أسس ومعالم الفكر المعاصر: من الحداثة الشيطانية إلى الأصولية المدمِّرة
17-12-2024, 11:56 AM
في النصف الأول من القرن العشرين قامت الحرب العالمية الأولى ولم تلبث أن تلتها الثانية ومن خلالهما تفننت الأطراف المتحاربة في إبراز ما أنتجته التقنيات الحديثة من فنون القتل والتدمير، فقد تجاوزت آلة الحرب جميع الحصون ووسائل الدفاع التقليدية التي كان الناس يظنون أنها مانعتهم من الدمار، وبدا أن العالم على شفير الجحيم، ولن يمر وقت طويل قبل أن تدمر الإنسانية نفسها بنفسها. وقد وصف الشاعر الأيرلندي و.ب. ييتس ذلك بميلاد زمن متوحش لا مكان فيه للتقوى والسلام، وبدا جميع المفكرين والمبدعين وقد تملكتهم الرغبة في إعادة خلق العالم من جديد، فلم يعد المنطق الهادئ القائم على السبب والنتيجة مبدأً للحوار أو للسرد الفني والروائي، فقد تشظّى الحوار تاركا القارئ في حالة من عدم اليقين، وقام الرسامون من أمثال بابلو بيكاسو (1880 - 1973) بتمزيق أوصال الشخوص في لوحاتهم هازئين عن عمد بتوقعات المشاهدين، أما العلماء فأخذوا يفتتون المادة بحثا عن الذرة والجزيء، وحتى في العلوم الإنسانية لم يعد الهدف إعادة تمثل الماضي بل تفتيته وايجاد شيء جديد بين شظاياه، وفي الدين والروحانيات استحرّ البحث عن قوة تقبع وراء طبيعية وتدير العالم المادي والنفسي، و في بحثهم عن هذه القوة المتخفية كانوا يقبلون بأية قوة، أية قوة ما عدا الله، حتى ولو كانت هذه القوة أسطورية لا ترقى إلى مرتبة اليقين، فقد حاول العالم النفساني (سيغموند فرويد) مثلا أن يحيل ما ندعوه بمظاهر العقل والتفكير إلى دوافع وغرائز تسكن في باطن النفس وتحرك العقل، وبالرغم من ادعائه العلمانية، فقد اعتبر العقل مجرد قشرة سطحية رقيقة جدا من النفس تكمن وراءها العديد من الدوافع والتجارب النفسية التي تحرك الإنسان كيف تشاء.
لقد سعى رواد الحداثة وما بعد الحداثة من وراء ذلك كله إلى التملص من فكرة الإله والمسؤوليات التي تترتب على الإنسان من خلال الإيمان به تجاه النفس والطبيعة والمجتمع بغية الانفلات بدون قيود أو شروط في غابات المتعة والشهوة البهيمية، والتفلّت من الأديان ووسمها بالحكايات الخرافية والأساطير، وقد مثلت نظرية التطور والانتخاب الطبيعي للأحياء وتناقضها مع ما اعتقدوا أنه جاء في الكتاب المقدس متكأً طيبا لهجوم العلمانية الجديدة على الأديان.
حاول رجال الدين التصدي لهذا الواقع الجديد مع إبداء بعض المرونة نحوه، بمحاولة فهم النص المقدس مثلا على أنه نوع من الرمز لا يمكن الأخذ بحرفيته؛ ... و كان البحث عن عقيدة جديدة على درجة كبيرة من الصعوبة والتعقيد، ولعل البحث عن الأصول ومحاولة الرجوع إليها و التدين المبالغ فيه والذي نسميه اليوم بالأصولية هو أحد هذه المحاولات، إلا أن المد العلمي العقلاني تجاوز جميع الأصول، ففي كتابه: "الحرب ضد العلم الحديث-1927" ادعى الكاتب والمفكر مينارد شيبيلي أنه لو تمكن الدينيون من فرض سلطتهم على الطوائف، فسيفقد الأميركيون أفضل ما في ثقافتهم وسيلقى بهم في العصور المظلمة من جديد. وقد تناسى الجميع في ذروة حماسهم هذه أن أساسيات الدين الأخلاقية والروحانية مهمة للبشر، ولا يجوز إبعادها دون تفكير إلى مكبات التاريخ لصالح عقلانية بلا حدود، ولا أصولية متحجرة تتنكر لحركة التاريخ.
في بحثها عن إله غير الله وجدت البشرية نفسها وقد وقعت في الخواء والعدم، يصف سارتر هذه الحالة بقوله: "الخواء الذي تشكّل على هيئة الرب في الوعي البشري". إنه الفراغ الذي تركه الإلحاد، ولم يعوضه جميع ما حاولوا إيجاده من بدائل، فلا الإنسان الخارق الذي حلم به نيتشه، ولا الأيديولوجيات النازية والشوفينية ولا الروحانيات العلمانية التي أتت عن طريق الأدب والفن، أو الممارسات الجنسية البهيمية والتحليل النفسي والمخدرات أو حتى الرياضة التي شاع الترويج لها وممارستها والاستغراق من خلالها في حركة الكرة بين أقدام اللاعبين ... كل ذلك لم يضف على الحياة الإنسانية الحس السامي والقيمة ويصل البشر بأعماق الوجود كما فعلت الديانات السماوية، كل ذلك لم يملأ الثغرة التي خلفها غياب الله في الفكر الإنساني، والتي كانت الديانات السماوية تملؤها، واعتقد كثيرون ممن كانوا يحتلون مواقع السلطة ويتحكمون في الرأي العام في الغرب أنه لن يكون للدين دور مهم في أحداث العالم مرة أخرى وللأبد.
هذا الخواء لم يبق نظريا وحسب، ففي منتصف القرن العشرين تم تحويله إلى واقع من خلال الحرب العالمية الثانية التي تلت لأولى، وأبيد من خلال هاتين الحربين حوالي سبعين مليون إنسان وارتُكبت أسوأ الفظائع وتحول العلم إلى بربرية سخّرت التكنولوجيا في خطط إبادة جماعية لم يسبق أن شهد بمثل فظاعتها التاريخ، وتُوِّجت أعمال الإبادة هذه بتفجير قنبلتين ذريتين على رؤوس البشر في هيروشيما وناغازاكي في اليابان فأبيد مئات الألوف من الناس بلمح البصر، وبدا أن نهاية العالم التي أخبرت عنها الأديان أصبحت قريبة الوقوع على أيدي البشر أنفسهم ولم يعد يخفى أن جرثومة الفناء يحملها قصور روح العقلانية ومواقفها، وان أسلحة الدمار الشامل التي أصبحت تمتلكها كثير من الدول بمقدورها أن تفني في ساعات أعدادا من البشر لم تستطع الحروب التقليدية الغابرة جميعها أن تطالهم عبر العصور، وبدا واضحا ما يمكن أن تكون عليه الحياة حينما يضيع الإحساس بالمقدس، فلقد ساعدت الأديان الناس من خلال طقوسها وممارساتها العقائدية والأخلاقية على غرس التقدير لقدسية البشر و عندما غاب الدين اندفع البشر الذين امتلكوا قوة لم يسبق لها مثيل وسخروا هذه القوة لتدمير كل ما تطاله آلتها من منجزات الحضارة. في الوقت نفسه كان الأصوليون من الديانات الإبراهيمية الثلاث ينسحبون من التيار الرئيسي للمجتمع ليخلقوا ثقافات مضادة وفقا لمعتقداتهم، ولم يكن انسحابهم نابعا من الحقد والكبرياء بل بدافع من الرعب والخوف من آلة الدمار التي خلفتها تجربة الحداثة الخاوية من روح الاحترام والقداسة للحياة على هذا الكوكب ومن هنا بدأ غضب الأصولية الدينية الانفعالي ورغبتها المحمومة لملء الخواء الروحي باليقين، لقد كان من المحتم إذا إيجاد أساليب جديدة تجمع بين احترام قدسية الحياة من جهة، ولا تقدم تنازلات عن منجزات الحضارة الحديثة لحساب عقائد متطرفة تختفي تحت عباءة الدين من جهة أخرى.
ومن هنا نشأت الهوة بين الأصوليين الدينيين وبين هؤلاء الذين يسعون نحو العالم العلماني الحديث متخذين من العقلانية الجامدة البعيدة عن الروحانية والممارسات التي حفظت للجنس البشري استمراره، كتقديس الأسرة والعلاقة بين الزوجين الذكر والأنثى، متخذين من هذه العقلانية اللاأخلاقية دينا جديدا.
لقد تبين أن الجدل العقلاني بين الفريقين غير مجدٍ لأن الخلاف بينهما ينبع من مستويات غريزية عميقة في العقل البشري، وهذا جزء من معضلة الأصولية، فكثيرا ما يشعر الأصوليون بسحر و جاذبية الإنجازات الحديثة التي يحاولون الابتعاد عنها وقد تملكهم الرعب، ولا عجب أن يلصقوا بسحر و جاذبية الإنجازات الحديثة التي يحاولون الابتعاد عنها أنها هي ما ينبئهم غث عقائدهم عنها بأنها المسيح الدجال، ففي الأحاديث المتناقلة عن فتنته، ما يوحي بأنه يحيي ويميت، ويخرج الزرع ويغني الضرع ويمطر السماء ... و في ذلك تشبيه بمنجزات الحضارة الحديثة من شفاء للأمراض التي كانت مستعصية أو تطبيق الأساليب الحديثة في الزراعة والري وتنمية الثروة الحيوانية، فثمة توتر في الرؤية الأصولية قابل في كل لحظة للانفجار، إذ أن الأصوليين في الديانات السماوية الثلاث ثائرون ضد منطق العقلانية الذرائعية (أي أن الغاية تبرر الوسيلة) المهيمن على مجتمع الحداثة والذي يُقصي العنصر الروحاني ويرفض القيود التي يقدمها الخطاب المقدس.
تقوم الأصولية على معتقد ديني أو سياسي أو عرقي متلحفة بالشكل الثقافي أو المؤسساتي الذي ارتدته في عصر سابق من تاريخها، وتعتقد أنها تملك الحقيقة المطلقة التي أنيط بها أن تفرضها على الآخرين. في إطار هذا التعريف تمتد الأصولية لتتخذ أكثر من وجه ولون؛ فهناك الأصولية العلمانية والتكنوقراطية والنازية والفاشية في الغرب التي تزعم أن لديها الإجابة على كل شيء مستندة إلى تصور قديم، وضعي للعلم، وتؤمن بهيمنة الغرب الخالدة على بقية شعوب الأرض. تقوم قداسة هذا النوع من الأصولية على خلق دين جديد صَنَع من العلم عقيدة جازمة، ليصبح العلم مقدساً، بينما العلم في إطار تعريفه يبدأ بالشك وينتهي بمجموعة من الحقائق القابلة للملاحظة والقياس لاستنتاج العلاقات الراسية بين هذه الحقائق، فلا يمكن أن يكون العلم دينا فضلا عن كونه مقدساً ضمن هذا المفهوم. إن أكثر أشكال التعصب الأصولي مخادعة هو الاعتقاد المقدس بتفوق وعلو الغرب علميا وتقنيا على جميع أنماط الحياة الأخرى، يظهر هذا الاعتقاد في معارضة الغرب المسبقة لكل حضارة أو تقدم، مدعياً لنفسه وحده الحق في أن يرث الأرض وما عليها باستخدام قدرته على تسخير الطبيعة والإنسان لخدمته من خلال العلم والتكنولوجيا. لكن هذا الادعاء أثبت افتقاره إلى الإنسانية والأخلاق من خلال الحروب المتكررة التي شنها الغرب على الشعوب الفقيرة ثم اندحر مهزوما أمام إرادة هذه الشعوب.
من الأصوليات الدينية الرائجة اليوم؛ والتي خلقت بؤراً للتوتر والحروب في العالم، هناك الأصولية الإسرائيلية والأصولية الإسلاموية لدى المذهبين الشائعين بين المسلمين: السنة والشيعة.
لا يمكن تقييم أصولية محددة انطلاقا من أصولية أخرى هذا انكماش على الذات ووثوق بتفوق ثقافة تدعي أنها شمولية وخارقة على الثقافات الأخرى، فلا يمكن وصف إنسان بأنه أصولي بحجة أنه لا يشاركني ثقافتي أو عقيدتي وفكري. لا يمكن لنقد الأصولية أن يستقيم إلا إذا استند أولا إلى معرفة ثقافة الآخرين الثرّة أو معتقدهم الصافي الذي قد تكون الأصولية تشويها له. يجب أن يبدأ نقد الأصولية إذا من النقد الذاتي يليه حوار حقيقي يقتنع الجميع فيه أن عليهم أن يتعلموا من بعضهم. إن هذا الحوار يؤدي إلى إغناء متبادل للثقافة والإيمان ويلبي حاجات عالم لم يعد يمكن التفكير فيه إلا كعالم واحد على جميع الأصعدة: أصعدة الاقتصاد والبيئة والأمن والثقافة والإيمان.
لقد سعى رواد الحداثة وما بعد الحداثة من وراء ذلك كله إلى التملص من فكرة الإله والمسؤوليات التي تترتب على الإنسان من خلال الإيمان به تجاه النفس والطبيعة والمجتمع بغية الانفلات بدون قيود أو شروط في غابات المتعة والشهوة البهيمية، والتفلّت من الأديان ووسمها بالحكايات الخرافية والأساطير، وقد مثلت نظرية التطور والانتخاب الطبيعي للأحياء وتناقضها مع ما اعتقدوا أنه جاء في الكتاب المقدس متكأً طيبا لهجوم العلمانية الجديدة على الأديان.
حاول رجال الدين التصدي لهذا الواقع الجديد مع إبداء بعض المرونة نحوه، بمحاولة فهم النص المقدس مثلا على أنه نوع من الرمز لا يمكن الأخذ بحرفيته؛ ... و كان البحث عن عقيدة جديدة على درجة كبيرة من الصعوبة والتعقيد، ولعل البحث عن الأصول ومحاولة الرجوع إليها و التدين المبالغ فيه والذي نسميه اليوم بالأصولية هو أحد هذه المحاولات، إلا أن المد العلمي العقلاني تجاوز جميع الأصول، ففي كتابه: "الحرب ضد العلم الحديث-1927" ادعى الكاتب والمفكر مينارد شيبيلي أنه لو تمكن الدينيون من فرض سلطتهم على الطوائف، فسيفقد الأميركيون أفضل ما في ثقافتهم وسيلقى بهم في العصور المظلمة من جديد. وقد تناسى الجميع في ذروة حماسهم هذه أن أساسيات الدين الأخلاقية والروحانية مهمة للبشر، ولا يجوز إبعادها دون تفكير إلى مكبات التاريخ لصالح عقلانية بلا حدود، ولا أصولية متحجرة تتنكر لحركة التاريخ.
في بحثها عن إله غير الله وجدت البشرية نفسها وقد وقعت في الخواء والعدم، يصف سارتر هذه الحالة بقوله: "الخواء الذي تشكّل على هيئة الرب في الوعي البشري". إنه الفراغ الذي تركه الإلحاد، ولم يعوضه جميع ما حاولوا إيجاده من بدائل، فلا الإنسان الخارق الذي حلم به نيتشه، ولا الأيديولوجيات النازية والشوفينية ولا الروحانيات العلمانية التي أتت عن طريق الأدب والفن، أو الممارسات الجنسية البهيمية والتحليل النفسي والمخدرات أو حتى الرياضة التي شاع الترويج لها وممارستها والاستغراق من خلالها في حركة الكرة بين أقدام اللاعبين ... كل ذلك لم يضف على الحياة الإنسانية الحس السامي والقيمة ويصل البشر بأعماق الوجود كما فعلت الديانات السماوية، كل ذلك لم يملأ الثغرة التي خلفها غياب الله في الفكر الإنساني، والتي كانت الديانات السماوية تملؤها، واعتقد كثيرون ممن كانوا يحتلون مواقع السلطة ويتحكمون في الرأي العام في الغرب أنه لن يكون للدين دور مهم في أحداث العالم مرة أخرى وللأبد.
هذا الخواء لم يبق نظريا وحسب، ففي منتصف القرن العشرين تم تحويله إلى واقع من خلال الحرب العالمية الثانية التي تلت لأولى، وأبيد من خلال هاتين الحربين حوالي سبعين مليون إنسان وارتُكبت أسوأ الفظائع وتحول العلم إلى بربرية سخّرت التكنولوجيا في خطط إبادة جماعية لم يسبق أن شهد بمثل فظاعتها التاريخ، وتُوِّجت أعمال الإبادة هذه بتفجير قنبلتين ذريتين على رؤوس البشر في هيروشيما وناغازاكي في اليابان فأبيد مئات الألوف من الناس بلمح البصر، وبدا أن نهاية العالم التي أخبرت عنها الأديان أصبحت قريبة الوقوع على أيدي البشر أنفسهم ولم يعد يخفى أن جرثومة الفناء يحملها قصور روح العقلانية ومواقفها، وان أسلحة الدمار الشامل التي أصبحت تمتلكها كثير من الدول بمقدورها أن تفني في ساعات أعدادا من البشر لم تستطع الحروب التقليدية الغابرة جميعها أن تطالهم عبر العصور، وبدا واضحا ما يمكن أن تكون عليه الحياة حينما يضيع الإحساس بالمقدس، فلقد ساعدت الأديان الناس من خلال طقوسها وممارساتها العقائدية والأخلاقية على غرس التقدير لقدسية البشر و عندما غاب الدين اندفع البشر الذين امتلكوا قوة لم يسبق لها مثيل وسخروا هذه القوة لتدمير كل ما تطاله آلتها من منجزات الحضارة. في الوقت نفسه كان الأصوليون من الديانات الإبراهيمية الثلاث ينسحبون من التيار الرئيسي للمجتمع ليخلقوا ثقافات مضادة وفقا لمعتقداتهم، ولم يكن انسحابهم نابعا من الحقد والكبرياء بل بدافع من الرعب والخوف من آلة الدمار التي خلفتها تجربة الحداثة الخاوية من روح الاحترام والقداسة للحياة على هذا الكوكب ومن هنا بدأ غضب الأصولية الدينية الانفعالي ورغبتها المحمومة لملء الخواء الروحي باليقين، لقد كان من المحتم إذا إيجاد أساليب جديدة تجمع بين احترام قدسية الحياة من جهة، ولا تقدم تنازلات عن منجزات الحضارة الحديثة لحساب عقائد متطرفة تختفي تحت عباءة الدين من جهة أخرى.
ومن هنا نشأت الهوة بين الأصوليين الدينيين وبين هؤلاء الذين يسعون نحو العالم العلماني الحديث متخذين من العقلانية الجامدة البعيدة عن الروحانية والممارسات التي حفظت للجنس البشري استمراره، كتقديس الأسرة والعلاقة بين الزوجين الذكر والأنثى، متخذين من هذه العقلانية اللاأخلاقية دينا جديدا.
لقد تبين أن الجدل العقلاني بين الفريقين غير مجدٍ لأن الخلاف بينهما ينبع من مستويات غريزية عميقة في العقل البشري، وهذا جزء من معضلة الأصولية، فكثيرا ما يشعر الأصوليون بسحر و جاذبية الإنجازات الحديثة التي يحاولون الابتعاد عنها وقد تملكهم الرعب، ولا عجب أن يلصقوا بسحر و جاذبية الإنجازات الحديثة التي يحاولون الابتعاد عنها أنها هي ما ينبئهم غث عقائدهم عنها بأنها المسيح الدجال، ففي الأحاديث المتناقلة عن فتنته، ما يوحي بأنه يحيي ويميت، ويخرج الزرع ويغني الضرع ويمطر السماء ... و في ذلك تشبيه بمنجزات الحضارة الحديثة من شفاء للأمراض التي كانت مستعصية أو تطبيق الأساليب الحديثة في الزراعة والري وتنمية الثروة الحيوانية، فثمة توتر في الرؤية الأصولية قابل في كل لحظة للانفجار، إذ أن الأصوليين في الديانات السماوية الثلاث ثائرون ضد منطق العقلانية الذرائعية (أي أن الغاية تبرر الوسيلة) المهيمن على مجتمع الحداثة والذي يُقصي العنصر الروحاني ويرفض القيود التي يقدمها الخطاب المقدس.
تقوم الأصولية على معتقد ديني أو سياسي أو عرقي متلحفة بالشكل الثقافي أو المؤسساتي الذي ارتدته في عصر سابق من تاريخها، وتعتقد أنها تملك الحقيقة المطلقة التي أنيط بها أن تفرضها على الآخرين. في إطار هذا التعريف تمتد الأصولية لتتخذ أكثر من وجه ولون؛ فهناك الأصولية العلمانية والتكنوقراطية والنازية والفاشية في الغرب التي تزعم أن لديها الإجابة على كل شيء مستندة إلى تصور قديم، وضعي للعلم، وتؤمن بهيمنة الغرب الخالدة على بقية شعوب الأرض. تقوم قداسة هذا النوع من الأصولية على خلق دين جديد صَنَع من العلم عقيدة جازمة، ليصبح العلم مقدساً، بينما العلم في إطار تعريفه يبدأ بالشك وينتهي بمجموعة من الحقائق القابلة للملاحظة والقياس لاستنتاج العلاقات الراسية بين هذه الحقائق، فلا يمكن أن يكون العلم دينا فضلا عن كونه مقدساً ضمن هذا المفهوم. إن أكثر أشكال التعصب الأصولي مخادعة هو الاعتقاد المقدس بتفوق وعلو الغرب علميا وتقنيا على جميع أنماط الحياة الأخرى، يظهر هذا الاعتقاد في معارضة الغرب المسبقة لكل حضارة أو تقدم، مدعياً لنفسه وحده الحق في أن يرث الأرض وما عليها باستخدام قدرته على تسخير الطبيعة والإنسان لخدمته من خلال العلم والتكنولوجيا. لكن هذا الادعاء أثبت افتقاره إلى الإنسانية والأخلاق من خلال الحروب المتكررة التي شنها الغرب على الشعوب الفقيرة ثم اندحر مهزوما أمام إرادة هذه الشعوب.
من الأصوليات الدينية الرائجة اليوم؛ والتي خلقت بؤراً للتوتر والحروب في العالم، هناك الأصولية الإسرائيلية والأصولية الإسلاموية لدى المذهبين الشائعين بين المسلمين: السنة والشيعة.
لا يمكن تقييم أصولية محددة انطلاقا من أصولية أخرى هذا انكماش على الذات ووثوق بتفوق ثقافة تدعي أنها شمولية وخارقة على الثقافات الأخرى، فلا يمكن وصف إنسان بأنه أصولي بحجة أنه لا يشاركني ثقافتي أو عقيدتي وفكري. لا يمكن لنقد الأصولية أن يستقيم إلا إذا استند أولا إلى معرفة ثقافة الآخرين الثرّة أو معتقدهم الصافي الذي قد تكون الأصولية تشويها له. يجب أن يبدأ نقد الأصولية إذا من النقد الذاتي يليه حوار حقيقي يقتنع الجميع فيه أن عليهم أن يتعلموا من بعضهم. إن هذا الحوار يؤدي إلى إغناء متبادل للثقافة والإيمان ويلبي حاجات عالم لم يعد يمكن التفكير فيه إلا كعالم واحد على جميع الأصعدة: أصعدة الاقتصاد والبيئة والأمن والثقافة والإيمان.