورة للحصول على مساعدات صندوق النقد الدولي , و بتأثير من هذه العناوين تجاهلت معظم الأنظمة القضيّة الفلسطينيّة وما تلاها من إستباحات في مواقعنا العربيّة والإسلاميّة . وقد مهدّت هذه النظم المصطنعة والهشّة والتي ولدت من رحم العسكريتاريّا لتقويّة الدور الأمريكي والإسرائيلي, وما كانت أمريكا لتمارس سياسة الاستئصال لو كان الموقف السياسي والاقتصادي و الثقافي والاجتماعي في بلادنا مغايرا لما عليه الواقع . و من طريف ما يذكره التاريخ أنّ الطاغيّة المغولي جنكيزخان عندما غزا بغداد سأل سكانّها قائلا : أيّها الناس إمّا أن يكون الله قد سلطنّي عليكم وعندها يجب أن تعترفوا بقضاء الله وتستسلمون لقدرتي , وإمّا أن أكون قويّا وعندها يجب أن تعترفوا بقوّتي وتستسلمون , فكان جواب الأهالي بين هذا وذاك إلى أن تقدمّ شاب وسيم فصيح اللسان فقال له : يا جنكيز ما اللّه سلطّك علينا ولا أنت سلطّت نفسك علينا , نحن الجبناء الذين سلطنّاك على أنفسنا , فلو أننّا قاومنا لما وصلنا إلى هذه الذلّة . إنّ استفراد أمريكا بتسيير دفة العالم وعلى الأخصّ دفّة العالم العربي والإسلامي لم يكن نتيجة القوة الأمريكية وتحولها إلى قوة ضاربة بعد انهيار الأمبراطوريّة الحمراء , بل هو نتيجة الضعف الرسمي والذي انسحب ضعفا وانحلالا على كل الطاقات الحيّة في مجتمعاتنا . فالنظم العربية والإسلاميّة وبما في ذلك المؤسسات المتفرعّة عنها كالجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وباقي المنظمات الورقيّة تعتبر الممهّد الأساس للعصر الأمريكي , وحتى الذين حاولوا تأكيد رجولتهم في العصر الأمريكي والإسرائيلي بادرت بعض النظم العربيّة والإسلاميّة إلى قصّ شواربهم وإجراء عمليّة تغيير جنس مستعجلة لهم , فبات الإعتراض على أمريكا وإسرائيل خرقا للأحكام العرفيّة وخروجا عن أحكام فقه الطوارئ ومساسا بالسيادة الوطنيّة أو الوسادة الوطنيّة ! وإذا تأكدّت المعادلة التي جئنا على ذكرها , فانّه يصبح في حكم اليقين أنّ الطريق إلى الحريّة والكرامة يمر عبر تغيير كل النظم القائمة وإلغاء كافة المؤسسات الوهميّة كالجامعة العربيّة و منظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها من المؤسسات , ولا يمكن المطالبة بحقوقنا في تأكيد ذواتنا في مواجهة العولمة والأمركة و عالمنا العربي والإسلامي يحكمه أمريكان صغار أو أقلا موظفين لدى الإدارة الأمريكية , والعجيب أنّ أمريكا تجمّد أموال المحسنين وأهل الخير ولا تجمّد أموال الجواسيس والعملاء و القتلة المحترفين وسرقة أموال شعوبهم الذين لديهم حسابات مفتوحة في قلب أمريكا .
وبعد أحداث أفغانستان والعراق أصبح الحديث عن دور شعوبنا في صناعة النهضة وإقامة النظام السياسي الذي تريده الجماهير جزءا من الهراء , باعتبار أنّ أمريكا باتت تصيغ النظم وتبني السياسات في عالمنا العربي والإسلامي , لقد دخلت واشنطن في قلب المعادلة , وفي عمق تركيبتنا , فلها أن تصيغ الجغرافيا ولها أن تصيغ السياسة ولها أن تصيغ التاريخ , ولها أن تحاصر هذا الاقتصاد أو ذاك , والعجيب أن أمريكا وتوابعها الذين حملوا راية الدفاع عن الرأي الأخر , باتوا يرفعون شعار إمّا معنا أو علينا , بمعني إمّا أن نكون أمريكيين في توجهاتنا ومسلكيتنا وعقيدتنا وإمّا أن نكون إرهابيين . وكل هذه التساؤلات هي برسم المؤمنين والداعين إلى نهضة العالم العربي والإسلامي .
لا شكّ أنّ الحكام العرب قد لعبوا أدوارا مصيريّة وعملاقة في تكريس التخلفّ الذي يلفّ الحالة العربية الراهنة و الذي سيستمّر مميزا لها في المدى المتوسط وربما البعيد ما لم تنتف مبررات التخلّف , والحاكم العربي عندما وصل إلى سدّة صناعة القرار بفضل الإنقلاب والدبابة و المؤامرة لم يكن من جملة تخطيطه أن ينهض بالأمة , بل قصارى ما كان يحلم به أن يجمع الدنيا من أطرافها وقد تحققّ ذلك لمعظم حكامنا الذي يطالبون زورا وبهتانا بضرورة إحترام إرادة الجماهير وهم فرضوا أنفسهم على هؤلاء الجماهير بالحديد والنار.
وإذا كان الحاكم العربي قد نال ما يستحّق من لعنات من قبل البسطاء والمثقفين على حدّ سواء , و توافقت الآراء على دوره المركزي في إرباك الأمة و أخذها إلى الهاوية , فإنّ النخب المثقفة العربية تأتي في المرتبة الثانية لجهة تحملها مسؤوليّة ضياع هذه الأمة التي أصبحت أتعس أمة أخرجت للناس بعد أن كانت خير أمة أخرجت للناس . و مشكلة الإنتليجانسيا العربية بمختلف مشاربها الفكرية والإيديولوجية أنّها دخلت في حروب أهلية فيما بينها إنعكست سلبا على عقول الناس الذين توزعت رؤاهم وتصوراتهم بين ما تراه هذه النخبة وتلك , و قد أتاح هذا الإنشطار الفكري للغير المتربصّ بمواقعنا وحصوننا أن يلج إلينا بأبسط الوسائل , فالقومي كان يصّر أن لا خلاص للعالم العربي إلاّ بالقوميّة , و الرأسمالي الليبيرالي كان يصر أن لا خلاص لهذا العالم العربي إلاّ بالليبيرالية بشقيها المعتدل والمتوحّش , والشيوعي يرى أن طريق المجد هو عبر إعتناق الشيوعية التي ما زال بعض الرفاق يعتقدون بجدواها الحضارية و أنّ الذي سقط هو النظام الشيوعي لا الإيديولوجيا الشيوعية , و الديموقراطي يرى أنّ الخلاص لن يتأتى إلاّ بإعتناق الديموقراطية بمفهومها الغربي وذلك يتطلبّ القفز على العادات و التقاليد في مجتمعاتنا البدائيّة كما يسمونها , و الإسلامي السني يرى أن لا مخرج من واقع التخلّف إلا بالرجوع إلى ثرات السلف الصالح من هذه الأمة , و الإسلامي الشيعي يرى أنّ الخلاص يكمن أيضا في العض بالنواجذ على الرؤية الإسلامية كما صاغها الإمام علي عليه السلام , وكل مدرسة فكرية و طائفة دينية و مجموعة أيديولوجية تقدم عشرات التبريرات و الأسباب والبراهين للتأكيد على إستقامة منطلقاتها وجدواها في الواقع المعيش , ومن الظلم بمكان إتهام بعض الإسلاميين بأنّهم وراء أزمة التكفير , فلطالما كفرّ الشيوعي الإسلامي و طبق عليه القصاص وحاسبه على لحيته وجلبابه , و لطالما كفر دعاة المجتمع المدني و الديموقراطي الإسلامي وفتحوا سجونهم للإسلاميين وفي أحيان كثيرة بدون ذنب ولا جريرة , وقد صرحّ الرئيس الجزائر ي الراحل محمد بوضياف لدى عودته من منفاه في المغرب إلى الجزائر : أنّ الديموقراطية تجيز لي إعتقال عشرين ألف من الإسلاميين الجزائريين والزجّ بهم في السجون , وأسميت عندها الديموقراطية الجزائرية و التونسية والموريتانية والمغربية و الليبية وغيرها بالديموعسكريتاريا .
وقد إختلفت هذه النخب في كل التفاصيل , في البديهيات كما في المسلمّات , في التفاصيل كما في الجزئيات , في الأصول كما في الفروع , في المقدمّات كما في النتائج . و كل نخبة أصبح لديها مشروعها ورؤيتها و إستراتيجيتها إذا كان لديها إستراتيجية , ومن سنخ هذه النخب نشأت حكومات كانت تلعن بمجرد تأسيسها عمل الحكومات السابقة وتعيد صياغة المشروع الحكومي في بعديّه السياسي والإقتصادي من جديد . ووصل الإختلاف بين نخبنا إلى عمق البديهيات , ولعلّ ذروة الإختلاف تجلّت في المشهد العراقي حيث إعتبرت نخبة عراقية أنّ الإحتلال الأمريكي للعراق جائز ومسوّغ بإعتباره أزاح طاغية مستبّدا عن حكم العراق وهذا وحده كاف ولا داعي للحديث في النتائج , فيما رأت نخب أخرى أنّ هذا الإحتلال غير مقبول ومرفوض جملة وتفصيلا , فردّ عليهم الفريق الأوّل بأنّ الأمر لا يعنيكم والعراق للعراقيين , وردّ الفريق الثاني بأنّ وجود
أمريكا في العراق سيؤثّر علينا في سوريا ولبنان وإيران وبقية المحيط العربي و الإسلامي , وعندها ردّ الفريق الأوّل على الفريق الثاني أن لعنة الله عليكم يا عملاء صدّام , و عقبّ الفريق الثاني على الأول بقوله وألف لعنة عليكم يا عملاء أمريكا ونتاج عمليات الإستنساخ في أوكار وكالة الإستخبارات الأمريكية . وفي الوقت الذي دخلت فيه هذه النخب في ملاعنة حقيقية فيما بينها , أخذت أمريكا تستحكم خطتها وتفعّل مشروعها من جهة ومن جهة أخرى فقدت هذه النخب وقارها الثقافي بإعتبار أنّ العقل الخرّاق كما كان يسميه المعتزلة يجب أن يستوعب كل الأفكار و الرؤى . ولن يتأتى لنا صناعة فعل نهضوي حقيقي إلاّ إذا توافقنا على أنّ الفرد للمجموع والمجموع للفرد , وأنّ النخب كلها تكمّل بعضها بعضا وأن تلاقح الأفكار وإختلافها سنّة كونية وحضارية , وقد سئل أحد الصالحين لماذا خلق الله الإنسان الأبيض والأسود فقال : حتى لا ينسب العجز لله تعالى , و من سمات العقل البشري القدرة على الإختلاف والإئتلاف , ولا يجب أن نجعل من إختلافنا خندقا لحروب كثيرا ما أفضت إلى حروب أهلية حقيقية , ألم تبدأ الحرب الأهلية اللبنانية على صفحات الجرائد بين الكتاب والمثقفين !
ألم تبدأ حرب الجزائر على صفحات الجرائد ووسائل الإعلام المختلفة !
فلنجعل من الثقافة وسيلة للبناء لا الحرب , و عيب علينا أن ندعي الرقيّ بعقولنا و نحن أدنى بذلك بكثير !! في السابق وعندما كان الغربيون يريدون معرفة أي تفاصيل تتعلّق بالعالم العربي والاسلامي أو المسلكية الاجتماعية للعرب والمسلمين كانوا يعودون الى المراجع الفكرية والثقافية التي وضعها المستشرقون الذين أحتكوا بالجغرافيا العربية والاسلامية وكتبوا انطباعاتهم عما شاهدوه في الشرق الذي مازال يظن البعض في الغرب أنّ علاء الدين وفانوسه السحري مازال يقيم فيه . ويعترف بعض الباحثين الغربيين الموضوعيين أنّ الكثير من هذه الدراسات لم تكن موضوعية باعتبار أنّ الكثير من هذه الدراسات ارتبط بالحركة الاستعمارية الغربية للعالم العربي والاسلامي . وبعد هؤلاء المستشرقين برز في الغرب مجموعة من الكتّاب الشرقيين الذين استغربوا بمعنى هاجروا الى الغرب أو الذين ولدوا في الغرب وباتوا يكتبون عن مواطن جذورهم ولكن بمناهج درسوها في المعاهد الغربية وربما بخلفيات ايديويلوجية سائدة في الواقع الغربي . ولم تؤد هذه الدراسات في تبيان الصورة بشكلها الصحيح عن العرب والمسلمين , وظلّ الغربيون العاديون يعرفون
يا من يذكرني بعهد أحبتي طاب الحديث عنهم و يطيب
أعد الحديث علي من جنباته إن الحديث عن الحبيب حبيب
ملأ الضلوع و فاض عن أجنابها قلب إذا ذَكَرَ الحبيبَ يذوب
icon36