يمنع منعًا باتًّا: أطفالنا والشاشات
06-09-2018, 05:16 PM
يمنع منعًا باتًّا: أطفالنا والشاشات
د. غنية عبد الرحمن النحلاوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
مقدمة:
لو قيل لك: يُمنَع منعًا باتًّا تجاوُز القانون في تعرُّض طفلك للأجهزة الذكية والرائي: التلفاز، تحت طائلة العقوبة، وأقلُّها دفع الضريبة (دولار مثلًا عن كل دقيقة زائدة يجلسُها الطفل إلى الشاشات) - لانصعْتَ بلا أدنى نقاش! (وربما أعلنت وأسررت!)، ولكن عندما نعوِّل على توضيح الأضرار والمخاطر بشكل علمي مثبت، واستنهاض المسؤولية الوالدية والمشاعر الإنسانية، ثم عندما تتعالى إنذارات المختصِّين من الخسائر، تأتي النتائج هزيلةً مع الأسف، ومعظم الأهل لا يمتنعون عن تعريض طفلهم الغضِّ لهذا البلاء لساعات طويلة، فيُصاب بالاعتياد (ولدرجة الإدمان حسب الدراسات العلمية)، والأهل هم مَنْ عرَّفَه على تلك الأجهزة ابتداءً قبل أن يريد أو لا يريد! (ولو كان يدري ما المحاورة اشتكى)!.
♦ أهمية وعالمية الموضوع:
إن التوعية بشأن سهر الأطفال، وتعريضهم الخاطئ والمبكر للرائي: التلفاز، والأجهزة الذكية التي قد تُولِّد الغباء - يحتاج إلى مقالات!، وأكثرنا لغبش مفهوم التربية أو لاختلال سُلَّم الأولويَّات، أو فَقْد الصبر على الطفل أو... ينسى الحقيقة التالية:
أنت لا تُسلم الجهاز للطفل، لكنك في واقع الأمر تُسلِّم طفلَكَ للجهاز "الذكي"، والذي ينشط ذكاؤه هنا لغفلتنا -حتى لا أقول غباؤنا - مسببًا إيذاء الطفل بدنيًّا ونفسيًّا ورُوحيًّا... وسنترك الأذى البدني لمقال آخر، ونتناول بإيجاز الضَّرَر الفكري النفسي الذي يتطوَّر بشكل خلسي، فالتأثير تدريجي ونتائجه تراكمية!، والمسؤولية يشترك فيها كلُّ إنسان يرعى طفلًا... لا سيَّما الأهل!، وهو ما نبَّهَت له الأبحاث العالمية مِرارًا ونتغافل عنه، ومن أوسعها دراسةٌ: وجَدَتْ أن الأطفال الأمريكيِّين يُنفقون في المتوسط ثماني ساعات يوميًّا مع برامج الرائي "الميديا" ومواقع النت على الحواسيب والآي باد والهواتف الذكية، ومع ألعاب الفيديو الإلكترونية media—TV, computers ,smart- phones iPods, video games؛ وهو ما يُعادل عشر أضعاف فترة بقائهم مع أبويهم؛ وفي عام (2005) تم وصف وتصنيف اضطراب نفسي واجتماعي جديد باسم [العوز للطبيعة: Nature deficit disorder]، وملخَّصُه: أن الأطفال الذين يمضون وقتًا أقل خارج الأبواب والجُدران، ووقتًا أطول مع الميديا الإلكترونية - يُعانون من حجم ضخْم من المشاكل السلوكية مع شبح تحوُّلها لأمراض، وبرز رعب اضطرابات التواصُل كالتوحُّد، (وسُمِّي حديثًا التوحُّد الافتراضي)!.
كل تلك الأمور والمزيد اقتضَت توصيات مُشدَّدة وإجراءات صارمة، أحدها: المنع الباتُّ لوجود تلك الأجهزة بمتناول الأطفال، وهو ما يستمرُّ عكسُه على أرض الواقع رغم التوصية[1]!
♦ علاقة الفطرة السليمة والنمو المعرفي السلوكي بقوانين التعامل مع البثِّ الإلكتروني:
وأبدأ بتلخيص مراحل الطفولة الممتدة تطوريًّا وبيولوجيًّا بين الولادة والنُّضْج، وهي تتوزَّع على ثلاث فترات:
1- الطفولة المبكرة: ولها ثلاث مراحل: سن الرضاعة حتى السنتين/ الدارجون حتى الثالثة/ ما قبل المدرسة حتى السابعة.
2- الطفولة المتوسطة: وتُغطِّي سِنَّ المدرسة: منذ الـ(7-8) سنوات وحتى بداية البلوغ.
3- الطفولة المتأخِّرة، المراهقة: منذ بدء البلوغ حتى النُّضْج، حين يصبح المراهق راشدًا ومسؤولًا: وهذه النقطة النهائية لفترة الطفولة بالكامل تختلف باختلاف الثقافات، لتتراوح ما بين السادسة عشرة إلى الحادية والعشرين، لكن الثامنة عشرة هو العمر الشائع لانتهاء الطفولة، والمعتمد قانونيًّا من المنظمات الدولية.
أ- الطفولة المبكرة: وهي أهم فترة؛ لذا سنُركِّز عليها، وغالبًا يتمُّ دَمْجُ المرحلة الثانية والثالثة منها، وهو ما سنعتمده:
1) من الولادة وحتى نهاية السنة الثانية من العمر: التعرُّض هنا لتلك الأجهزة شديد الخطورة فكريًّا وجسميًّا؛ لذلك المنع باتٌّ قاطع، والقانون أنه يمنع منعًا مطلقًا بعمر سنتين وما دون: تعريض الطفل لأي من الأجهزة الذكية النقالة (موبيل-آي باد..)، ويحظر وجودها في غرف الأطفال، هي والتلفزيون الذي يجب منعهم من مشاهدته؛ وهذا القانون العام، وإن أقرَّتْه الجهات العلمية المعتمدة؛ مثل: الأكاديمية الأمريكية لطب الطفل - فإن تطبيقه منوط بالأهل، والصادم: انتشار التجاوزات رغم المنع البات!، ومثلًا عام ٢٠١٥ وجد أن (٥٨٪) من الأطفال دون سن الثانية في فرنسا استعملوا الكمبيوتر اللَّوحي أو الهاتف النقَّال!، وفي منطقتنا يشيع تعرُّض الأطفال لها منذ الشهر الخامس أو السادس من العمر، وأكثرهم يمسكها عابثًا مستكشفًا بعمر سنة!.
ويتراوح سلوك الأهل المخالفين بين المداهنة (ظاهريًّا يسايروننا) إلى العَلَن واللامبالاة لأسباب أهمها (وَفْقًا للنقاشات):
♦ أن تلك الأضرار نظرية، لكن عندما تبدو لهم واقعًا بعد سنِّ الثانية تبدأ محاولاتهم المتأخِّرة لمنعهم عنها.
♦ أن الطفل بنظر الأُمِّ والأب - وبالذات في تلك المرحلة - ملك لهما، والطبيب أو الجد أو المربي "لن يخاف عليه أكثر منا"!، بينما الصحيح أنَّ الابن أمانة مستودعة من خالقه، وليس ملكًا لهما، وتربيته ورعايته جسمًا ورُوحًا هي من مفردات الأمانة وتكاليفها[2].
♦ وأن الهمَّ الأوحد - بالنسبة لأكثرهم - أكل الطفل وشربه ونومه وعلاجه!، ثم كل ما يمكن إلهاؤه به وإسكاته، فلا تثريب عليهم!، بينما هي المرحلة الجوهرية للتواصل ولبناء الفكر والنفس في جوٍّ من سلامة الرُّوح والفطرة، ذلك أن هذه الفترة من العمر هي التي تتنفَّس وتتجلَّى خلالها الفطرة السليمة المرتبطة بنفخة الرُّوح، والتي يُولَد طفلُكَ عليها[3]، ويتمُّ البناء التربوي وَفْقها ماديًّا ومعنويًّا، مستندًا إلى المؤثِّرات والخبرات البيئية الصالحة المتَّسِقة معها، وهذا يتحقَّق على أكمل وَجْه في التربية الإسلامية عندما يترعرع الطفل بين "الناس" الذين قال فيهم الله تعالى:﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30]، وهم الذين حافظوا على تلك الفطرة!، وهي أهم فترة للنماء المعرفي، فطفلك خلالها يشقُّ طريقه بأثبت خُطًى، ستؤثِّر في كل مراحل العمر التالية!، ويكفي أن تعلم أن دماغَه ينمو أول عامين بتسارُع أعظمي يُعادل أو يفوق العشرين سنة التي يستكمل فيها الدماغ نُضْجَه!، وهذا النمو الأعظمي لا يترجم لسلوك سويٍّ دون التفاعُل والتواصُل بينكم وبينه!، لذلك أعظم رعاية فكرية وروحية مباشرة يجب أن تُقدَّم أوَّلَ عامين، ويقوم الطفل خلال هذه المرحلة حسب علم النفس التربوي "بجمع وتركيب بدئي للمعارف المقدمة له"، والأهم أنه يقوم بهذا: بما وهبه الله تعالى من قدرات؛ (مثل: الانتباه، والإدراك، والتذكر)، منقوشة في شفرته الوراثية: العامة كإنسان، والخاصة كمولود لأسرة معينة؛ ثم هو يحقِّق تلك العمليات المعرفية، ويستخدم مقدِّماتها ونتائجها بما علَّمه الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم عزَّ وجلَّ - من أساليب أهمها: الملاحظة/ تكوين الخبرات (التجربة)/ وعلى رأسها التواصُل مع الآخرين، والذي ثبت أنه يجب أن يكون مع كائنات حية!، وليس أجهزة على الإطلاق!، وبالدرجة الأولى مع الأهل الذين عليهم مسؤولية تطوير تلك القدرات، ومساعدة الطفل في بناء الخبرات، وهذا يُفسِّر أن نسبة عالية من الأطفال بمراكز ذوي الحاجات الخاصة لديهم "اضطرابات تواصُل"، سببها الجلوس الطويل إلى الشاشات لبرامج مضمونها قد يكون جيدًا، فالفكرة ليست بالمضمون فقط، بل بمدة وعُمر التعرُّض الذي لم يعد غريبًا أن يبدأ دون السنة من العمر رغم النهي!، مما يُحمِّلنا المسؤولية كاملةً عن شحِّ التفاعُل الفكري والعاطفي والنتائج المستقبلية!.
ومن خصوصيات تلك الفترة:
♦ أن الطفل بين مطلع الشهر الخامس ونهاية الشهر الثامن، يبدأ بتوقع نتائج الأشياء كما يبدأ بالاهتمام بموضوعات العالم الخارجي واختزان الخبرات، وهي بدايات قد يُطوِّرها الأبناء بسرعة مفاجئة.
♦ وفي الشهر التاسع من العمر: يربط الطفل تعبيرات الوجه عند مَنْ يراهم كالحزن والسرور والخوف، مع بعض المؤثرات والأعمال، وهو ينفعل بدوره بمشاعر الخوف والغضب، ويبدأ بالتقليد في هذا العمر.
♦ وبين بداية الشهر التاسع إلى نهاية الشهر الثالث عشر يُميِّز الأطفال بين الوسائل والغايات، وهذا التمييز البدئي، وذلك التقليد الطفولي العفوي يُحمِّل المربِّين مسؤولية مراقبة وانتقاء ما يتعرَّض له الطفل من المؤثرات شكلًا ومضمونًا، سواء منها ما يصدُر عنهم أنفسهم، أو مقذوفات الميديا الإلكترونية الساقطة على ساحات عقولهم وأرواحهم.
♦ ومنذ مطلع الشهر الرابع عشر إلى بداية الثامن عشر، يمارس الطفل التجريب والاكتشاف (فيُوصَف خطأ بالفضولي)، وهو يبرع - لدهشتنا - في تنويع وتعديل سلوكه حسب المعطيات: لذلك يجب التنبُّه لهذه المعطيات!.
وتبرز هنا أهمية "القدوة" و"التقليد" في التربية والتعليم المبكرين، وهو ما يُسمِّيه علماء التربية الإسلامية: "التربية بالقدوة"، ويجعلون "التلقين" ثالثهما في عمر الثالثة.
يتبع إن شاء الله.