إلى عقلاء العالم
18-03-2018, 04:07 AM


إلى عقـلاء العالم..

أوَّل الواجبات التي يُفترض أن ينتبه لها ويحرص عليها عقلاء العالم تجنُّب قيام نزاع له طابع ديني، أو يمثِّل اعتداء -ولو في أحد جوانبه- على الدين، فتلك هي النقطة التي يأخذ عندها الصراع أبعادًا أخرى في غاية الخطورة؛ فالبداية تجييشٌ للجماهير يضرب على أوتار عاطفتهم الدينيَّة، فيُنسى السبب الفعلي الذي قامت له الحرب؛ ومن ثَمَّ يُنسى معيار العدالة الذي يجب أن تتوقَّف الحرب عنده، فتصير الحرب في حدِّ ذاتها رسالة، ويُصبح استمرار القتل عبادة، ثُمَّ إنَّ الأجيال تتوارث الثارات إلى مئات السنين، فلا تكاد الحرب تهدأ وتتوقَّف بسببٍ من التعب والإنهاك، الذي أصاب الطرفين حتى تكون النار مشتعلة تحت الرماد، فتنتظر حدثًا آخر أو تغيُّرًا في ميزان القوى لدى أحد المعسكرين فتنشب من جديد.
في أحداث الحادي عشر من سبتمبر أُلْبِسَ النزاعُ ثوبًا دينيًّا لحشد الشعب الأميركي، ومن خلفه الشعوب الأوربيَّة تحت شعار المسيحيَّة التي تُحارب الإرهاب الإسلامي، ورُفع الشعار الأشهر: "من ليس معنا فهو ضدُّنا". وأُعلِنَ أنَّها حملةٌ صليبيَّة[1]؛ ومن ثَمَّ نُسي أنَّ سبب الحادث كان مقتل حوالي ثلاثة آلاف أميركي؛ ليصير الصراع رسالةً دينيَّةً تقضي بوقف ومحاربة الإرهاب الإسلامي كلِّه، فتختفي صيغة العدالة المنطقيَّة لتأتي صيغ أخرى رساليَّة.
ذلك ما سَخِرَتْ منه الكاتبة الهنديَّة أرونداي روي، التي رصدت التفرقة التعسُّفية بين الحضارة والبربريَّة، فحينما يُقْتَل "المتحضِّرون" يُقال إنه: "قتل الأبرياء". أمَّا حين يُقْتَل "المتخلِّفون" يُبَرَّر هذا بأنَّها من "الأضرار المصاحبة للحروب"، تقول: "هذه السفسطة وطريقة الحسابات المتعسِّفة للعدالة المطلقة: كم عراقيًّا يجب أن يموت حتى يتغيَّر العالم إلى الأفضل؟! كم ميِّتًا في أفغانستان مقابل كلِّ ميِّتٍ أميركي؟! كم عدد القتلى من النساء والأطفال مقابل رجلٍ ميِّت؟! وكم عدد القتلى من المجاهدين مقابل رجل أعمال؟!"[2].
إنَّ إلباس المصالح ثوبًا دينيًّا يجعلنا أمام حروبٍ لا تنتهي، حروب تختفي فيها العدالة لحساب التعصُّب، الذي لا يشبع أبدًا من الضحايا، ولا يتوقَّف أبدًا عند لحظة من عقل، حتى لو ثبت بعد كلِّ التجارب التاريخيَّة أنَّ نزاعًا دينيًّا لم يؤدِّ إلى تقدُّمٍ أو مصلحة؛ تقول كارين أرمسترونج -التي كانت راهبة مسيحيَّة، ثُمَّ ابتعدت عن الأديان واشتغلت بالبحث فيها ومقارنتها- في لحظةٍ كأنَّما تُمثِّل خلاصة حياتها: "قد ظللت لسنوات عديدة لا أُريد أن تكون لي أيَّة علاقة بالدين، ومن المؤكَّد أنَّ بعضًا من كتبي الأولى بها اتجاهات دوكينزية، لكن دراستي لأديان العالم على مدى العشرين عامًا الأخيرة أجبرتني على مراجعة آرائي المبكِّرة، فَتَحَتْ تلك المراجعةُ عيني على أوجه دينيَّة يُمارسها معتنقو الأديان الأخرى؛ ممَّا أدَّى إلى تعديل عقيدتي الطفوليَّة الضيِّقة الدوجماتية، هذا بالإضافة إلى أنَّ التقييم الدقيق الواعي للأدلَّة جعل نظرتي للمسيحيَّة ذاتها تتغيَّر، أحد الأشياء التي تعلمتها هي أنَّ الشجار حول الدين مُضِرٌّ وغير مُجْدٍ ولا يُؤَدِّي إلى الاستنارة"[3].
ولهذا يجب مناهضة الاعتداء على الأديان، ومحاربة كلِّ محاولةٍ تسير في طريق إشعال حربٍ على أساسٍ ديني؛ ومن ثَمَّ فإنَّه يجب وبشكلٍ أكبر مقاومةُ بعض السياسيِّين المجانين -الذين لا يعبئون في سبيل الحصول على مصالحهم القاصرة والعاجلة والذاتيَّة- أن يستخدموا العاطفة الدينيَّة في تعبئة الجماهير وتحميسها، فهذه نقطة البداية في طريق الكارثة.
في اليوم نفسه الذي أكتب فيه هذه السطور نشرت جريدة الشروق المصريَّة نبأ عن دعوة كنيسة أميركيَّة إلى اعتماد يوم الـ11 من سبتمبر يومًا عالميًّا لإحراق القرآن الكريم؛ وذلك إحياءً لذكرى ضحايا الاعتداء الذي تعرَّض له مركز التجارة العالمي، الذي يُصادف العام الحالي ذكراه العاشرة، وأعلن قساوسة إنجيليُّون أنَّهم سوف يحرقون القرآن مُوَجِّهين دعواتهم للآخرين كي يحذوا حذوهم، وأسَّسوا لهذا الغرض صفحةً على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" تحت شعار "اليوم العالمي لحرق القرآن"[4].
هذا مجرَّد أثر من آثار تحويل ما حدث في سبتمبر إلى حربٍ دينيَّة، لكن.. ترى ما الذي يرجوه مَنْ أعلنوا عن هذا اليوم العالمي لحرق القرآن؟ إنه ليس إلَّا إشعال مزيدٍ من الفتن في داخل الوطن الواحد بين فئاتٍ كان الأولى بها أن تتعايش في وفاق.
***
لقد طرحنا "نظريَّة المشترك الإنساني" طرحًا نظريًّا، وهذا ما استطعنا أن نفعله في حدود ما نملك من طاقات وإمكانيَّات، إلَّا إنَّ خروجها إلى حيِّز التطبيق يحتاج إلى تفعيلٍ بوضع ورش عملٍ ولجانٍ ومناهج تربويَّة سيُنفق عليها الوقت والجهد، وإذا كنَّا وضعنا هذا الإطار النظري في بعض سنة من الزمن، فإنَّ ثمرتها العمليَّة تحتاج إلى مجهودٍ متواصلٍ على مدار سنين، سيكون -لا شَكَّ- مجهودًا كبيرًا، إلَّا إنَّها ستعود بالنفع الأقوى على العالم في السنوات المقبلة.
أعلمُ أنَّ المشاكل والأزمات -التي حدثت على مدار قرنٍ أو اثنين- لا يُمكن أن تُحَلَّ في لحظات، ولكن يجب علينا أن نَتَبَيَّن الطريق، ونعرف الوجهة والهدف، ثُمَّ نرسم بعد ذلك ملامح الحركة، وخطَّة العمل لتحقيق الأهداف المنشودة.
فهذا نداءٌ إلى عقلاء العالم، آمُل أن يأخذ طريقه إلى عقولهم وقلوبهم، على اختلاف أماكنهم وقناعاتهم ورُؤاهم وتخصُّصَاتهم، إنَّني أدعوهم جميعًا للإدلاء بدلوهم في هذا المجال؛ فإنَّه يحتاج إسهام المفكرين المخلصين من شتَّى أجناس الأرض.

المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.

[1] لم يُغَيِّر من الأمر شيئًا أن اعتذرت الإدارة الأميركيَّة عن هذه اللفظة: "حملة صليبيَّة". باعتبارها زلَّة لسان، فلسان الحال يقول هذا بأبلغ ممَّا يقوله لسان المقال، كما أنَّ سلوك الرئيس بوش الابن وخطاباته وتصريحاته الممتلئة بجوِّ الحرب الدينيَّة الرساليَّة تجعل هذه اللفظة من فلتات اللسان التي تُعبِّر عن مكنونات الصدور.
[2] أرونداي روي: حسابات العدالة المطلقة، ص8، نقلًا عن: محمد سعدي: مستقبل العلاقات الدوليَّة، ص342.
[3] كارين أرمسترونج: الله لماذا؟ ص20.
[4] جريدة الشروق المصرية 25/7/2010م.