متسوّل أنيق يضع أفخر العطور ويجمع مليون سنتيم يوميا
02-03-2016, 06:11 AM

صادق. ح



تنوّعت أشكال التسوّل في بلادنا، فكان من الطبيعي أن يتطور مستوى المتسوّلين في تنميق العبارات واختيار أهم المراكز الاستراتيجية، التي تدر عليهم الأرباح وتشعرهم بالارتياح، غير أن الأمر يختلف حينما يتعلق بالمسمى "م.ل"، المنحدر من قرية بيرقو قرب مدينة الحروش، صاحب الـ 46 سنة، أعزب، ولا مهنة له سوى التسوّل، أو هكذا قدم نفسه بلا حرج.
يجمع "م.ل"، في مظهره بين مفارقات عجيبة، حيث يظهر يوميا في كامل زينته وأناقته، بل يرتدي ما تجود به الماركات العالمية ويتعطر بما ينعش الأنوف من أفخم العطور، ولا يخشى أن يربك هندامه المارة عندما يمد يده فيعتقد بعضهم أنه ربما يريد أن يعطي لا أن يأخذ.

الشروق رصدت تحركه، وتعرفت عليه وهو ظاهرة متميزة حتى في التسوّل.

أول ما يلفت نظرك إليه، هو بدلته الأنيقة، واهتمامه الظاهر بقصة شعره الشبابية وحلاقة ذقنه المتقنة فتشك لأول وهلة أنه عريس جديد العهد بالزواج، رغم إعاقة العرج التي تكسر قليلا من اعتدالها على قامته القصيرة. وكما يختار هندامه يختار المكان والزمان بعناية فائقة، فهو يتموقع كل يوم أمام مدخل بلدية الحروش، قريبا جدا من مركز البريد. ليلقي قبضته على فئتين مهمتين من فئات المجتمع، إحداها تخرج من البريد بجيوب ملأى فلا تتوانى في إعطائه، والأخرى مختلطة بين موظف ميسور ومسؤول كريم وامرأة تقصد البلدية وهي تحمل في صرتها ما يزيد عن حاجتها.

شاهدناه كم من مرة، وتتبعنا طريقته في التأثير على المارين والمارات، واستحواذه على قلوبهم قبل جيوبهم، فهو ينادي: "اعطني ألف فرنك" "أعطني ألف فرنك" بلا توقف...كلما مر بجانبه فرد أو جماعة، وبتركيز أكثر على فئة النساء اللائي تتمتع بعضهن برائحة عطوره.

حاورناه فلم يتردد في الرد فقط تمنى أن لا نعرّف باسمه ولا بصورته، بعد أن دسسنا في يده قطعة نقدية، سألناه في البداية عن بدايته في طريق التسوّل والأسباب التي أدت به إلى ذلك، فأجاب بأن ظروفه الاجتماعية والصحية كانت صعبة جدا حيث فتح عينيه على حالة فقر وعوز مدقع، وإعاقة جسدية حالت دون تكيّفه مع المجتمع ما تسبب له في طرد مبكر من مقاعد الدراسة ليجد نفسه وجها لوجه مع مخالب الشارع وأنيابه. وينساق وفق قوانينه القاسية إلى مدّ يديه تدريجيا ليجد في التسوّل ضالته وما يسد رمقه.

وسألناه أيضا: لقد راقبناك كم من مرة وأنت تتسوّل، فلاحظنا أنك تمتلك قوة تأثير كبيرة جدا، ففي كل ربع ساعة فقط هنالك 10 من الناس يمنحونك المال. ممكن تصارحنا كم تجمع كل يوم؟ وما هي الأماكن التي تجمع فيها أكثر؟ ليؤكد لنا بأن دخله هنا في الحروش يعد ضئيلا إذا ما قورن بمدينة سكيكدة مثلا، حيث يجمع هنا ما بين 3 آلاف دينار إلى 6 آلاف بينما لا يقل مردوده في سكيكدة عن 8 آلاف دينار يوميا أو قرابة المليون سنتيم. بالإضافة إلى منحة الإعاقة التي تمنحها له الدولة والتي تقدر بـ 18 ألف دينار شهريا والتي غالبا ما يفتكها منه أبوه كما أوضح.

سألناه: وماذا تفعل بكل هذه الأموال وأنت بلا أسرة تعيلها ولا أولاد؟ ليطلق ضحكة عريضة ويقول لنا بلهجة فيها ما يشير إلى أن أعباءه كثيرة مثله مثل غيره من الناس: "هاك تشوف الكوستيم وحدو شاريه بالشيء الفلاني، زيدلها الماكلة والتحواس" إلخ ولم نفهم ما يقصد بكلمة إلخ.

فسألناه إذا كان سيتوقف عن حرفة التسوّل لو أن الدولة تضاعف له منحة الإعاقة وتعطيه ما يكفيه أو توظفه، في منصب مناسب لإعاقته، فأنكر جازما أن الدولة مهما تعطيه فلن تمنحه أكثر مما يجمعه في الشارع وبلا تعب. وقد أحسسنا في إصراره قناعة لا مثيل لها بما يقول فختمنا معه الحوار بسؤال روتيني عن الفئات الاجتماعية الأكثر تعاطفا معه، والأكثر منحا له فقال لنا بتعال وافتخار: النساء، النساء.. ؟