حدث في الـــــــــــــــشاطئ
04-05-2017, 05:26 PM
حدث في الشاطئ


عطست بشدة (أتسووووووم). واهتزت أضلعي النخرة بشدة...شعرت على أثرها أن غبارا كثيفا من الارهاق قد غادر خلاياي المترهلة.
العطس أحيانا يمنحني قدرا من الراحة لا أجده في ساعات مديدة من النوم...
يبدو أن نسائم البحر المسترخي أمامي تسللت على حين غفلة إلى جسدي المتعرق و المكدود و كانت السبب الرئيس في نوبة العطس التي ألمت بي...
يحق للعرق أن يتفصد من جسدي كما يرشح الندى من الورود عند انبلاج الفجر.
لقد كانت المسافة التي التهمتها ساقاي مسرفة في الطول من البيت إلى هذا الشاطئ ...
شاطيء مترامي الأطراف تكسوه رمال ذهبية تأسر الأنظار. لكن المكان يشبه مقبرة حزينة. لا حياة و لا صخب و لا حركة...
هدير البحر المنبسط أمامي كان يتلف سكون المكان.
فلقد كنت أطمع أن يحافظ البحر على سكينته عسى أن تمضي الرحلة في سلام...
زرقته الرائعة كانت تغري الأبصار بالمشاهدة. ..
و أمواج ناصعة البياض كانت تتشكل بسرعة مذهلة لتتلاشى على الفور أمام الصخور الراسخة...
كنت أستمتع بهذا الديكور الطبيعي الخلاب. و أشعر أن الرئتين تحتضنان كل الأوكسوجين النقي الذي يمرح فوق هذه الأمكنة...
لكن اللذة العظمى كنت أتلمسها في هذا العود الذي يضطرب بين أناملي .
على الرمال المشربة بملوحة الماء و المحترقة بلفح الشمس كنت أخطط بذلك العود أشكالا و ملامحا مختلفة و متناقضة أحيانا...
أرسم قلبا ضخما جدا. و سرعان ما تغافلني موجة متطفلة في أناة و تحذف من فوق صفحة الرمل ما رسمته للتو...
أعاود الكرة مجددا و أرسم وردة باذخة و ما تلبث الموجة العنيدة أن تمحو ما صنعت...
رسمت سيارة فارهة و شمسا ضخمة جدا . ثم جسد أنثى يشبه الإلهة ايزيس...
أخيرا و جدت العود يكتب رغما عني و بخط مرتبك غير مقروء...(أمـــــــــــي).
الغريب أن تلك الموجة غابت فجأة...
وبقيت (أمــــي) جاثمة على الرمل في إصرار عجيب دون أن تزعجها تلك الموجة الظريفة...
و اغرورقت عيناي بالعبرات واعتصر الألم مشاعري. قبل ساعة فقط كانت والدتي العطوف تمسك بثوبي و هي تسألني بصوت متهدج:
– أراك تجمع متاعك و حقيبتك يا جميل. هل أنت مقبل على سفر؟-
التفت إلى أمي . وتأملت عينين تختزنان حدب جميع الأمهات و كرمهن و برائتهن ... آلمني أن أكتمها الحقيقة و أجبتها و الخجل من نفسي يكاد يسحقني :
– مجرد رحلة إلى مدينة قريبة لألتقي بعض الصحب و سوف أعود في القريب العاجل-
ابتسمت الوالدة الرءوم أخيرا و هي تمطرني بتحف من الأدعية كما الغيث في هاجرة الصيف...
لم تكن المسكينة تحسب أنني سأرحل إلى ما وراء البحر حيث لا شمس و لا أهل و لا رغيف و لا ربيع...
بل صقيع قاتل و غيم قاتم و غربة خانقة و مصير تحفه الأشواك و المجاهل و الأوجاع و التمزق البغيض...
لقد كذبت على تلك المرأة الطيبة لأول مرة في حياتي. و فجأة اجتاحت تلك الموجة المتطفلة كلمة (أمـــي) و بددتها إلى الأبد...
وخز الندم صدري و في الحين أمسكت حقيبتي بين ذراعي المترهلتين.
اخترق سمعي نحيب طفل هناك ...لقد كانت أمه تضمه إليها في حنو بالغ. ألح الصبي في البكاء و يبدو أنه زهد في لبن والدته أو ربما شعر بدنو الرحيل عن تراب موطنه. من المؤكد أنهما مثلي ينتظران المركب الذي أمعن في الغياب...
في هذه اللحظة كانت حشود النوارس تملأ خاصرة السماء في خيلاء. و ترسل صيحات تنم عن ألم دفين و لسان حالها يقول :
" إلى أين أيها المسافرون؟ كيف يطيب لكم فراق الصحب و الأهل و الأوطان؟"...
ظهر المركب فجأة هناك في الأفق و هو يتهادى على صفحة الماء الصقيلة.
أشرعته المتراخية تتراقص جذلانة على عزف الرياح الهادئة.
" مرحى..مرحى..مرحى.. " ضجت حناجر القوم مرحبة بوصول المركب. أغلبهم من الشباب البائس مثلي ممن زهدوا في الوطن أو زهد فيهم الوطن و آثروا رغيف أوروبا و زخرفها...
جثم المركب بمحاذاة الشاطئ بعد لأي . و تقاطر القوم حوله كما يتقاطر النمل حول بقعة من العسل...
الجميع يسعى للظفر بشبر على سطحه عسى أن يصل إلى بلاد الصقيع و الضباب . إلى "الجنة الموعودة " ...
لكن ماذا أشم ؟ رائحة منتنة لحيوان أعرفه جيدا...(ربااااااااه ) هتفت و قد شد انتباهي هناك في أقصى الشاطئ مشهد مؤثر...
نسيت المركب و من فيه .تقدمت في رفق إلى حيث تنبعث تلك الرائحة المقززة.
ذئبة ممددة أرضا و الجراء الصغيرة تثب من حولها في لهو و عبث . لقد
كانت ترمقهم في سعادة و عطف بالغين.
كانت الذئبة مكسورة الساق فهي لا تستطيع النهوض أو السعي في طلب الطعام.
في هذه اللحظات كان جرو كبير يسحب عظما مكسوا ببقايا اللحم صوب أمه...
لقد اقشعر بدني لذلك المشهد وأدركت في الحين معنى ما حدث...إن الجرو الوفي يضرب في الأرض ليطعم أمه الذئبة التي أقعدها المرض.. بل انه يطعم إخوته الجراء أيضا في سخاء و إنكار للذات...
أمام هذا المنظر الرائع شعرت بضآلة نفسي و أيقنت أن ذلك الجرو أشد وفاءا و أعظم شأنا مني.
انه لم يترك أمه و إخوته نهبا للجوع و البرد و الإهمال و طمع السباع و الوحوش...كان الجرو بطلا عظيما و كنت أنا جبانا و لئيما ..
على الفور قذفت بحقيبتي هناك في بطن الموج. و أرسلت صيحة قوية لم أدري هل هي صيحة انتصار أو ندم...
و غادرت الشاطئ و يممت شطر داري و في صدري يختلج شيء من الرضا و السعادة...