لَيُقِيمنَّ الله لذلك رجالا هم الآن في أصلاب آبائهم .
19-01-2016, 06:44 PM
رسالة من الشيخ أحمد بن محمد بن مُرِّي الحنبلي (بعد 728) إلى تلاميذ شيخ الإِسلام ابن تيمية .

((( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان:
لا تنسَوا تقريراتِ شيخِنا الحاذقِ الناقدِ الصادقِ - قدَّسَ اللهُ روحَه - لمعاني قوله تبارك وتعالى في بيان الحِكم الأربع التي أودعها الله سبحانه في ضمن انكسار عَسْكَرِ الرسول في يوم أُحدِ، وهي قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ }
فلا تُهملوا أمرَ الفكرة الصالحةِ، في هذه المعاني الشريفة وغيرها، ولا تجزعوا لما حَصَلَ، فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لا يموتُ، وهو المتكفلُ سبحانه بنصرِ الدِّين وأهلِهِ، والمختبر لعبادِهِ فيما يَبْتليهم بِهِ، والخبير بجملةِ مصالحهم، والرؤوف بهم، والهادي لمن يشاء إلى صراط مستقيم، ولا يهلك على الله إلا هالك، والسعيد من قام بما عليه إلى وفاته، ومن أراد عظيم الأجر التام، ونصيحة الأنام، ونشر علم هذا الإمام، الذي اختطفه من بيننا محموم الحِمام، ويخشى دُروسَ كثيرٍ من علومِهِ المتفرقةِ الفائقةِ، مع تكررِ مرورِ اللَّيالي والأيام، فالطريقُ في حقِّه: هو الاجتهاد العظيم على كتابة مؤلفاته الصغار والكبار على جليتها من غيرِ تصرُّفٍ فيها ولا اختصار، ولو وُجِدَ فيها كثيرٌ من التكرار، ومقابلتها تكثير النُّسَخِ بها وإشاعتها، وجمع النظائر والأشباهِ في مكانٍ واحدٍ، واغتنام حياةِ من بقي من أكابر الإخوان، فكأننا جميعًا بِكمال الفَوْتِ وقد حان، ويكفينا ما عندنا على ما فرطنا من عظيم الأسفِ.
فلِوَجْهِ الله معشرَ الإخوانِ لا تعاملوا الوقت الحاضر بما عاملتم به الوقتَ الذي قد سلف فإن حياته رحمه الله ورضي عنه كانت مأمولةً لاستدراك الفارطات الفائتات، وتكميل الغايات والنهايات، فاغتنموا تحصيل كلِّ مهمةٍ في وقتِها بلا كسل ولا مَلَلٍ، ولا تشاغُلٍ ولا بخل. لأن هذا المهم الكبيرَ أحقُّ شيء يُبْذَل في تحصيله المالُ الكثير، وقد علمتم مضرةَ التعليل والتسويف وكون ذلك من أكبر القواطعِ عن مصالح الدنيا والآخرة.
فاحتفظوا بالشيخ أبي عبد الله - أيده الله – (( يقصد به عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن رُشَيق المالكي (ت 749)، ناسخ مؤلفات شيخ الإسلام وصاحب كتاب: "مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية" )) وبما عنده من الذخائر والنفائس، وأقيموه لهذا المهم الجليل بأكثر ما تقدرون عليه ولو تأَلَّمتم أحيانًا من مطالبته؛ لأنه قد بقي في فنه فريدًا، ولا يقوم مقامه غيره من سائر الجماعة على الإطلاق، وكل أحوال الوجود لابد فيها من العوارض والأنكاد، فاحتسبوا مساعدته عند الله تعالى، وانهضوا بمجموع كلفته، فإن الشدائد تزول، والخيرات تغتنم، فاكتبوا ما عنده وليكتب ما عندكم........)))

إلى أن قال :

(((.......فلا تيأسوا من قبول القلوب القريبة والبعيدة لكلام شيخنا، فإنه ولله الحمد مقبول طوعًا وكرهًا، وأين غايات قبول القلوب السليمة لكلماته، وتتبع الهمم النافذة لمباحثه وترجيحاته، ووالله إن شاء الله ليقيمن الله سبحانه لِنَصْرِ هذا الكلام ونشره وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده واستحسان عجائبه وغرائبه، رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم . وهذه هي سنة الله الجارية في عباده وبلاده، والذي وقع من هذه الأمور في الكون لا يحصي عدَدَه غير الله تعالى.
ومن المعلوم أن البخاري مع جلالة قدره أُخرِج طريدًا، ثم مات بعد ذلك غريبًا، وعوضه الله سبحانه عن ذلك بما لا خطر في باله، ولا مرّ في خياله، من عكوف الهمم على كتابه، وشدة احتفالها به، وترجيحها له على جميع كتب السنن، وذلك لكمال صحته، وعظمة قدره، وحسن ترتيبه وجمعه، وجميل نية مؤلفه، وغير ذلك من الأسباب..
ونحن نرجو أن يكون لمؤلفات شيخنا أبي العباس من هذه الوراثة الصالحة نصيب كثير إن شاء الله تعالى، لأنه كان بنى جملة أموره على الكتاب والسنة، ونصوص أئمة سلف الأمة. وكان يقصد تحرير الصحة بكل جهده ويدفع الباطل بكل ما يقدر عليه، لا يهاب مخالَفَة أحدٍ من الناسِ في نصر هذه الطريقة، وتبيين الحقيقة.......))).

قلت :

رحم الله الشيخ أحمد بن مرّي الحنبلي فقد كان ذا فراسة قوية وكان بعيد النظر، فبعد أن كانت كتب شيخ الاسلام ابن تيمية ممنوعة وكان تلاميذه ينسخونها سرا مخافة أن يكتشف أمرهم أعدائُه. ها هي كتبه اليوم قد بلغت الآفاق وسارت بها الركبان ، فلا تكاد تجد مكتبة إلا وكتبه موجودة متوافرة فيها ، كما أن مؤلفاته تدرس في الجامعات في كل أنحاء العالم وحتى الجامعات الغربية منها ، لاحتوائها على كثير من المباحث الفلسفية.
فشيخ الاسلام ابن تيمية من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فأعلى الله شأنه ونشر ذكره في العالم.