التواضع من أخلاق العلماء
02-09-2014, 10:57 PM





معنى تواضع العلماء

طالما كانت العزة من شيم العلماء وأخلاقهم، فكان لابد أن يأتي التواضع تاجًا يزين رؤوسهم، وكما أن العزة لا تعني الغرور أو الكبر، فكذلك التواضع لا يعنى التذلل أو التزلف، وإنما يعني أن يُنصف العالِم غيره من نفسه، وأن يقف عند حدود علمه لا يتجاوزه، وألا يتدخل فيما ليس هو من اختصاصه، كما أن منه أن يَعِيَ جيدًا قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، وهذا هو المعني بخلق التواضع عند العلماء.
إن العالم المتواضع يدرك أن بضاعته في العلم قليلة مهما زادت، وبسيطة مهما عظمت، وليس أدل على ذلك من موقف واحد من أعظم علماء الأرض، وهو الخضر عليه السلام؛ إذ يُقدِّر علمه بالقياس إلى علم الله تعالى بقولٍ عجيب.


لقد جاء عصفورٌ فوقع على حرف السفينة التي كانت تُقِلُّ موسى والخضر عليهما السلام، فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: "يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ" [1]!!


صور من تواضع العلماء

وهذا الشعور الدائم بالقلة والبساطة هو الذي يورث التواضع في القلب. وهو ما عناه الشافعي حين قال:


كلَّما أدَّبنــي الـدهــــر *** أراني نقــص عقلي
أو أراي ازددتُ علمًا *** زادني علمًا بجهلي!

وهو أيضًا ما أدركه الفخر الرازي، إمام علم الكلام والفلسفة والعقيدة في عصره، وصاحب التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) حين قال في أخريات حياته:


العلم للرحمن جلَّ جلاله *** وسواه في جهلاته يتغمغمُ
ما للتراب وللعلوم وإنما *** يسعى ليعلم أنه لا يعلـــمُ!


وذلك الشعور هو ما يدفع العالم الرباني إلى أن يعرف قدر نفسه وقدر غيره، فلا ينتقص من غيره، ولا يتعالى هو عليهم، وفي ذات الوقت لا يزهو بنفسه، ولا يأخذه العجب أو الغرور بما عنده، وما حصله.


وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يظهر الإسلام حتى يختلف التجار في البحر، وحتى تخوض الخيل في سبيل الله، ثم يظهر قوم يقرؤون القرآن يقولون: من أقرأ منا؟ من أفقه منا؟ من أعلم منا؟ ثم قال لأصحابه: هل في أولئك من خير؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أولئك منكم من هذه الأمة، فأولئك هم وقود النار" [2].


وذلك شأن العلماء المغرورين، والذي إن دلَّ حالهم على شيء فإنما يدل على جهلهم وقلة علمهم؛ إذ لو كانوا يعلمون، لعلموا أنهم ما حصَّلوا كثيرًا، بل ولا قليلاً!!


وقد ضرب الإمام مالك بن أنس رحمه الله أروع الأمثلة في تجسيد خلق التواضع عند العلماء؛ فقد روى ابن عبد البر عنه أنه قال: لما حجَّ أبو جعفر المنصور دعاني فدخلتُ عليه فحدثته، وسألني فأجبته فقال:


"إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها -يعني الموطأ- فينسخ نسخًا ثم أبعث إلى كل مصر (قطر أو بلد) من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها لا يتعدون إلى غيره، ويدعون ما سوى ذلك من هذا العلم المحدَث؛ فإني رأيتُ أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم.


قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملوا به ودانوا به، من اختلاف الناس: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار كل أهل بلد لأنفسهم".


فقال: لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرتُ به. قال الراوي بعد نهاية القصة: "وهذا غاية في الإنصاف لمن فهم" [3]!!


ورُويَ أيضًا عن عبد الرحمن بن القاسم أنه قال لمالك: "ما أعلم أحدًا أعلمَ بالبيوع من أهل مصر. فقال له مالك: وبم ذلك؟ قال: بك. فقال: أنا لا أعرف البيوع فكيف يعرفونها بي" [4]؟!
وهكذا يكون العالم المتواضع، وهكذا تكون مواقفه وردود فعله، يروي أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ" [5].


وفي التحذير من الضد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ" [6].


وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا: "وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلى أَنْ تَوَاضَعُوا؛ حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ" [7].




[1] البخاري: كتاب الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام (3220)، الترمذي (3149)، وابن حبان (6220).
[2] الطبراني في الأوسط 6/221، والبزار (283)، وقال الهيثمي مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط والبزار ورجال البزار موثقون.
[3] الموطأ - رواية محمد بن الحسن 1/33.
[4] ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله (1/533).
[5] مسلم: كتاب البر والصلة والأدب، باب استحباب العفو والتواضع (2588)، والترمذي (2029)، وأحمد (8996)، ومالك برواية محمد بن الحسن (1817).
[6] مسلم: كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه (91)، والترمذي (1998)، وابن ماجه (59)، وأحمد (3789).
[7] مسلم: كتاب الجنة وضفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (2865)، والبيهقي في سننه الكبرى (20872).



بقلم الدكتور راغب السرجاني