تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
منتديات الشروق أونلاين > منتدى التاريخ > منتدى التاريخ العام

> سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر .. خلدون مكي الحسني

  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية algeroi
algeroi
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 17-10-2007
  • المشاركات : 4,860
  • معدل تقييم المستوى :

    22

  • algeroi has a spectacular aura aboutalgeroi has a spectacular aura about
الصورة الرمزية algeroi
algeroi
شروقي
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر .. خلدون مكي الحسني
23-12-2008, 05:44 PM
بسم الله الرحمن الرحيم


الحلقة الرابعة عشرة

بيّنتُ في الحلقة الماضية كيف اتّخذ الأخ محمد مبارك صاحب (فك الشفرة) من أحداث 1860م التي بدأت في جبل لبنان ثم انتقلت إلى دمشق ، حجّة لاتهام الأمير عبد القادر بالعمالة السافرة لفرنسا وبانتسابه إلى الجمعية الماسونية .
وبعد ذلك أكّد تهمة الماسونية بالاستشهاد بكتب وأقوال لبعض رجال الماسونية أمثال : أنطوان عاصي ، وإسكندر شاهين ، وشاهين مكاريوس ، وجرجي زيدان!!
وقبل أن أبدأ بتبيين سقوط هذه التهمة ، أرى من الضروري جدًّا (ومن باب الذِّكرى لجميع المؤمنين) التنبيه على مسألة خطيرة وهي مسألة الاستشهاد بكلام أشخاص صليبيين أو ماسونيين للطعن برجال مسلمين!!
قديمًا كان هذا الشيء لا وجود له عند أهل الإسلام على مختلف مشاربهم ، فلا يُعقل أن يطعن مسلم في مسلم بناءً على شهادة يهودي حاقد أو صليبي مُغرض! وإنما العمدةُ في ذلك على شهادات الثقات من المسلمين! فصفة الإسلام وحدها لا تكفي بل لا بدّ معها من صفة الثقة .
والله تعالى علّمنا ذلك بقوله :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات :6] (وهذه الآية نزلت في أحد المسلمين!)
إذن إذا كان المُخبر لنا مسلمًا فاسقًا لا تُقبل روايته ، فكيف بالفاسق من غير المسلمين؟!
وكيف بالفاسق الحاقد الماسوني؟!!!
ولمّا كان الأخ صاحب (فك الشفرة) يَعُدُّ المنتسب إلى الماسونية شخصًا عميلاً خائنًا ، فهو إذن مُقرّ بأن رجال الماسونية أشخاص أشرار أعداء للإسلام وفيهم خصال السوء ، فكيف رضي أن يستشهد بكلامهم ويعتمد عليه في الطعن برجال الإسلام؟!
وأنا إن شاء الله سأبيّن بكل وضوح ومع الأدلّة والبراهين الساطعة براءة الأمير من تهمة الانتساب إلى الماسونية ومن تهمة الرِّدة والانحياز للكافرين والعمالة لهم ، التي يوجهها إليه بعضهم. ولكن قبل ذلك أنا مضطر لتفنيد (يعني إبطال) المراجع التي يعتمد عليها بعضهم وبيان عدم صحة ما فيها.
لقد بدأ الأخ صاحب (فك الشفرة) كلامه بقوله :" وهناك نص ماسوني موثق كتبه الدكتور انطوان عاصي رئيس معهد الطقوس في المحفل الأكبر اللبناني الموحد راداًّ فيه على بديعة الحسني حفيدة الأمير الجزائري ـ والتي أنكرت ماسونية الأمير ـ لإثبات ماسونية الجزائري ناقلاً فيه عن مصادر معروفة و موجودة".انتهى

أقول : هل أنطوان عاصي شخص موثوق به عند الكاتب ومصادره الماسونية معروفة وموثّقة؟!
ولكي أعطي القرّاء صورة سريعة عن هذا المرجع أقول : أنطوان العاصي هذا هو شخص لبناني مسيحي معاصر ، وليس ممن عاصروا الأمير عبد القادر ولا أبناءه.
وكلامه وردَ في كتابٍ للبناني آخر هو إسكندر شاهين وعنوان الكتاب هو ((الماسونية ديانة أم بدعة)) طباعة بيروت 1999م.
والقارئ لهذا الكتاب يدرك بسرعة تفاهته! فمن العنوان يحاول الكاتب إظهار الماسونيّة على أنّها ديانة قديمة أو حالة روحية عند المتدينين ، يَبْلغونها بعد قطع أشواط في الترقي الفكري والروحي! ويحاول جاهدًا أن يُفهم القرّاء أن الماسونية لا علاقة لها باليهودية ، وأنّ توراة موسى سَرَقَت معالم التوراة الكنعانية وطمست وشوهت معالمها ، فلذلك لا يمكن القول إن الماسونية بنت الصهيونية أو إسرائيل، فهي نقيضها تمامًا!! ... ولكن هناك ماسونية صهيونية ، وهي التي خططت لمجازر الأرمن في تركيا إبّان الحرب العالمية الأولى. وأنه يجب التفريق بين ماسونية وأخرى وبخاصّة أن هناك [52] مذهبًا ماسونيًا يستحيل اتحادها لأن لكل مذهب نظرة فلسفية خاصّة!!!
وأنّ مؤسس الماسونية هو المهندس (حيرام آبي) باني هيكل سليمان ، لا كما يزعم اليهود أن الملك سليمان هو مؤسس الماسونية!!(وهناك من يقول إن سيدنا نوح هو مؤسس الماسونية!) وأنّ سليمان هو الذي أمر بقتل حيرام قبل خروجه من القدس ، وأن قبر حيرام في مدينة صور اللبنانية!! وأنّ الماسونية انطلقت من مدينة صور حيث ولِدَ أول مذهب ماسوني وهو المذهب الكنعاني!! (بحسب كلام أنطوان عاصي) وأن الماسونية يعود وجودها إلى 2000 سنة قبل المسيح ، فالسنة الماسونية الحالية 5999.(بزعم القطب الأعظم ضاهر ديب ؛ ويبدو أنه ضعيف في الحساب!) ؛ وأن محفل الشرق الأكبر اللبناني ، الذي مركزه بيروت أعضاؤه مسلمون!!! وأنّ الماسونية اللبنانية تعُدُّ إسرائيل عدوًا طبيعيًا لها ، وأن صراع الماسونية مع اليهود يعود في جذوره إلى اغتيال حيرام آبي على أيدي اليهود في زمن سليمان!! وأن الماسونية كانت على عداء شديد مع منظمة فرسان مالطا ، وأنّ اليهود لم يكن يُسمح لهم الانتساب إلى الماسونية قبل القرن العشرين!!!
ثمّ يحاول جاهدًا أن يدلل على فضائل الماسونية ومزاياها بكلام لا يُقنع إلاّ الأغبياء. كل ذلك بلغة ركيكة مبتذلة لا يُفهم منها شيء بوضوح.
ثم يحاول أن يوهم أن الماسونية هي مسيحيّة ، ثم يصفها بأنها العلمانية ، ويختم تناقضاته بقوله "البابا يوحنا بولس الثاني (قبل الحالي) أَمَرَ بنشر نصّ صريح في مجلة أعمال الكرسي الرسولي في 1/3/1984م ، يشكل الإعلان النهائي حول موضوع العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية والماسونية (العلمانية) ، أكد فيه عدم التوافق بين مبادئ الماسونية وعقيدة الكنيسة".انتهى
وبعد ذلك عمد إلى التفرقة بين الماسونيين ؛ فمنهم من هو وطني محب للعربية ، ومنهم من هو مرتبط بالغرب وبالأطماع الاستعمارية !!!! زعموا.
كما حاول أن يجعل كل منجزات النهضة في سورية ولبنان من مدارس ومعاهد ومجلات وجمعيات إنما هي بفضل الماسونية ، كما أن كل رجال الفكر والنهضة العربية الإسلامية هم من الماسون ومن أعلى الدرجات...!
وقال عن محمد جميل بيهم! أنه كان رئيسًا للمحفل الماسوني (الاتحاد) ووصفه بأنه معارض بارز للانتداب الفرنسي!!!
وفي لبنان وحده يوجد اليوم ربع مليون ماسوني ، بزعمه!
ثم أخذ الكاتب (إسكندر شاهين) يُسمي بعض المحافل فقال : ـ محفل مكة ، محفل المدينة ، محفل الملائكة ، محفل أُميّة، محفل خالد بن الوليد ، محفل عمر بن الخطاب ، محفل الرياض ، محفل العروة الوثقى ، محفل محمد علي ، محفل الملك حسين ..!!!
وأما أسماء رؤساء المحافل فهي محمد وأحمد ومحمود ومصطفى وحسن وحسين وإدريس..وهكذا
وأما مواد التكريس (التثبيت) في بعض المحافل التي على طريقة (شراينر) فأُدخلت فيها بعض الآيات القرآنية!!!!
ولما تكلّم على انضمام الملك حسين إلى الماسونية قال : ((وما كاد نبأ انضمام جلالته إلى العشيرة الحرّة يصل إلى أبناء شعبه الوفي حتى زحفت الوفود إلى قصر بسمان مهنّئةً العاهل البطل!!)).انتهى
إذن الشعب الأردني كله مؤيّد للماسونية. فما رأيكم؟
ومن النصوص الشنيعة التي نقلها صاحب الكتاب (إسكندر شاهين) عن أقطاب الماسونية قولهم "وكان موسى يظن أن العالَم لا يشتمل على شيء سوى سيّارتنا هذه (لعله يقصد الأرض) وأنّ موسى قد غلط في زعمه هذا غلطًا فظيعًا".انتهى بهتانهم.
والمضحك أن إسكندر شاهين أورد صيغة القَسَم الماسوني وفيه يتعهدُ المنتسبُ إلى الماسونية ألا يكتب أو ينشر شيئًا عن الأسرار الماسونية . ونحن نقرأ من أول الكتاب إلى آخره أسرار الماسونية على لسان رؤسائها وأساتذتها وأقطابها ومُخرِّفيها!! (إلاّ إذا كان لديهم أسرار أخرى يخفونها عناوهذا يجعل كل ما جاء في الكتاب ساقطًا ولا قيمة له ؛ فالحقيقة مخفيَّة ولا يجوز البوح بها وكل ما يُقال إنما هو أكاذيب وضلالات لا تنطلي على القارئ المتيقظ).
هذه هي العناوين العريضة للكتاب الأول الذي يحتج بما ورد فيه الأخ صاحب (فك الشفرة)!!
وفي الفصل الثاني من كتاب إسكندر شاهين تحت عنوان ـ الأمير عبد القادر الجزائري والماسونية في الشرق ـ يقول المؤلف : ((يختلف المؤرخون حول مسألة انتشار الماسونية في لبنان وسورية ففي حين يردها المؤرخ الماسوني جرجي زيدان إلى عام 1864م على يد الأمير عبد القادر الجزائري ، تطالعنا المجلة الماسونية "الأكاسيا" عدد حزيران 1994م "بأن الماسونية انتشرت في سورية ولبنان سنة 1738م! وذلك بانضمام نخبة من رجالات دولتي المشرق سورية ولبنان إلى المحفل الأكبر الإقليمي العثماني ومقرّه الأستانة ، وكان تابعًا للمحفل الأكبر الإنكليزي)).انتهى
وهكذا نرى كيف اختلف الدجاجلة ، فهم يطوّرون كذبتهم وفقًا للأغراض المتوخّاة منها!

ثمّ أورد الكاتب مقالة للأميرة بديعة (حفظها الله) حفيدة الأمير عبد القادر تنفي فيها مسألة انتساب الأمير للماسونية وأثْبَتَتْ فيها وثائق وشهادات وتحقيقات علمية كلها تدعم ما تقول.
إلاّ أنّ الكاتب إسكندر شاهين لم يعلّق على شيء من ذلك واكتفى بإيراد رد أنطوان عاصي على مقال حفيدة الأمير.
والكاتب إسكندر كلما استغرق في التخليط والهلوسة ، استشهد بكلام المدعو أنطوان عاصي. فكان "كضِغْثٍ على إبَّالَة".

والغريب أنّ الأخ صاحب (فك الشفرة) فيما يبدو اطلع على مقاطع من كلام أنطوان عاصي مجتزأة، لأنّه لو قرأ كلامه كاملاً لظهر له بوضوح كم هو مخلِّطٌ كبير ، ومدى سقوط كلامه.
مثلاً : يقول أنطوان عاصي في ردِّه على حفيدة الأمير: "4ـ أُنشئ في نيويورك في 26/9/1872م نظام تحت اسم (النظام العربي القديم لأشراف المزار الصوفي). وأقيم على أساس (مزار صوفي إسلامي). أُسس هذا النظام سنة (656م)! . قبل تطوره أي بعد موت النبي محمد صلى الله عليه الصلاة والسلام (كذا) بأربع وعشرين سنة!!!
ويقول : فلنا أن نقول عن الماسونية : إنها يهودية ، لأنها كذلك في بعض طقوسها ومراسمها ..
ولنا أن نقول : إنها مسيحيّة ، لأنها تحث على السلم والوداعة والمحبة ، وكل ما أتى به الدين المسيحي، من آيات التساهل واللين ...
ولنا أن نقول أيضًا : إنها محمّدية ، لأنها في مجموع وصاياها وفلسفتها ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتشترط في الداخلين في سلكها كل فضيلة ومكرمة".انتهى
كل هذا الكلام قبل أن يبدأ بمسألة ماسونية الأمير .
ثم تابع العاصي كلامه بوصفِ نفسه أنه من الماسونيين العريقين! لا من المتطفّلين!!
إذن فهناك ماسون عريقون وآخرين متطفّلون! يا سلام على هذه الفائدة!
ثمّ راح يستدل على عراقة الماسونية ، بتطابق نصوصها مع نصوص التوراة اليهودية التي هي أهم سند للماسون! ثم راح ينفي عن الماسونية تأثّرها باليهودية وأنّ الخطر اليهودي قد انحسر عنها!!! في تخبّطٍ وهلوسة منقطعة النظير وبِلُغةٍ لا تكاد تَفهم منها شيئًا . فضمن أسطر قليلة تجده يثبت الشيء وينفيه وينتسب إلى شيء ويتبرّأ منه وهكذا ... وبعد ذلك راح يبيّن أنّ الماسونية استلهمت أفكارها ومبادئها من الصوفيّة الإسلامية ، طبعًا هذه بحد ذاتها طامّة من طوامّه وفِرْيَةٌ من مفترياته ؛ ولكنه حتى يزيد الأمر وضوحًا برأيه ، أخذ يعدد رموز التصوف الذين استلهمت منهم الماسونية فقال :"ما استلهمته الماسونية من الصوفية الإسلامية من ابن خلدون ، وعمر بن الفارض ، وأبو العلاء المعري".انتهى
فزاد هذا التوضيح منه الطين بِلَّةً ، فما دَخْلُ ابن خلدون وأبي العلاء المعرّي بالتصوف؟! وابن خلدون أوّل ما بدأ مقدّمته هاجم فيها الصوفيّة!
وجميعنا يعلم أنّ أساس المبادىء الماسونية هو القضاء على الإسلام وغيره من الأديان وإبقاء الدين اليهودي حاكمًا للعالم ، فكيف تكون الأفكار الماسونية مستمدّة من التصوف الإسلامي ومن كلام مؤرخ الإسلام ابن خلدون أو أبي العلاء المعرّي؟
ونسي العاصي ما كتبه قبل أسطر من أنّ الماسونية مستمدّة بالكليّة من التوراة اليهوديّة!
ثمّ بعد ذلك راح يتحدث عن أحداث 1860م فزعم أنّ تلك الفتنة كان وراءها الإنكليز بالتعاون مع وريث العهد المصري (يعني محمد علي) والدولة العثمانية نفسها ، وذلك لإخضاع سورية للحكم العثماني!! فأرسلت فرنسا وبروسيا وإنكلترا(انتبه)! وإيطاليا والنمسا جيوشها البالغ عددهم (12.000) جندي بقيادة الجنرال بوفور الفرنسي لحماية الدروز والموارنة من المجازر التي ارتكبها بحقهم (الطورانيون الأتراك) بقيادة فؤاد باشا!!!
ثمّ قال العاصي : إنّ المجازر كانت بين الدروز والموارنة ، وبين الدروز وبقيّة الفِرَق الإسلاميّة . فالدروز هم من أشعلوا الفتنة.
ثم قال : وكلّف نابليون الثالث الأمير عبد القادر بالتصدي للجيش الطوراني التركي للحفاظ على الأقليّات في الشرق!! ونجح الأمير في حماية النصارى فقلّده نابليون وسام الشرف.انتهى
أرأيتم إلى هذا التزوير السافر للتاريخ!!
لقد مرّ معنا في الحلقة السابقة تفصيل أحداث 1860م والعنوان العريض لها هو أنّ فرنسا حرّضت الموارنة على الدروز ، وإنكلترا دعمت الدروز ، ثمّ سيطرت الدولة العثمانية عن طريق وزيرها فؤاد باشا على مجريات الأمور ، بعد أن قام الأمير عبد القادر بتهدئة الأوضاع.
والذي كان يُباشر القتل إنما هم الدروز والموارنة في لبنان ، وأما في دمشق فأشقياء البلد مع الدروز، ولم يتدخل في أحداث القتل أي جندي تركي!
أمّا أنطوان هذا فتارة يقول إنّ إنكلترا هي التي كانت وراء الأحداث وهي التي حرّضت الدروز على قتل الموارنة ، وتارة يقول إنّ العثمانيين هم الذين أشعلوا الفتنة وقتّلوا الدروز والموارنة ، وتارة يقول إنّ الدورز كانوا يقتّلون الموارنة وباقي الفرق الإسلاميّة ، وتارة يقول إنّ الإنكليز تحالفوا مع العثمانيين ومحمد علي على فرنسا ، وتارة يقول إنّ فرنسا وإنكلترا أرسلتا جيشًا للتصدي للعثمانيين.
ومحمد علي ؛ الذي هو حليف لفرنسا وخارجٌ على السلطان ، صار عند أنطوان عاصي حليفًا لإنكلترا وللسلطان ، والغرض من الفتنة كما نعلم جميعًا هو فصل سورية عن الدولة العثمانية ، ولكنه صار عند العاصي أنطوان لإخضاع سورية للحكم العثماني!!! وكأنّ سورية ليست تحت الحكم العثماني!! والله هذا كلام يسبب الغثيان، لم أرَ في حياتي كتابًا كهذا! فأنطوان هذا يُناقض نفسه في كل سطر فلا تكاد تصل إلى نهاية السطر حتى تجد أن الكلام صار خلاف أوّله!
فانظروا كيف يكون التزوير والتحريف وقلب الحقائق.

ويُتابع أنطوان عاصي فيقول : ((إنّ الأمير عبد القادر كان المناضل الأكثر شراسة على فرنسا في الجزائر ، وهذا سبَّبَ له عداء نابليون الثاني الذي قام بسجن الأمير في فرنسا ، ولكن بعد إطلاق سراحه كلّفه نابليون الثالث بمهمة إنقاذ المسيحيين في دمشق ، ثم بعد ذلك أشاد الماسون بإنسانية الأمير وعرضوا عليه الانضمام إلى جمعيّتهم ، ولكن هذا الانضمام تأخر لوجود خلافات بين الأمير وبين الماريشال الفرنسي الذي هو الأستاذ الأعظم للمحفل الماسوني، وبعد سنوات انضم الأمير للجمعية الماسونية)).انتهى

أرأيتم إلى هذا الهذيان! فتارة يزعم أنّ الأمير دخل في الماسونية وهو في السجن في فرنسا وبناء على ذلك كان يتلقى التكاليف من نابليون وأوّل تكليف له كان حماية النصارى في أحداث 1860م ، وتارة يزعم أنّ الماسون عرضوا على الأمير الانضمام إليهم بعد أحداث 1860م وأنّه كان على خلاف مع الماريشال الفرنسي فلم ينضم إلاّ بعد خمس سنوات ، وأنّه كان يُخفي نفسه وبقي في الظل.
لقد روّج الماسونيون مسألةَ كون الأمير ماسونيًا بِناءً على حمايته للنصارى في دمشق وأنّ ذلك كان بتكليف ماسوني . ثم هم يقولون إنّهم لم يعرضوا عليه الانتساب إلاّ بعد أحداث 1860م ، وأنه قبلها لم يكن ماسونيًا . وهكذا كذبهم مفضوح دائمًا!
ولم يأت أنطوان بأي دليل يُثبت انتساب الأمير للماسونية وكذلك إسكندر شاهين في كل كتابه ، مع أنّهم يروّجون للماسونية على أنها أمرٌ حسن والمنتسبون إليها هم من الكُمَّل (زعموا) . والمحاولة البائسة والوحيدة التي قام بها إسكندر هذا لإيهام القرّاء بأنه يملك وثائق تثبت صحة ما افتراه على الأمير : هي أنّه عَرَضَ في نهاية الكتاب ـ ضمن الصور التي عرضها للشخصيات اللبنانية الماسونية المعاصرة ـ لوحة زيتية مشهورة للأمير عبد القادر وهو يثير حماس جنوده قبل إحدى معاركه مع فرنسا ، ولكن بعد أن زوّر إسكندر مناسبتها فكتب تحتها (رسم يمثل الأمير عبد القادر على أبواب دمشق)! ومهما يكن الأمر فأي دليل في هذه اللوحة على صحّة ما يدّعيه؟!!
ووصف ـ في نهاية كلامه الغثّ ـ الماسونية ((بأنها حالة هيولية ما وراء العقل ثم ترتقي إلى الوحي أي "النيرفانا الهندية" وهي المرحلة الأخيرة قبل وصول قمّة التركيز التي هي "اليوغا")).انتهى ؛ ورضي الكاتب صاحب (فك الشفرة) بهذا الكلام!!
إذن هذا هو الكتاب الذي عدَّه الأخ كاتب (فك الشفرة) من المصادر الموثوقة التي تثبت ـ برأيه ـ دون أدنى شك إدعاءاته على الأمير.
والجميع أصبح يرى مدى تهافت الكتاب ومؤلّفه ومدى سقوطه وسخافته ، ومقدار الكذب المفضوح الذي حواه وانبنى عليه.
والذي يُفهم من كلام أنطوان عاصي وأمثاله أنّ الإمبراطور نابليون الثالث كان ماسونيًا ، وأن ماريشالات الجيش الفرنسي كانوا من الماسون ، وأن الإنكليز ماسون ، وأن حماية الأمير للنصارى في أحداث 1860م كان بتكليف من الماسون ، وكل هؤلاء نصارى والخدمة كانت للنصارى ، إذن فالنصارى هم الماسون وليس اليهود أليس كذلك؟!
على كل حال سآتي على تفصيل هذا الموضوع وبيانه ؛ إن شاء الله ؛ عند معالجتي لحقيقة الماسونية.

ونعود الآن إلى الأخ كاتب (فك الشفرة)، فبعد فراغه من نقل كلام أنطوان عاصي ، انتقل إلى مرجع ماسوني آخر وهو المدعو شاهين مكاريوس ، ولكن على عادته يبدأ بمقدمة تساعده على عرض ما يريد فقال :" بعد أحداث سنة 1860 في جبل لبنان صارت دمشق عاصمة ولاية سورية في الدولة العثمانية". انتهى
يا سبحان الله! وماذا كانت قبل ذلك؟ عاصمة فرنسا!!!
ثمّ زعم أنّ الوالي العثماني الذي استلمها كان ماسونيًا ، لأنّ دولة الخلافة العثمانية بزعمه كانت لا تعيّن إلاّ الماسون!! ثم بدأ الوالي العثماني بنشر الماسونية في دمشق بسرعة وجرأة وبعدها طلب من الأمير أن يتولى هو نشر الماسونية ودعمها ، ولكي يثبت هذا الادعاء استشهد بكتاب شاهين مكاريوس.
لقد زعم مكاريوس ـ الماسوني الكبير ـ كما نقل كاتب (فك الشفرة) "أن الأمير التحق بالماسونية فأحبها وأحب أهلها ، ومال إليها وإليهم كثيراً، وكان لا يخفي نفسه ، وطالما جاهر بأنه من أعضائها" .انتهى
ورضي الأخ صاحب (فك الشفرة) بهذا الكلام أيضًا!
ولكن من هو شاهين مكاريوس؟ ((إنّه من مواليد (1269-1328 هـ = 1853-1910م): من مؤسسي جريدة (المقطّم) بمصر، وأحد أصحاب (المقتطف) ومنشئ جريدة (اللطائف) ولد في قرية "إبل السقي" من (مرج عيون - بلبنان) ونشأ في بيروت يتيمًا فقيرًا، قُتِلَ أبوه في حادثة سنة 1860م، وحملته أمه إلى بيروت حيث كانت تعوله من عملها في خدمة الدكتور فانديك، فتعلَّم فن الطباعة، وتولى إدارة مجلة المقتطف ببيروت سنة (1876م) ورحل إلى مصر مع زميليه يعقوب صرّوف وفارس نمر.
وخدم الماسونية بكتبه: (الجوهر المصون في مشاهير الماسون - ط) و(الحقائق الأصلية في تاريخ الماسونية العملية - ط) و(الدر المكنون في غرائب الماسون - ط) و(الآداب الماسونية - ط).)).انتهى [انظر الأعلام للزركلي . (ط) تعني مطبوع]
إذن الرجل ماسوني، فَقَدَ والده بعدما قتله الدروز في لبنان في أحداث 1860م ، واضطرّت أمّه إلى العمل خادمةً لتتمكن من إعالته، فنشأ يتيمًا فقيرًا ناقمًا، وانخرط في الماسونيّة ، واستفرغ وسعه في الكتابة عنها والترويج لها.
قال عنه حسين حمادة: ((مؤسس محفل (اللطائف) وهو حائز على النيشان الماسوني العالي ، وكاتب السر الأعظم للمحفل الأكبر الوطني المصري)).انتهى[شهادات ماسونية ص96] وكل كتبه الخاصة بالماسونية وضعها وطبعها بعد وفاة الأمير بسنوات!
ويروي شاهين مكاريوس في كتابه "الأسرار الخفية في الجمعية الماسونية" المطبوع في مصر سنة 1900م ، أنّ نبيَّ الله ((سليمان بن داود ملك إسرائيل كان أوّل معلّم أعظم في الفرانماسونية واسم أمّه (بتشايع) ، وأنه لم يكن له من أمه سوى أخ واحد اسمه أبشالوم ، وأنّ (حيرام آبي) أستاذ الماسونيين الذين يقيمون له مأتمًا عند دخول الطالبين ، وأنّه ابن أرملة من السوريين من سبط (نفتالي) كان أبو صوريًّا يعمل في النحاس ، وأنه كان متعرّفًا بالأخوية الديونيسية ، وأنه الناشر لأسرار تلك الأخوية)).انتهى [ص97 من كتاب حسين حمادة]
وفي كتابه "فضائل الماسونيّة" المطبوع بمصر سنة 1899م يخبرنا عن إحدى فضائل الماسونية فيقول في الصفحة 53((نجا أحد الماسون المدعو جورج كاروتر ، إذ وقع في أيدي اللصوص فأرادو قتله لولا أنه أبدى الإشارة الماسونية ، ففهم معناها زعيم اللصوص المدعو بيل أندرسن ، فترجّل عن جواده ، وصافحه مصافحة الإخوان ، مما دعا جورج كاروتر ليشكر الماسونية بسبب خلاصه من الموت)) وعلّق الكاتب حسين حمادة على كلام مكاريوس فقال : على أنّ الروائي شاهين مكاريوس نسي أن يهنئ الماسونية على إدخال اللصوص في محافلها ، وإلاّ فكيف لهم أن يفهموا إشارات الماسون إن لم يكونوا منهم؟)).انتهى [شهادات ماسونية لحمادة ص97]
هذا ما تيسر لي من كتابات هذا الشخص. فتأمّل!
ولمّا كان الفضل ـ في إنقاذ المسيحيين من مذبحة 1860م ـ لعلماء المسلمين وكبرائهم أمثال الأمير عبد القادر ومفتي الشام الشيخ الحمزاوي والعطار والمنيني.. وغيرهم ، ثَقُلَ على أمثال ابن مكاريوس (الذي فقد أباه في تلك المذبحة) أن يشهدوا بالفضل لأصحابه لأنّهم من المسلمين!
وغيرُ المسلمين لا يُطيقون أن يُنسَبَ الفضل والخير إلى المسلمين ، فما كان منهم إلاّ أن ألصقوا صفة الماسونية بكل من ساهم في إنقاذ وحماية المواطنين المسيحيين في بلاد الشام! ونحنُ لا نجد في كل ما كتبه الكتّاب المسيحيون عن مذبحة 1860م الغربيون منهم أو الشرقيون ؛ أيّ إشارة إلى فضل الشريعة الإسلامية التي طبّقها كبار رجال الإسلام في صيانة أعراض النصارى وحقن دمائهم ، وإنما أثنوا على أولئك الرجال وألحقوهم بالماسونية زورًا وبهتانًا!!

ـ ثم انتقل الأخ كاتب (فك الشيفرة) إلى الاستشهاد بكلام جرجي زيدان (وما أدراك ما جرجي زيدان)
لقد زعم جرجي :"أن الماسونية دخلت إلى الشام بمساعي الأمير وأنه أول من أسس المحافل الماسونية".انتهى ، ورضي الأخ الكاتب بهذا الكلام أيضًا!

وانظروا إلى هذا التخبّط : فمرّة يقولون إنّ الماسونية كانت في بلاد الشام قبل الأمير وأن الولاة العثمانيين هم الذين أدخلوها ، ومرة يقولون إنّ الماسون أسسوا محافلهم في الشام وسعى الأمير للانضمام إليها ، ومرة يقولون إنّ الأمير هو الذي أدخل الماسونية إلى الشام ، ومرّة يقولون إن الأمير في البداية كان يُخفي نفسه ، ومرّة يقولون إن الأمير كان منذ البداية يُجاهر بنفسه ، و...
وبعد ذلك يرى الأخ صاحب (فك الشفرة) أنّ هذه المصادر الماسونية هي مصادر موثوقٌ بها وعلمية وصالحة للاحتجاج على عمالة وردّة الأمير عبد القادر!! الذي شَهِدَ له المؤرِّخون والعلماء المسلمون أمثال مفتي المالكية العلاّمة محمد عليش وولده الشيخ الأزهري عبد الرحمن عليش ، والعلاّمة عبد الرزاق البيطار وحفيده الشيخ محمد بهجة البيطار ، والعلاّمة جمال الدين القاسمي ، ومفتي الحنابلة الشيخ محمد جميل الشطي ، وآخرون كُثر ، شهدوا له بالفضل والدِّيانة والغَيْرة على دين الإسلام ، وأشادوا بحرصه على إقامة أحكام الشريعة وحدودها ، وسعيه الحثيث لنشر علوم الدين ، حتى إنه إلى آخر أيّام حياته كان يُقْرِئُ صحيح البخاري ويُجيزُ به الطلبة والمشايخ ، وكذلك موطأ مالك وغيره، فضلاً عن سنده في القرآن الذي أخذه عنه جمعٌ من المشايخ والطلاّب ، وشهدوا له بمواظبته على حضور صلاة الجماعة في المساجد حتى وفاته ، إلى غير ذلك من الخصال التي تدلّ على تمسّك الرجل بدينه وحرصه على اتباع سنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأحب أن أنبّه الإخوة القرّاء جميعًا إلى أمر هام وهو أن المدعو جرجي زيدان في كتابه الذي ادّعى فيه أنّ الأمير عبد القادر كان ماسونيًا ، ادّعى أيضًا أن خلفاء المسلمين من الأمويين والعباسيين هم أول من أدخل الماسونية إلى المدينة والشام وبغداد ، وادّعى أن الخليفة الوليد بن عبد الملك استعان بالماسون لبناء المسجد النبوي والمسجد الأموي بدمشق والمسجد الأقصى!!!
وأنّ الكثير من علماء المسلمين وفقهائهم وأمرائهم انتسبوا إلى الماسونية في حينها!!!
وزعم أنّ القائد صلاح الدين الأيوبي كان ماسونيًا!
ليس هذا فحسب فقد قال :"إنّ الله أسسَ أوّل محفل ماسوني في جنّة عدن وأن ميخائيل رئيس الملائكة كان أوّل أستاذ أعظم"!!
وكتاب (تاريخ الماسونية العام) لجرجي زيدان [مطبعة الهلال بمصر الطبعة الثانية (1920م)]([1])في المجمل يشبه قصّة روائية خيالية كاتبها سكران! فهو يدّعي أنّ الماسونية قديمة قدمَ الإنسان ومع ذلك تعجّب من نبيّ الله عيسى ابن مريم فقال : ((ولا نعلم ما الدّاعي لإغفال السيد المسيح ذِكرَها مطلقًا، مع أنه تكلّم كثيرًا عن طائفتي الصديقيين والفريسيين المعاصرتين لها)).انتهى [تاريخ الماسونية ص19]، وزعمَ أن الماسون هم عمّالُ بناء ، وأنهم كانوا أقوى وسيلة لنشر الديانة المسيحية [انظر ص42]، وأنّ كبار ملوك وحكام أوربا كانوا من الماسون! ، وكان الماسون يحظون برعاية بابا روما ورجال الدين المسيحي [انظر ص60]، وأنهم المسؤولون عن بناء جميع المعابد والمساجد ، وهم الذين بَنَوا مدينة بغداد وقرطبة وإشبيلية (قصر الحمراء) ؛ وفجأة تحوّلوا من عمال بناء إلى دعاة ينشرون العلم والفضيلة!
ثمّ سردَ الوقائع والمنشورات التي تبيّن العداء الشديد الذي تضمره الكنيسة ورجالها تجاه الماسون، وأنهم كانوا يعدّون الماسونية مناقضة لعبادة الله وللديانة المسيحية ، بل وللديانة على وجه العموم! (هذا أحد التناقضات الشديدة التي مُلِئ الكتاب بها)[انظر ص126] ؛ وأنه لم يكن فيهم أي إسرائيلي ، وإنما بدأ قبول الأعضاء الإسرائيليين في الماسونية سنة 1840م!![انظر ص136] .
وهو في كتابه يعترف أن الماسونية جمعية سريّة ، ولكنه يعلل ذلك بأنه شأن جميع الحركات الإصلاحية ، والأديان ، ويضرب على ذلك مثلاً المسيح ابن مريم عليه السلام في أوّل أمره . ولكن غاب عن جرجي أنّ تكتُّم وسِرِّية جمعيته الماسونية استمر على الأقل من 2000 سنة قبل الميلاد إلى ما بعد 2000 سنة من الميلاد وإلى يومنا هذا!!
وسأعرض بعض أقواله وافتراءاته الشنيعة بحرفيتها :
يقول المدعو جرجي زيدان في كتابه (تاريخ الماسونية العام) مطبعة الهلال بمصر الطبعة الثانية (1920م) ص50 تحت عنوان ـ الماسون في عهد الخلفاء ـ : ((أمّا فئات الماسون الذين جاؤوا المشرق وكان منهم جماعة في القسطنطينية فإنهم اكتسبوا شهرة عظيمة وكان يدعوهم الملوك من أنحاء فارس وبلاد العرب وسورية لبناء المعاقل والمعابد . من ذلك أنّ الخليفة الوليد بن عبد الملك استعملهم سنة (88) للهجرة في بناء المساجد في المدينة ودمشق وأورشليم وقد ذكر مؤرخو العرب ما يشير إلى شيء من ذلك!!)) .انتهى [(تاريخ الماسونية العام) لجرجي زيدان ص50 ـ 51]
ثم عرضَ نصًا من تاريخ ابن خلدون فيه ذِكْرُ كتابةِ الوليد بن عبد الملك لأميره على المدينة عمر بن عبد العزيز يأمره بهدم الحجرات وبناء المسجد النبوي ، وأن عُمر شرع في العمل بعد وصول الأموال والفََعَلَة (الذين يدَّعي جرجي أنهم ماسونيون!)

ويتابع جرجي فيقول : ((وما زالت جمعيات الإخوة البنائين الأحرار تتسع نطاقًا في "اسكوتلاندا" و"غاليا" حتى نهاية الجيل السابع وبداية الثامن إلى أيام الفتوحات الإسلامية سنة (718م) فانحطّت وضعفت شوكتها . حتى إذا جاءت أيام الخلفاء العباسيين وبُنِيَت بغداد فازدهرت تلك العاصمة وصارت إليها الصناعة برمّتها ، ولا سيما صناعة البناء وكأنّ الماسونية انتقلت في ذلك القرن من أوربا إلى آسيا على أثر التمدن الإسلامي ، وأصبحت جماعات البنائين على جانب من الكثرة والصولة في سورية والعراق وبلاد العرب . فانتظم في سلكها كثيرٌ من العلماء والفقهاء والأمراء . ويُستَدل على شيء من ذلك مما ورد في كتب التاريخ عن كيفية بناء مدينة بغداد)).انتهى [(تاريخ الماسونية) لجرجي ص51]
ثم عرض نصًّا من تاريخ ابن الأثير فيه ذِكْرُ كتابة الخليفة المنصور إلى الشام والجبل وغيرها يطلب الصُنَّاع . ثم ذكر حضور الحجاج بن أرطاة وأبي حنيفة! (وكأنه يعرّض بهما بعدما زعم انتساب العلماء والفقهاء إلى الماسونية في ذلك الوقت ، كما عرّض بعمر بن عبد العزيز في النص السابق)
ثمّ زعم جورجي في حاشية الصفحة 53 : أنه كان يوجد في بغداد أيام بنائها جمعية سريّة تشبه في مبادئها الجمعية الماسونية وبينهما علاقات وارتباطات واسمها (الروزكريسيان) وأن من أعضائها : الفارابي ، والفضل بن سهل الفلكي ، وخالد بن برمك ، والمورياني وغيرهم.انتهى [(تاريخ الماسونية) لجرجي حاشية ص53]
والمطلعون على التاريخ والرجال ، يدركون تمامًا لماذا اختار جرجي تلك الأسماء لتمرير فريته الشنيعة!

ويقول جرجي تحت عنوان ـ ريكاردوس قلب الأسد وصلاح الدين الأيوبي ـ: ((.. ويستلمح من الحادثة المشهورة التي حصلت بين هذا البطل! والسلطان صلاح الدين الأيوبي أثناء الحروب الصليبية في سورية أن هذا الأخير كان على شيء من الماسونية لأن المعاملة التي عاملها السلطان صلاح الدين لريكاردوس ، مع كونه من أعداء وطنه ودينه ، لا يمكن أن تحدث إلا عن ارتباط داخلي أشدُّ متانةً من رابطة الوطنية ألا وهي رابطة الأخوية الماسونية ، والله أعلم)).انتهى [(تاريخ الماسونية) لجرجي ص60]
ويقول جرجي : (( وفي سنة (1380م) تم بناء حصن الحمراء وقصرها في غرناطة ويعد هذا البناء من أجمل مباني الأندلس (إسبانيا) إلى ذلك العهد ، فإن ذلك القصر فريد في بدائعه وقد بني على نمط روماني كان متَّبعًا في القرن الثالث بعد الميلاد .أما بعد ذلك فلم يكن معروفًا عنه شيء ، والظاهر أن هذا البناء وغيره من مثله في غرناطة قد بنتها جمعية ماسونية حافظت على ذلك النمط ، وكانت في إسبانيا ثم فُقِدت أوراقها فلم يصل إلينا منها ما ينبئنا عن خبرها)).انتهى [تاريخ الماسونية ص65]
فإذا كانت الأوراق مفقودة ولم يصل من أخبار تلك الجمعية شيء فمن أين لهذا الكذّاب هذه المعلومات؟!
ويقول جرجي تحت عنوان ـ الماسونية في سورية ـ : ((...إن الماسونية العملية انتشرت في أنحاء سورية في أوائل التاريخ المسيحي وأوائل الهجرة ، وقد بنى البناؤون الأحرار (الماسون) بنايات عديدة لا تزال آثارها إلى الآن من الكنائس والجوامع والقلاع والأسوار..)) ....
ثم قال : ((ويظهر من مراجعة ما تقدّم أن الماسونيين في سورية لم يكونوا مضطهدين في أيّام الدولة الإسلامية كما كانوا في أيّام الدولة الرومانية قبلها ، لأنك رأيت كيف كانوا يستدعونهم من أماكن شتى ويعهدون إليهم بناء المعابد والمدن والمعاقل . وقد انضم إليها كثيرون من أفاضلهم وعلمائهم)).انتهى [تاريخ الماسونية ص152]
إذن يريد جرجي أن يقنعنا بأنّ الماسون كانوا مضطهدين أيام الرومان ، في حين أنهم لم يكونوا كذلك أيّام الدولة الإسلامية الأولى التي كانت ترعاهم وتتعامل معهم! فأرجو أن يتنبّه لهذا الأخ كاتب "فك الشفرة".
ويقول جرجي : ((أمّا شأن الماسونية عمومًا في تركيا فشأنها في سائر البلاد ؛ هذا من قبيل العامّة واعتقاداتهم ، أمّا من قبيل الدولة فلم تصادف مقاومة رسميّة مطلقًا . وإن تكن من الجهة الثانية لم تصادف تنشيطًا كبيرًا ، على أنّ مولانا أمير المؤمنين قد كان في ريبة من أمرها ولكنّه علِمَ مؤخّرًا صحّةَ مباديها وإخلاصها لجلالته ولسائر الأمّة والوطن وقد تشّرفتْ برضائه عنها)).انتهى [تاريخ الماسونية ص161] .
أقول: إنّ جرجي زيدان مات سنة 1914م وكان قد فرغ من تأليف تاريخ الماسونية قبل ذلك بسنوات ، إذن فأمير المؤمنين الذي يتحدث عنه هو السلطان العثماني الخليفة عبد الحميد الثاني، على الأغلب(المتوفى سنة 1336هـ = 1919م ، وانتهت خلافته سنة 1328هـ = 1911م) ، وجرجي يدّعي أنه كان راضيًا عن الماسونية وأن الماسونية كانت مخلصة لجلالته ولسائر الأمّة! فما رأي الأخ محمد مبارك بهذا؟
ـ طبعًا هذه النقول اشتملت على مغالطات تاريخية كثيرة غير مسألة الماسونية!
أرأيتم إلى هذه المصادر التي يعتمد عليها البعض ويثق بما فيها؟!
أرأيتم إلى هذا البلاء! خلفاء المسلمين هم أوّل من أدخل الماسونية إلى بلاد المسلمين!!
فإذا كان الأخ كاتب (فك الشفرة) يرى كلام جرجي زيدان كلامًا يُوثَق به فهذا يعني أنه يقول بقوله في اتهام الخلفاء بالاستعانة بالماسون ، وبانضمام علماء التابعين وتابعيهم إلى الماسونية ، وكذلك يقرّه على اتهامه صلاح الدين بالماسونية (ولا أظنه يقول بذلك أبدًا) ولكن ما معنى أن يقبل كلامه في الأمير فقط!
إما أن يقبل الكل أو يرفض الكل فالمصدر واحد والاتهام واحد وانعدام البيّنة واحد.

وأمّا فيما يخص الأمير عبد القادر ، فإنّ جرجي زيدان تعرّض لذكره في آخر كتابه تحت عنوان ـ الماسونية في دمشق ـ وهي فقرة تتألف من خمسة أسطر فقط!! بدأها بقوله : ((دخلت الماسونية الرمزية إلى دمشق بمساعي الطيب الذكر المغفور له الأمير عبد القادر الجزائري. وأوّل محفل تأسس فيها هو محفل سورية بشرق دمشق تحت (شرق إيطاليا الأعظم) ولا يوجد في دمشق غير هذا المحفل وقد ترأّسَ عليه كثيرون من أعيان البلاد وأمرائها . وقد لاقى اضطهادًا قليلاً إلاّ أنه تغلّبَ على كل الصعوبات فثبتَ بمساعي الإخوة وتنشيطهم)).انتهى [تاريخ الماسونية ص156] ،
ثمّ تحدث بعد ذلك عن الماسونية في فلسطين ثم في تركيا إلى أن قرَّر تشرف الماسونية برضا السلطان عبد الحميد!![ص161] .
أقول: إذن الماسوني جرجي زيدان يزعم أنّ الأمير هو الذي أسس محفل "سورية" وأنه لا وجود لمحفل آخر في دمشق! وأنه لاقى اضطهادًا قليلاً! في حين أنّ الماسوني أنطوان عاصي يزعم أنّالأمير بعد عودته من باريس إلى سورية سنة 1865م أصبح عضوًا فخريًا في محفل "سورية" الذي كان ينتمي إلى الشرق الدمشقي . وهذا يعني أنّ المحفل كان موجودًا قبل الأمير!! ولكن يخالفهما الرأي صاحب (فك الشفرة) فهو يقول :تعاون راشد باشا مع الأمير عبد القادر بعد رجوعه من مصر بهذا الخصوص فأسَّسا محفل "سورية" أو الجمعية الماسونية، وكانت هذه الجمعية تتستر تحت اسم : (لجنة الإصلاح)!!! وصاحب (فك الشفرة) يعتمد في نقوله على جرجي وعاصي وأضرابهما!! . ومرَّ معنا قبل ذلك قول جرجي أن السلطان العثماني كان راضيًا عن الماسونية ، وصاحب (فك الشفرة) يقول إن مخلص باشا والي دمشق كان ماسونيًا وينشر الماسونية بجرأة وأنه كلّف الأمير بنشر الماسونية!! ونقل عن مكاريوس أن مفتي دمشق ونقيب الأشراف فيها وشيخ الأموي ومحدّث الشام وكبار العلماء في دمشق كانوا من الأعضاء في ذلك المحفل!!
إذن من الذي كان يضطهد الأمير ومحفل "سورية" إذا كان الوالي والسلطان مؤيّدان ، وشيوخ البلد والمُفْتُون فيها وأشرافها من الماسون؟!
فما هذا التناقض في الأقوال؟
ثم تحدث جرجي عن الماسونية في مصر إلى أن قال : ((وفي سنة 1845م [يعني عندما كان الأمير يجاهد الغزاة الفرنسيين في الجزائر!] تأسس في الإسكندرية تحت رعاية الشرق الأعظم الفرنساوي محفل اسمه "الأهرام" انضمَّ إليه كثيرون من الإخوة الماسونيين من جميع الطوائف والنزعات وكثُرَ أعضاؤه وكان يشتغل بعلم الحكومة المحليّة لا يخشى اضطهادًا ولا يبالي بما يقوله القائلون على غير هدى. ولهذا المحفل بالحقيقة الفضل الأعظم في بثّ التعاليم الماسونية في القطر المصري والتحق به قسمٌ عظيم من رجال البلاد من وطنيين وأجانب وفي جملتهم البرنس حليم باشا ابن ساكن الجنان محمد علي باشا والأمير عبد القادر الجزائري المشهور بالفضل والحلم وعزَّة النفس التي هي الصفات الماسونية الحقة!! وقد تمثلت في شخص هذا الرجل . ولا نزيد القارئ علمًا بما أتاه هذا الأمير في بلاده من البسالة وعلو الهمّة والحزم في حربه مع الفرنساويين في الغرب ، وما أبداه من كرم الأخلاق والشهامة أثناء حادثة الشام المشهورة ، فإنّه حمى في كنفه ألوفًا من المسيحيين الذين لولاه لهدرت دماؤهم والناس إذ ذاك فوضى لا سراة لهم)).انتهى [تاريخ الماسونية ص166]
ثم قال : ((ومن الرجال الذين شرَّفوا هذه العشيرة بحمايتهم ، ورعوها بعين رعايتهم ؛ سمو الخديوي إسماعيل باشا الأفخم!)).انتهى [تاريخ الماسونية ص171] .
أقول: عندما وجد جرجي زيدان نفسه أمام مشكلة كبيرة وهي الفارق الكبير بين صفات رجال الماسون الذين يتحدث عنهم سواء في أوربة أو في الشرق (من أمثاله وأمثال مكاريوس) وبين صفات الأمير عبد القادر السامية والمخالفة تمامًا لصفاتهم الوضيعة ، لم يجد بُدًّا من سرد صفات الأمير الحميدة التي لا يجهلها أحدٌ في ذلك الوقت ، ثمّ علّق عليها قائلاً إنها هي صفات الماسونية الحقة!!!
والأمر الذي يستحق الوقوف عنده هو ادّعاء جرجي أن الذين التحقوا بمحفل الأهرام كانوا أصلاً من الماسون ، ثمّ عطف عليه فقال والتحق بهم البرنس حليم باشا والأمير!! وكان ذكرَ قبل ذلك في الصفحة 158من تاريخ الماسونية ، أنّ ((في الأستانة مجلس عالٍ تركي وهو المجمع الوحيد الوطني أسسه الأخ الكلي الاحترام البرنس حليم باشا وهو رئيسه طول حياته)).انتهى! وهذا يُفهم منه أنّ حليم باشا لمّا التحق بمحفل الأهرام كان ماسونيًا ، وكذلك لمّا علّق على أعمال الأمير يُفهم من كلامه أنّ الأمير لمّا التحق بهذا المحفل كان ماسونيًا أيضًا! حيث جعل موقفه من أحداث 1860م من أثر الانضمام للماسونية ، وكذلك فعل أنطوان عاصي حيث صرّح بأنّ الأمير كُلِّفَ رسميًا بإنقاذ المسيحيين من قِبَل الماسون!! فالذي يُفهم من هذا الكلام أنّ الأمير انتسب للماسونية قبل 1860م وهذا مخالف لما زعموه سابقًا من أنّ الأمير انتسب للماسونية سنة 1865م!!! ليس هذا فحسب فقد مرَّ معنا في البداية أنهم زعموا أنّ الأمير انضم للماسونية وهو في السجن في أمبواز ، وفي هذا المقطع يوحي الكلام للبعض أن انتسابه كان سنة 1845م أي أثناء جهاده في الجزائر! ويؤيّده ما قاله عبد الحميد صمادي في مقالٍ له بعنوان ـ نظرات في الماسونيّة ـ وهو منشور على الإنترنت. قال : ((وفي عام 1845م تمّ تأسيس محفل آخر في الإسكندرية باسم (محفل الأهرام) رُخّص له من الدولة أيضًا ، وبهذا المحفل التحق الأمير عبد القادر الجزائري بطل الثورة الجزائريّة المشهور بعد نفيه من السلطات الفرنسيّة إلى دمشق ، ثمّ انتقاله إلى القاهرة!! وقبوله ضيافة (حليم باشا بن محمد علي باشا) الذي سبقه إلى الماسونيّة ، حيث قام حليم باشا بتقديم الأمير إلى المحفل الأعظم في الإسكندرية، وجرى استثناؤه ، ومنحه لقب أستاذ أعظم ـ البعض يعتبر أنّ الأمير كان ماسونيًّا قبل ذلك!! ـ.
و الأمير عبد القادر هو الذي أدخل الماسونيّة إلى الشام ..... ويؤكّد ذلك ما ورد في دائرة المعارف الماسونيّة : بأنّ المغفور له الأمير عبد القادر الجزائري الكبير أسّس أوّل محفل في دمشق ، و سمّاه محفل سورية ، وكان تابعًا للشرق الأعظم الإيطالي و ذلك سنة 1864م)).انتهى
طبعًا في كلام الصمادي أشياء عجيبة تفرّد بها وهي قوله أنّ الأمير انتقل من دمشق إلى مصر ونزل بضيافة حليم باشا ، وهذا غير صحيح ومخالف لكل مَنْ كتب في سيرة الأمير بل ومعارض لمجريات الأحداث، على كل حال المهم في هذا النقل أنّه يؤكد مسألة ادّعاء الماسون انتساب الأمير للماسونية قبل 1864، وهذا يظهر بوضوح مدى تناقضهم وكذبهم . والمعلوم أنّ البرنس حليم باشا مات في أواخر سنة 1862م ، إذن فمن غير المعقول أن يكون التقى بالأمير عبد القادر واستضافه ، ((والأمير لم يقدم إلى مصر إلاّ في 5/1/1863م ، والثابت أنّ الذي استقبل الأمير هو الخديوي سعيد باشا)). [انظر تحفة الزائر 2/121].
هذا كل ما استطاع جرجي زيدان أن يروّج له في كتابه بخصوص الأمير ، وطبعًا كل ذلك دون أدنى بيّنة أو دليل ، وإنما مجرّد افتراءات ضمن سلسلة تناقضات وتخبطات؟!
والعجيب حقًا كيف يرضى البعض الاستشهاد بكلام جرجي؟!
ومحلّ التعجب ليس محصورًا في سقوط وتفاهة كتاب جرجي ، وإنما في شخص الكاتب نفسه. فإنّ المدعو جرجي زيدان هو أحد أركان الكذب والدجل في القرن الماضي ، وهذا الصليبي الحاقد قد سخَّرَ حياته كلها لتشويه الإسلام والطعن فيه وفي رجاله ، بدءًا من رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، مرورًا بأصحابه وذريّته وأئمة المسلمين وانتهاءً بالأمير عبد القادر!! وقد أُلِّف الكثير من الكتب لفضح هذا اللّعين وكشف زوره وبهتانه ، أذكر منها كتاب (نبش الهذيان من تاريخ جرجي زيدان) لفضيلة الشيخ أمين حسن الحلواني المدني المتوفى سنة (1316هـ = 1898م) وفيه بيان بالتزييف العجيب الذي قام به زيدان في نقله لأخبار التاريخ الإسلامي وأقوال رجاله ، وكتاب (انتقاد تاريخ التمدن الإسلامي لزيدان) تأليف العلاّمة شبلي النعماني ، وهو من رجال الإصلاح الإسلامي في الهند ، المتوفى سنة (1332هـ = 1914م) ، وحكم على جرجي بعد مناقشة أقواله والعودة إلى مصادره بأنه جريء على الكذب ، عظيم التدليس . وكتاب (جرجي زيدان في الميزان) لشوقي أبو خليل الصادر سنة 1980م .



[1] ـ وكذلك في طبعة دار الجيل 1984م (بيروت) .
وعند الله تجتمع الخصوم ... [ وداعا ]

أيّ عذر والأفاعي تتهادى .... وفحيح الشؤم ينزو عليلا

وسموم الموت شوهاء المحيا .... تتنافسن من يردي القتيلا

أيّ عذر أيها الصائل غدرا ... إن تعالى المكر يبقى ذليلا


موقع متخصص في نقض شبهات الخوارج

الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية عرض وتفنيد ونقض
نقض تهويشات منكري السنة : هدية أخيرة

الحداثة في الميزان
مؤلفات الدكتور خالد كبير علال - مهم جدا -
المؤامرة على الفصحى موجهة أساساً إلى القرآن والإسلام
أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية
مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة

  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية algeroi
algeroi
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 17-10-2007
  • المشاركات : 4,860
  • معدل تقييم المستوى :

    22

  • algeroi has a spectacular aura aboutalgeroi has a spectacular aura about
الصورة الرمزية algeroi
algeroi
شروقي
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر .. خلدون مكي الحسني
23-12-2008, 05:45 PM
وأرى من الضروري إعطاء الإخوة القرّاء لمحة إلى حياة هذا الشخص وآثاره الشنيعة ، وذلك لخطورة أمره فهو لا يكتب إلاّ في التاريخ الإسلامي والأدب العربي ، وقد يقع بعض الناشئة في شِباك أكاذيبه ، وخاصة بعد أن يجدوا في منتديات إسلامية مقالات لمسلمين تستدل بأقول ذلك المأفون!
وسأنقل لكم ما لخّصه الأستاذ الفاضل الدكتور مازن بن عبد القادر المبارك الجزائري في مقاله (جرجي زيدان وتاريخ الإسلام) (مجلة "المنتدى" العدد 99).
((أما جرجي زيدان فهو نصراني من لبنان ولد عام 1861م . اتصل فكريًا بجمعيّة الشبّان المسيحيين التي انتسب إليها . هاجر إلى مصر وعمل في جريدة "الزمان" ، وهي الصحيفة التي سمح لها الإنكليز بالصدور بعد أن عطّلوا صحافة مصر الحرة . قيل إنه عمل في الاستخبارات البريطانية ، ورافق الحملة الإنكليزية إلى السودان . زار إنكلترا ثم عاد إلى مصر وعمل في مجلة "المقتطف" ولم يلبث أن أصبح صاحب مطبعة الهلال وأصدر مجلة الهلال ، ومات سنة 1914م .
وكان اهتمامه فيما ألّف أو ترجم متصلاً بالتاريخ وتاريخ الإسلام ، وتاريخ الأدب العربي ، واللغة العربية ، وهي من الموضوعات التي أثارت وما زالت تثير اهتمام الكثيرين!
ووضع جرجي عددًا من الكتب التاريخية منها تاريخ التمدن الإسلامي ، وتاريخ مصر ، وتاريخ إنكلترا ، وتاريخ الماسونية .. وغيرها ، كما أخرج سلسلة من الروايات بعنوان "روايات تاريخ الإسلام".
وعُرِفَ عنه أنه كان يُترجم بعض ما في كتب الفرنسيين ويُضيف ما ترجمه إلى كتبه دون إشارة تدل على الترجمة ليُوهم أنه من تأليفه ، اتّهمه بذلك صراحة الأب اليسوعي لويس شيخو ، وذكر الدكتور أبو خليل أمثلةً تَدُلُّ على ذلك وتُثْبِتُه))
((وذَكَرَ الدكتور عمر الدسوقي أن جرجي زيدان رافق الحملة النيلية إلى السودان سنة 1884م مترجماً بقلم المخابرات)) ، ((وسُئِلَ الدكتور أحمد الشرباصي عن روايات جرجي زيدان فأجاب :"إن هذه الروايات لا تليق بالمسلم قراءتها ، لأنها وُضِعَت لتشويه التاريخ الإسلامي وتحريف حوادثه وقلب أموره رأسًا على عقب والنَّيْل من جماله وجلاله. وكأنما كانت هذه الروايات نتيجة لخطة أريد بها مسخ التاريخ الإسلامي في أنظار أهليه ..... ونجد في هذه الروايات أنّ صاحبها يدُسُّ في كل واحدة منها راهبًا من الرهبان يصوره بصورة البطولة ، يدافع عن الحريّات أو يدعو إلى المكرُمات ، فإن لم يختلق راهبًا اختلق ديرًا يصوّره على أنه معقل الجنود المسلمين الهاربين ، وحصن المجاهدين المطَاردين ..!"))
((قال الدكتور شوقي أبو خليل :"أبرز ما في حياة جرجي أنه أولاً : صَنَعَت شخصيّته المدارس التبشيرية في لبنان . ثانيًا : رجل استخبارات بريطانية" وقال : إنه "أظهر شعوبيةً وحقدًا على العرب، فلقد حقَّر جرجي ـ في ذهنه فقط ـ أمتنا وأظهر مساوئها ، بل ما ترك سيئة إلاّ وعزاها لأمتنا ، وابتزّ منها كل مكرُمة ، لقد جعل جرجي العربَ غرضًا لسهامه .. يرميهم بكل نقيصة وعيب وشر"
وقال :"روايات جرجي زيدان تعمَّدَ فيها التخريب والكذب لأجل تحقير العرب عن سوء قصد لا عن جهل .. تعمّدَ التحريف وتعمّدَ الدسّ والتشويه ، وتعمّدَ فساد الاستنباط مع الطعن المدروس! .. لعمالته الأجنبيّة وتعصّبه الديني الذي جعله ينظر إلى تاريخنا العربي الإسلامي وآداب اللغة العربية بعين السخط والحقد")).انتهى
ومن شدّة حقد جرجي زيدان على الإسلام والمسلمين أنه لم يترك أحدًا من أعلامهم إلاّ وتناوله بالتشهير والتشويه والطعن ، فبدأ برسول الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ بالصحابة والخلفاء والفاتحين ..
لقد نذر حياته الخسيسة لتشويه الإسلام ورجاله ، وذلك حتى يصرف غير المسلمين عن التفكير بالإسلام والدخول فيه ، وليزرع البغضاء في قلوبهم تجاه المسلمين ، وما أظنّه كان يحلم أن يأتي يوم تصبح فيه كتبه وكلماته مرجعًا لبعض المسلمين!!
وإليكم بعض أقواله الساقطة ؛
· ((قال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "إن سطوته انتشرت في جزيرة العرب ، ويسمى أتباعه المسلمين .... وهو لم يدع قافلة تمر بالمدينة إلاّ غزاها وفرّق أسلابها وأموالها بين رجاله"!!
· ووصف الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأنه "تشغله فتاة تورّدت وجنتاها وذبلت عيناها ، وتكسّرت أهدابها ، واسترسل شعرها الأسود على ظهرها وصدرها"!!
· ومحمد بن أبي بكر ومروان بن الحكم يتنافسان على حب فتاة مسيحية .
· والصحابي ابن الحواري عبد الله بن الزبير "ملحد"!!!
· وسُكينة بنت الحسين "أمرت أشعب ، وكان مضحكاً لها ،أن يقعد على بيض حتى يفقس ، وقعد أيامًا ثم فقس البيض وملأت فراريجه الدار ، فسمتها بنات أشعب"!!
· وأما السيدة نائلة زوجة عثمان رضي الله عنهما ، فيصفها جرجي قبّحه الله وصفًا أخجل أن أنقله [انظر عذراء قريش ص32]
· وعبد الرحمن الغافقي "له خباء من النساء ، وفي خبائه عشرات من النساء ، وهو هائم بحب إحدى الفتيات ، وله قهرمانة تشرف على خباء نسائه .. وهي ذات نفوذ تولي وتعزل من تشاء"!!
· ويقول عن الخليفة المعتصم :"إنه أنشأ كعبة في سامرا ليحوّل المسلمين عن كعبة مكّة ويذهب بما بقي للعرب من مصادر الرزق حتى يميت عرب الحجاز لأنهم يرتزقون من الحُجّاج ، فأنشأ كعبة في سامرّا ليغني المسلمين عن الحجاز ، ولكنه ليس أول من فعل ذلك من الخلفاء أو الأمراء ، فقد حاول ذلك الحَجَّاج والمنصور ولم يُفلحا"!!
يتابع الدكتور مازن المبارك قائلاً : وكأني بجرجي .. يظن أن الحج إلى الكعبة صادر بمرسوم أو أمر من الخليفة! وأن الخليفة يستطيع أن يبني كعبةً حيث يشاء ، وأن يأمر المسلمين بالحج إليها ، وأن المسلمين يطيعون فيستغنون عن كعبة بيت الله الحرام في مكّة!!
والجدير بالذكر أن التاريخ يقول عن الخليفة المنصور الذي يتهمه جرجي بمحاولة بناء الكعبة أنه مات محرماً في طريقه إلى الحج على بعد أميال من مكّة.
وما لنا نعدد الأسماء؟ ولم لا ننظر إلى ما قاله عن العرب والمسلمين كافّة؟
· يقول جرجي "لم يبق أحدٌ يحاربنا إلاّ ثلاثة : العرب والمغاربة والأتراك ؛ والعربيّ بمنزلة الكلب (هكذا!) اطرح له كسرة واضرب رأسه ، والمغاربة أكلة راس ، والأتراك ما هي إلاّ ساعة حتى تنفد سهامهم ، ثم تجول الخيول عليهم فتأتي على آخرهم ، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم" [انظر (عروس فرغانة) ص168]
· وفي مجال الصراع بين العرب وخصومهم يقول "إن السِّخال لا تقوى على النطاح ، والبغال لا صبر لها على لقاء الأُسْد"!!
· ويقول :"إنّ ما عند كسرى من ذهب وحجارة كريمة ذهبَ كلّه غنيمة للمسلمين ، وهم يومئذ أهل بادية ، حفاة عراة ، لا يفرّقون بين الكافور والملح ، ولا بين الجوهر والحصى ..فاقتسموا الآنية ، وقطّعوا الأبسطة ، ومزّقوا الستائر . وكان نصرهم من آيات تغلب البداوة على الحضارة"!!)).انتهى

هذا غيضٌ من فيض نتن من آثار جرجي زيدان ذلك الكذاب الأشر والحاقد والمزوّر القذر.
وهو المرجع الذي يعتمد عليه المتهجّمون على الأمير!
ومرّ معنا آنفًا كيف اتّهم الكذّاب جرجي القائد صلاح الدين بالماسونية ، ومن قبله الخليفة الوليد بن عبد الملك! بل وعلماء المسلمين وفقهاءهم.
فالذي يفتري كل هذا الكذب والبهتان هل يصعب عليه أن يفتري على الأمير عبد القادر ويتهمه بالماسونية؟!
ثمّ إذا كانت الماسونية دخلت إلى سورية من أيام الوليد وصلاح الدين فلماذا يقول جرجي إن الأمير هو أول من أدخلها إلى سورية؟! الجواب : لأنّه كذّاب أشر في كلّ ما قاله وادَّعاه .
والعجيب من الأخ صاحب (فك الشفرة) أنّه لم يطلب من كل هؤلاء الكذّابين الحاقدين الصليبيين أي برهان أو بيّنة!!


والحديث عن تفاصيل قصّة ادعاء الماسونية لانضمام الأمير إليهم سيأتيكم إن شاء الله


في الحلقة القادمة.


وإنا لله وإنا إليه راجعون




خلدون مكّي الحسني


للبحث صِلة إن شاء الله
وعند الله تجتمع الخصوم ... [ وداعا ]

أيّ عذر والأفاعي تتهادى .... وفحيح الشؤم ينزو عليلا

وسموم الموت شوهاء المحيا .... تتنافسن من يردي القتيلا

أيّ عذر أيها الصائل غدرا ... إن تعالى المكر يبقى ذليلا


موقع متخصص في نقض شبهات الخوارج

الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية عرض وتفنيد ونقض
نقض تهويشات منكري السنة : هدية أخيرة

الحداثة في الميزان
مؤلفات الدكتور خالد كبير علال - مهم جدا -
المؤامرة على الفصحى موجهة أساساً إلى القرآن والإسلام
أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية
مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة

  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية algeroi
algeroi
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 17-10-2007
  • المشاركات : 4,860
  • معدل تقييم المستوى :

    22

  • algeroi has a spectacular aura aboutalgeroi has a spectacular aura about
الصورة الرمزية algeroi
algeroi
شروقي
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر .. خلدون مكي الحسني
28-01-2009, 03:04 PM
بسم الله الرحمن الرحيم


الحلقة الخامسة عشرة


إنّ الذين اتّهموا الأمير عبد القادر الجزائري بالماسونية ، لم يكن لديهم أي مستند صحيح! وإنما هي مجرّدُ تخرُّصات منشؤها إساءة الظن في فهم بعض الأحداث أو المواقف! ولقد مرَّ معنا سابقًا كيف استند بعضهم إلى حادثة 1860م ـ ومساهمة الأمير مع باقي أعيان دمشق في حماية المواطنين النصارى في دمشق من التقتيل ـ في جعلها دليلاً على ماسونية الأمير ، وقد بينتُ سقوط هذا التخرّص وبطلانه.
وكذلك استند بعضهم إلى الأوسمة والنياشين التي مُنحت للأمير ، وقد بيّنتُ قصّتها وبطلان هذا الافتراء . والبعض الآخر استند إلى كلام بعض الشخصيات الماسونية الحاقدةِ على الإسلام ورجاله، والمخرِّبَةِ لتاريخهم ، أمثال المدعو جرجي زيدان ، ومكاريوس! وقد بيّنتُ في الحلقة السابقة بطلان هذا المستند أيضًا.
وفي الفيلم المُغرض الذي تعرضه قناة "العربية"([1]) من حين لآخر ـ وهو الذي اقتبس منه الأخ صاحب "فك الشيفرة" فيما يبدو بعض فقرات مقاله ـ وجَّه المُخَطِّطُ للفيلم سؤالاً إلى أستاذ فرنسي يُدعى "برونو إيتيان" وهو عضو في معهد فرنسة الجامعي ، عن علاقة الأمير بالماسونية؟
فأجابه الأستاذ الفرنسي قائلاً : ((إن الرسائل والإثباتات موجودة في الأرشيف الفرنسي.. ففي تلك الحقبة كان عبد القادر بحاجة إلى حلفاء في الغرب ، إذ كان يُفكر أنّ الغرب لديه التكنولوجيا ، والشرق لديه الروحانية . إذن كانت الكنيسة الكاثوليكية مع المسيو ديبوش أحد هذه العناصر الممكنة لهذا التبادل الذي يقوم على الحوار بين المسيحيين والمسلمين :هذه هي الماسونية)).انتهى بحروفه!
أرأيتم إلى هذا الخلط العجيب! الأستاذ الفرنسي عرّف الماسونية أنها تبادل بين الغرب والشرق ، الشرق الذي يملك الروحانيات (يعني التديّن) والغرب لديه التِّقَانة الصناعية ، فالذي ينقل التقانة من الغرب المسيحي إلى الشرق المسلم ، ويجادل المسيحيين بالتي هي أحسن يكون ماسونيًا برأي هذا الأستاذ!!
وبناءً على هذا التقرير الفريد يمكننا إلصاق صفة الماسونية بمعظم رجالات المسلمين في عصرنا هذا!
وكما يرى الجميع فهذه شبهة مردودة بداهةً ولا حاجة إلى التطويل في ردّها.

والعجيب من الأخ محمد مبارك صاحب "فك الشفرة" أنه رضي بكلام هذا الفرنسي على نكارته ، ولم يأخذ بكلام السيد الفاتح الحسني ابن سعيد حفيد الأمير عبد القادر الذي عُرِض في نفس الفيلم قبل كلام الأستاذ الفرنسي! والسيد الفاتح قال بكل وضوح وصراحة : ((أنّ والده الأمير سعيد كان ماسونيًا، ولكن جدّه الأمير عبد القادر لم يكن ماسونيًا قط ولديه إثباتات على ذلك!)).

كل هذه الشبهات ـ وغيرها مما سآتي عليه في هذه الحلقة ـ روّج لها بعض الكتّاب والصحفيين المشغولين بالشأن الماسوني إلى حدٍّ زائد! وعنهم وعن أمثالهم من الغربيين اقتبس واعتمد بعض الإخوة طلاب العلم ظنًا منهم أنّ ما كتبه هؤلاء صحيح أو ثابت! (كما جرى مع الأخ محمد المبارك صاحب "فك الشيفرة") ، ولكن القارئ لتلك الكتب والمقالات يدرك بوضوح أنها غير علمية ولا يمكن الاعتماد عليها أو وصفها بالمراجع! وهي أشبه ما تكون بالأسلوب الصحفي غير المسؤول! يعني جمع أوراق وقصاصات وكلام من هنا وكلام من هناك ، وتفاصيل كثيرة لا أساس لها ، ثم دمج الجميع في سياق تسيطر عليه أفكار سابقة وأوهام مطبِقَة ، وذلك إمّا رغبة في سَبْقٍ صحفي بخبر مدهش ، أو لمرض نفسي مُزْمِن . كما نسمع اليوم مثلاً:
1ـ نهر الفرات موجود في الجزيرة العربية وليس في الشام!
2ـ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يُهاجر!!
3ـ كلمة "النساء" في اللغة العربية تعني "الرجال"!!
4ـ القائد التركماني أورخان بن عثمان بن أرطغرل بن سليمان شاه بن قيا ألب ، عربي قرشي ومن المدينة!!
5ـ الخليفة الوليد بن عبد الملك استعمل الماسون لبناء المسجد الأقصى!!
6ـ القائد صلاح الدين الأيوبي ماسوني!!
ومن أمثال هذه الأخبار العجيبة السخيفة المخالفة للبدهيات.

في حين أنّ القارئ لكتب العِلْميين المحققين أهل التخصص ، يجد الفارق الكبير بينها وبين تلك الكتب الصحفيّة . وأضرب لكم مثالاً على ما أقول بعرضِ مقطعٍ من كلام الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري المتخصص في الشؤون اليهودية وتوابعها ، وذلك نقلاً من موسوعته الضخمة((موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية)) :ففي المجلد الخامس: الباب الحادي عشر: العبادات الجديدة ؛تحت عنوان: الماسونية : تاريخ وعقائد،
يقول الأستاذ المسيري : ((ولكن الماسونية البريطانية لم تكن الماسونية الوحيدة التي انتشرت في المستعمرات، إذ إن الصراع الإمبريالي على العالم انعكس من خلال صراع بين الحركات والمحافل الماسونية، فكان كل محفل ماسوني يخدم مصلحة بلد ويمثله، تمامًا كما حدث صراع بين المبشرين البروتستانت والمبشرين الكاثوليك الذين كانوا يمثلون مصالح بلادهم. ويبدو أن بعض الشخصيات المهمة في العالم العربي أرادت أن تستفيد من هذا الصراع، وخصوصًا أن أعضاء هذه المحافل كانوا من الأجانب ذوي الحقوق والامتيازات الخاصة المقصورة عليهم. فكان الدعاة المحليون ينخرطون في هذه المحافل بغية توظيفها في خدمة أهدافهم، وحتى يتمتعوا بالمزايا الممنوحة لهم. وكان من بين هؤلاء الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والأمير عبد القادر الجزائري. ولعل هذه الشخصيات الدينية والوطنية حذت حذو ماتزيني وغاريبالدي وغيرهما ممن حاولوا الاستفادة من أية أطر تنظيمية قائمة. ولنا أن نلاحظ أن الأفغاني قد اكتشف حقيقة الماسونية في وقت مبكر، وتَوصَّل إلى الأسس العلمانية التي يقوم عليها خطابها الديني، ومِنْ ثَمَّ ناهض هذه الأفكار في كتابه الرد على الدهريين. أما عبد القادر الجزائري فلا توجد تفاصيل حول علاقته بالماسونية!! وإن كان قد حاول إيجاد أطر تنظيمية وتأسيسية لحركته مع الاستفادة من أسلوب التنظيمات الماسونية)).انتهى[موسوعة اليهود 5/385]{وليت الإخوة المهتمين بالموضوع يرجعون إلى بحث الماسونية في موسوعة المسيري فإنه بحث عميق ومفيد. أقول هذا بعد أن قرأت عشرة مراجع في موضوع الماسونية كان آخرها موسوعة المسيري ، فوجدت أنّه قد أحاط بالقضيّة وهضمها واستطاع عرضها على الوجه الصحيح إن شاء الله}
القارئ يرى بوضوح أنّ الدكتور المسيري مستوعبٌ للمسألة من جميع أطرافها ، ويضع الأشياء في نصابها. وهو يُحسن التعامل مع المعطيات ، فعندما وقف أمام مسألة انضمام الأفغاني إلى الماسونية أثبتها لأنّه استطاع أن يتيقَّنَ هذه المعلومةَ من معطيات علمية وتحقيق فيها ، ثم بعد ذلك عالج حقيقة هذا الانضمام ودوافعه ، وبعد ذلك نبّه على معارضة الأفغاني للأفكار العلمانية التي يقوم عليها الخطاب الديني الماسوني. في حين نجد الدكتور المسيري عندما وقف أمام مسألة انضمام الأمير عبد القادر إلى الماسونية لم يجزم بثبوتها وإنما أوْرَدَها على صورة خبر يحتاج إلى دليل وعبّر عن ذلك بقوله : ((أما عبد القادر الجزائري فلا توجد تفاصيل حول علاقته بالماسونية!!))

أليس عجيبًا أن إنسانًا مثل الدكتور عبد الوهاب المسيري ـ صاحب الموسوعة الكبيرة التي استغرق في تأليفها ووضعها عدة عقود من الزمن واستند فيها إلى كمٍّ هائل من المراجع والوثائق وهو الخبير في الشؤون الصهيونية ـ لم يجد أي تفاصيل عن علاقة الأمير بالماسونية ، في حين نجد أن بعض الكتاب والصحفيين وهواة الكتابة في الإنترنت يسردون عشرات التفاصيل عن هذه العلاقة؟! والدكتور المسيري رحمه الله، توفّي من قريب سنة 2008م ، فهو مُطَّلِعٌ على الكتب والمقالات التي صدرت في هذا الخصوص ، ولو أنّه رأى أنّ المعلومات التي فيها تصلح للنظر لَنَظَرَ فيها ، ولكنه كما هو ظاهر لم يرها ترقى لِيُنْظَر فيها أصلاً! وأظن أنّ الإخوة القرّاء الذين تابعوا معنا هذه الحلقات يشاركون الأستاذ المسيري رأيه ، لأنه صار من الواضح أن المعلومات التي أوردها أصحاب تلك الكتب مصدرها واحد، وهو مصدر ساقط الاعتبار. وإذا كان الدكتور المسيري قد اقتصر على بيان عدم وجود تفاصيل حول علاقة الأمير بالماسونية ، فأنا في هذه الحلقات أظن أنني أوضحت بجلاء تهافت جميع الشبه المتعلقة بذلك والتي عدَّها البعض ـ ويا للأسف ـ تفاصيل يُعتمد عليها! وسأتابع معكم إن شاء الله بيان سقوط باقي الشبه فيما يأتي.
فاليوم نحن أمام شبهة جديدة اعتمد عليها بعضهم في اتهامهم الأمير عبد القادر بالماسونية ؛ إنها الرسالة التي بَعَثَتْ بها (الجمعية الفرانماسونية بفرنسة) إلى الأمير عبد القادر تشكره فيها على موقفه المشرّف من أحداث 1860م. وإليكم نصّها: ((إلى الأمير الأجلّ عبد القادر في دمشق ، اعلم أيّها الأمير أنّ العالم المتمدِّن قد كلَّل هامَتَكم الشريفة المقدسة بإكليل الشرف والافتخار ونحن نقدّم إليكم فرحنا بكونكم تَسَمَّيْتُم : مِنَ المحكومِ لهم بحسن السيرة مِنْ أيّ فرقة كانوا أو دين ، الذين أظهروا أنفسهم بكمال الإنسانية ، وأنتَ أظهرتَ نفسك إنسانًا قبل الكل ، ولم تسمع إلاّ إلى إلهامات ربّانية في قلبك أمَرَتك بمقاومة نار مشتعلة من الهيجان البربري والتعصب الجاهلي ؛ نعم إنّك النائب الوحيد للأمّة القوية العربية، التي أوربا مديونة لها بقسم عظيم من تمدنها وعلومها التي استنارت بها، ولقد أثبتَّ بأعمالك وبكريم شيمك أنّ هذا الجنس لم ينحطَّ اعتبارُه السابق ، وهو وإن كان الآن في سِنَةٍ من النوم فسَيَستيقظ للأعمال العظيمة باستدعاء نفسٍ قويّة نظير نفسِكَ . وانظر فرانسا التي كانت خصيمتك فإنها الآن عَرَفَت كيف تعتبرك وتبتهل بك ، وما ذلك إلاّ لكونك أعطيت للتمدّن حقّه ؛ أيها الأمير لك المجد والشكر تكرارًا ، فالإله الذي نسجد له جميعًا والذي عرشه داخل قلوبنا وقلوب كافّة الكرماء يُتمم عمله بكم في الخير ، أفلا يُنْظَر إلى العناية الإلهية، بعد تقلبات عديدة كيف أتت بكم إلى تلك البلاد لأجل تبديد ظلمات الجهل وإطفاء نار التعصب الجاهلي ، وإنقاذ تعيسيْ الحظ من يد الجهلة . واعلم أيها الأمير الأجلّ أننا واثقون بأن تقبلوا منا هذه الرسالة وإن كانت لا قيمة لها. حرر في باريس 2/10/1860م)).انتهى[انظر (تحفة الزائر) 2/101]

هذه الرسالة لم تكن مكتومة أو سريّة ، ولم يُخفها أحد من أسرة الأمير ، وأول من نشَرَها هو محمد باشا ابن الأمير عبد القادر في كتابه المذكور.
وكما يرى القارئ فمضمون الرسالة عبارة عن شكر وثناء وإعجاب أبدته هذه الجمعيّة لشخص الأمير ، وكيف لا تفعل ذلك وهي الجمعيّة التي تروّج لنفسها بأنها المعنيّة بحقوق الإنسان والأخوة الإنسانية والنجدة!! وليس في الرسالة أي شيء يشير إلى كون الأمير من أعضاء تلك الجمعية أو المنتسبين إليها ، بل ليس فيها ما يدل على أنّ الأمير كان يعرف تلك الجمعية أصلاً! وإن أسلوب الخطاب فيها هو أوضح دليل على أنّ الأمير لا صِلَة له بهذه الجمعيّة.
فهل مجرَّدُ وصول رسالة من جمعيّةٍ ما إلى أي شخصيّة مشهورة ، يُعدُّ دليلاً على صِلَة تلك الشخصية بتلك الجمعية؟ الجواب : طبعًا لا!
ولكي أزيد الموضوع وضوحًا أقول : تحدثتُ في حلقات مضت ، عن موقف الأمير عبد القادر من الأحداث التي جرت سنة 1860م في دمشق (فتنة النصارى) ، وكيف تلقى الأمير بعدها رسائل الشكر والتقدير والأوسمة من الخليفة والسلطان العثماني ، وكذلك من ملوك وقياصرة أوربة.
لم يكن هؤلاء وحدهم الذين أرسلوا إلى الأمير رسائل الشكر والتقدير ، وإنما شاركهم في ذلك الكثير من الأدباء والعلماء والوجهاء العرب ، المسلمين والمسيحيين ، الذين نظموا القصائد والمدائح وأهدوها إلى الأمير ، وألّفوا الكتب التي تدوّن وقائع تلك الحادثة وأهدوها إليه أيضًا ، وكذلك شاركت في ذلك بعض الجمعيات الخاصة والأهلية ، ومنها ما هو أوربي أو أمريكي ؛ فأرسلت إلى الأمير رسائل تشيد بمواقفه وأخلاقه وشرفه .
أذكر منها :
(جمعية عمل الخير وإعانة المصابين في البرّ والبحر) . وهذا نصُّ ما بعثت به إليه : ((إنّ جمعية المصابين المؤلّفة من أعيان الأمصار ووجوه المدن الشهيرة في فرنسة ، قد اتّفقت كلمتها على أن يكون الأمير عبد القادر رئيسَ شرفٍ لها ، وإنما فعلتْ هذا لتؤكد له عظيم اعتبارها لجنابه الشريف، وجزيل تشكراتها الفائقة لما أبداه من أعمال الخير الجسيمة في سورية سنة ستين وثمانمئة ، وبناءً على ذلك بعثت إليه هذا الرَّقيم كالشاهد على عقدها لِمَا اتّفقت عليه ، وذلك في باريس آخر يونيو (حزيران) سنة إحدى وستين)).انتهى [تحفة الزائر 2/111ـ112]
(الجمعية الشرقية) . وكانت الجمعية الأمريكية الشهيرة بالشرقية القائمة بتأليف تاريخ العالم ، سبقت (جمعية عمل الخير) إلى مثل ما فعلته ، وأرسلت إلى الأمير نسخةً من تقريرها؛ وصُورَتُه : ((بناءً على تقرير الجمعية الأميركانية الشرقية ، وعلى قرار المجلس قد أعلنت بتعيين الأمير السيد عبد القادر بن محيي الدين ، عضوَ شرفٍ لها تتشرف بذِكْرِه ، وبعثت إليه بهذه النسخة المطابقة للأصل إعلانًا بما قررته في باريس في الثاني عشر من (تموز) سنة ستين وثمانمئة وألف)).انتهى [تحفة الزائر 2/112]
ونلاحظ في خطاب هاتين الجمعيّتين أنّ أعضاءها قاموا بتسمية الأمير رئيسَ شرفٍ للجمعية الأولى، وعضوَ شرفٍ للثانية!! في حين أنّ خطاب الجمعية الماسونية ليس فيه شيء من ذلك!!
فلو أراد أحدُ هواة توجيه التُّهم أنْ يختلق تُهمة ويُلصقها بالأمير ، لكانت تلك التهمة هي انتساب الأمير إلى جمعية إعانة المصابين أو الجمعية الشرقية! لأنّه سيجد في نص رسالتيهما ما يُلبّس به على الجهلة من الناس! بخلاف رسالة الجمعية الماسونية التي لن يجد فيها العبارات التي تساعده على إلصاق تلك التهمة! ولكن العجيب أنّ الذي حصل هو العكس!!
ومع ذلك أقول : إنه حتى في نص الرسالتين الموجّهتين إلى الأمير من جمعية إعانة المصابين والجمعية الشرقية ، ليس هناك ما يدلّ على انتساب الأمير إليهما البتّة! وكل ما في الأمر أن أعضاء الجمعيّتين عيّنوه عضوَ شرفٍ فيهما من تلقاء أنفسهم ودون أي طلبٍ منه ، ولا شأن له هو في ذلك لا من قريب ولا من بعيد! وهذه جمعيات خيريّة وهي تشكره على صنيعه فلم يكن هناك أي ضرورة لرفض تصرفاتها تجاهه ، بل لو حدث شيء من ذلك لكان في غير مصلحة المسلمين!

ونعود إلى ذكر الذين أرسلوا إلى الأمير رسائل الشكر والثناء:
(جمعية حماية بني الوطن) ، وفي أيّام زيارته إلى مدينة "لوندرا" في بريطانيا ـ وذلك بعد زيارته لفرنسة سنة 1865م مُرْسَلاً من قِبَل السلطان للقاء نابليون الثالث ليطلب منه التوسط لدى قيصر روسيا لإطلاق سراح زعيم الجهاد الشيشاني ، الشيخ شامل الداغستاني ـ قدَّمَتْ إليه هذه الجمعية تحريرًا صوْرَتُه : ((إلى سمو الأمير عبد القادر أما بعد : فنحن الواضعون اسمنا في هذا التحرير عمدة جمعية حماية بني الوطن قد سررنا وابتهجنا عندما سمعنا بوصولك إلى عاصمتنا لأننا نحب شخصك ونحترمه نظرًا لِمَا نعرفه من حسن أخلاقك ، وصفاء طويّتك لسائر عباد الله ، ولا يخفى أنّ مبادئ هذه الجمعية التي نحن مرتبطون بها ، توجب علينا أن نحبّ ونحترم أبناء الشَّرَف ، وتلزمنا بمراعاة مصالحهم ؛ وقد رجَحَ ميلنا لنحوك لأنك مملوء بالشفقة والرحمة على عباده تعالى ، وبرهان ذلك ما أبديته مع ألوف من مسيحيي دمشق حين التجؤوا إليك ، فإنّك آويتهم وبالغت في الإحسان إليهم مع أنهم ليسوا من أبناء دينك! فنحن الآن بالنيابة عن نصارى هذه العاصمة نؤدي لك الشكر والثناء الجميل حيث أنك جبرت المنكسرين، ثم نخبرك أننا قد تمثّلنا بين يدي إمبراطور فرنسة وأدَّينا له ما يليق بعظمته من الشكر على إحسانه إلى سكّان الجزائر ، ونفرح الآن بكوننا نخاطبك أيها السيد المحترم ونسأل الله تعالى أن يديمك رحمةً للمساكين زمنًا طويلاً)).انتهى [تحفة الزائر 2/160]
جريدة (مندابلوسنمري) الفرنسية ، التي نشرت في عددها الصادر في 4/8/1860م تحت عنوان : "عبد القادر أمير (مْعسكر) سابقًا" ما نصّه : ((إنّ حوادث سورية المحزنة قد أظهرت للوجود اسمًا كان محجوبًا بغياهب الغربة ، وهو ذاك الاسم الذي طالما كررته ألْسِنَة الأمّة الفرنسوية بالرَّجفة والاضطراب ؛ هو ذلك الاسم المرسوم بأحرف دمويّة من شاطئ نهر (شْلف) إلى رمال الصحراء في الجزائر . وقد أبدت له قناصل الدول ونصارى دمشق الشكران الجميل في سورية ، وبذلك انكشف عن مزاياه الحجاب الذي كان ساترًا لها ، وغدونا جميعًا نتبارك باسم عبد القادر ؛ وهو الذي اقتحم الأخطار لأجل أولئك المساكين من أيدي سافكي الدماء ثمّ جمعهم في قصره وأفاض عليهم من سجال كرمه وبرّه ، وقام فرسان المغاربة الأمناء بمساعدته أحسنَ قيام فبذلوا وسعهم في انقاذ المسيحيين وحمايتهم من اعتداء سفهاء الشام والدروز ، هو ذلك الرَّجل الذي كان يلوح على وجهه أمارات الثبات ، وعلامات الحزم والفطنة ، مما يدل على شرفه واتّصال نسبه بالرسول! هو ذلك الرَّجل الذي أقام في منفاه سنين ولم يتغيّر عمّا كان عليه من المحافظة على الأوامر الشرعيّة!، وأداء الحقوق الثابتة للإنسانية ، هو ذلك الرجل الذي كان عدوًا لدولة فرنسة وأقام مدّة سبع عشرة سنة ينادي بالجهاد فيها ؛ ثمّ إنّ ما نَسَبَه إليه أعداؤه من الأفعال غير اللائقة كقتل الأسرى والحنث في اليمين إلى غير ذلك مما نسبوه إليه ، ويأباه طبعُه الكريم ، قد كذّبه تحريرُه الشهير الذي بعثه إلى لويس فليب ملك فرنسة الدّال على كرم أخلاقه ولطف جانبه...... وغاية الأمر فإنّ مزايا الأمير وأخلاقه الكريمة كانت دليلاً على شرف نفسه وتقدّمه في الجزائر كما هو الآن في سورية ، وبرهانًا قويًا على طهارة قلبه وإرادته الخير إلى سائر عباد الله ....الخ)).انتهى [انظر (تحفة الزائر) 2/112ـ113]
5ـ ونشرت جريدة فرنسية أخرى مقالاً فيه : ((الأمير عبد القادر هو ذلك الرجل الباسل الذي أبدى أمورًا وأعمالاً لم يكن أحدٌ يتصورها ولذلك كانت جديرة بأن تدوّن في أجمل تواريخ العالم ، وآخر ما نقول إنّ عدونا القديم في الجزائر قد جعله الله الآن سببًا لإنقاذ المسيحيين في الشام)).انتهى[تحفة الزائر 2/114]
6ـ ليس هذا فحسب ، ((ففي مدّة إقامة الأمير في الحجاز سنة1280هـ = 1864م ، توفّي ملك اليونان وانعقد مجلس نواب الأمة اليونانية في أثينا للنظر فيمن يولونه عليهم ملكًا ، فكتبوا اسم الأمير في المنتخبين لذلك ، ونادى كثيرٌ منهم باسمه ،
7ـ وكذلك أهل إسبانيا قد انتخبوه في جملة من انتخبوهم للمُلك عليهم حين وقوع الفتنة بينهم قبل أن يتولى ملكهم المتوفى أخيرًا. فتشكّر الأمير للأُمّتين على اعتبارهما لمقامه بما دلَّ على ما تكنّه صدورهم من احترامه وإعظامه)).انتهى [6و7 من تحفة الزائر 2/145](يذكرني هذا بما حدث في أيامنا هذه عندما طلب بعض النواب الإسلاميين في الأردن من (هوغو شافيز) رئيس فنزويلة أن يكون رئيسًا للجامعة العربية أو رئيسًا لمنظمة المؤتمر الإسلامي! وما ذلك إلاّ بسبب موقفه الشجاع والرجولي عندما طرد السفير الإسرائيلي من فنزويلة وقطع علاقات بلاده مع إسرائيل فور وقوع الهجوم اليهودي الهمجي على غزّة 1430هـ /2009م ، وزيادة على ذلك خطب عدة خُطَب هاجم فيها النظام الإسرائيلي ووبَّخه)
8ـ وكذلك كان معظم الشعب الفرنسي يحترم الأمير عبد القادر ويجلّه ، وقد تجلّى ذلك بداية في الاحتفالات التي أقاموها بمناسبة إطلاق سراحه من السجن ، وازدحام الناس بشدة في شوارع المدن الفرنسية التي كان يمرّ بها في طريقه من سجنه في "أمبواز" إلى العاصمة "باريس" ، وليس لتلك الحشود همٌّ إلاّ النظر إلى الأمير ومحاولة مصافحته أو إلقاء التحيّة عليه . وحتى بعد سفر الأمير من فرنسة متّجهًا إلى "بروسة" في تركيّا وبقائه فيها ثلاث سنوات ثمّ انتقاله إلى دمشق وبقائه فيها تسع سنوات، عاد الأمير فزار فرنسة ، بعد اثني عشر عامًا ، وذلك خلال رحلته السياسية المشهورة التي بدأها بزيارة الخليفة العثماني في الآستانة ؛ والتي كان من جملة أغراضها التوسط والشفاعة في أعيان دمشق الذين حكمت عليهم السلطات العثمانية بالنفي إلى "قبرص" و"روديس" إثر حادثة (فتنة النصارى) سنة1860م التي فصّلت الحديث عنها سابقًا ، وقد قَبِل الخليفة شفاعة الأمير وسرّح المنفيين وأعادهم إلى أوطانهم؛ ثم طلب الأمير من الخليفة التوسط لإطلاق سراح الشيخ شامل الداغستاني ، فأخبره الخليفة أنه مستعدّ لكفالته واستقباله في أراضي الدولة العثمانية ، ثم أرسَلَه إلى فرنسة ليُقابل الإمبراطور لويس نابليون ، ويطلب منه التوسط لدى قيصر روسيا لإطلاق سراح الشيخ شامل ؛ ((وعند وصول الأمير إلى مدينة "مرسيلية" استقبله حاكمها بالاحترام واهتزّت البلد بأهلها لقدومه ، فإذا خرج من محلّ نزوله تبعته زُمَرُ الأهالي ينظرون إليه احتفالاً به واحتفاءً ، وكانت جماعات كثيرة تجتمع في ساحة الدار النازل فيها ، ويصرخون : "فليعش الأمير عبد القادر". وكذلك الحال في مدينة ليون وباريس.
واستنفرت الجرائد والمجلاّت للحديث عن الأمير وعن لطفه وكماله وافتخار بلادهم بزيارته)).انتهى [انظر (تحفة الزائر) 2/157ـ158]

9ـ واحتفل الشعب الأمريكي بتسمية إحدى مدنه في ولاية (Iowa) باسم الأمير عبد القادر (وذلك بعد وفاته).وهذا الاسم باقٍ إلى اليوم.

إذن الشعوب الغربية كانت تحترم الأمير وتُكن له التقدير والإعجاب ،
والسبب الأوّل: هو موقفه الشجاع في الدفاع عن بلده وهو شاب عمره خمس وعشرون عامًا ، وإقامته للإمارة الإسلامية التي وقفت في وجه الاعتداء الفرنسي مدّة خمسة عشر عامًا ،
والسبب الثاني: هو ثباته على مواقفه وثوابته الدينية مدّة سجنه خمس سنوات ، على الرغم من التضييق عليه وصعوبة السجن وفقدانه لبعض أبنائه وأقاربه وأحبابه فيه.
والسبب الثالث: حزمُه في الدفاع عن دين الإسلام ورفضه لجميع المغريات والعروض الفرنسية التي تريد منه البقاء في فرنسة بصفة مواطن فرنسي!
والسبب الرابع: موقفه في الدفاع عن المواطنين النصارى العزّل في بلاد الشام عندما اعتدى عليهم الدروز وبعض أشقياء الشام . والغرب المسيحي كان يظن ويُوهَمُ أنّ جهاد الأمير وحربه على فرنسة إنما هو بسبب الحقد على المسيحيين ، فلمّا شاهدوا الأمير يبذل وسعه في مساعدة المسيحيين المنكوبين في الشام ، أدركوا أنه لا يضمر الكراهية أو الحقد للديانة المسيحية أو لمعتنقيها . وأنه ليس بالسفاح أو محب سفك الدماء ، وإنما هو رجلٌ منضبط بأوامر دينه الإسلامي، الذي يأمره بجهاد المعتدين ، وبالوفاء بذمّة الكتابيين النّازلين تحت الحكم الإسلامي!

والسؤال الموجه إلى الذين استندوا إلى رسالة الشكر الموجهة للأمير من الجمعية الفرانماسونية هو : هل سمعتم عن رجلٍ وُجِّهت إليه مثل كل تلك الرسائل والكتب والمقالات والأوسمة التي وُجِّهَت إلى الأمير عبد القادر؟!
وهل سمعتم عن رجلٍ يُرشَّح اسمُه ليكون رئيسًا لدولتين مثل اليونان وإسبانيا ، مع أنّه عربي ومسلم؟!
وهل سمعتم عن رجل عربي مسلم أحبّته شعوب الغرب فأطلقت اسمه على بعض مدنها ، وأعلنته رئيسَ شرفٍ لجمعيتها ، وهتفت باسمه؟!
وهل سمعتم عن رجل عربي مسلم قاتل دولةً مثل فرنسة ولم يبقَ فيها بيتٌ إلاّ وفيه فقيد أذهبته سيوفُ جنودِ ذلك الرجل ، ثم بعد ذلك تتعالى أصوات شعب تلك الدولة لإطلاق سراح ذلك الرجل ويتسابقون لمصافحته والتبرّك به؟!
وهل سمعتم عن رجلٍ تستنفر جرائد وصُحف الدولة ، التي كان يقاتلها ويُحمِّلها الخسائر الكبيرة في أموالها وأبنائها ، للدفاع عنه والانتصار له ، ليس هذا فحسب بل تهاجم حكومَتَها ومواقفها المخزية الرامية إلى تشويه سمعة ذلك الرجل؟!
وهل سمعتم عن رجلٍ عربي مسلم تثني عليه المجتمعات الأوربيّة فتحمد له تمسّكه بشريعة الإسلام ، وقيامه بفريضة الجهاد ، وتُعلن له تشرّفها به لأنّه من ذريّة نبي الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟؟([2])

إننا لم نسمع أن شيئًا مما سبق حدث لأحدٍ ـ من قرون سلفت إلى أيامنا هذه ـ إلاّ للأمير عبد القادر الجزائري ، فهل يُعقل عندكم أن تكون كل تلك المزايا التي حصل عليها دليلاً على ماسونيّته؟!
ألا يوجد ماسوني آخر على وجه الأرض؟ إذن فلماذا لا يُكرّم ويُحتفى به مثل الأمير عبد القادر؟
لقد عرف تاريخنا المعاصر رجالاً كثيرين أعلنوا انضمامهم إلى الماسونية وقدّموا لها خدمات كبيرة ومع ذلك لا نجدهم حصلوا على شيء مما حصل عليه الأمير من التكريم والاحترام العالمي!
إنّ الأمر واضحٌ لكل عاقل ومنصف ؛ فإنّ ما جرى للأمير عبد القادر الجزائري لم يكن له أي صلة بأي جمعية خاصة أو سريّة ، ولم يكن له أي صلة بعقائد مشبوهة أو انتماءات.
إن الذي جرى له ذو صلةٍ بشخصيّته الفذّة ومواقفه الحميدة المشهودة ، بدءًا من قيامه بالجهاد وتأسيسه للدولة الجزائريّة الحديثة بجميع أركانها، وإنشائه للعلاقات الدبلوماسية مع دول العالم ، مع أنه لم يتلقَّ أي تعليم عالٍ في الجامعات الأوربيّة المتخصصة بتلك العلوم!!، مرورًا بكريم أخلاقه وحسن تعامله مع خصومه وأعدائه وترفّعه عن الأحقاد والأضغان ، وانتهاءً بدوره الكبير في إطفاء نار الفتنة في بلاد الشام ، ومساعيه في استرداد دار الحديث الأشرفية وترميمها على نفقته ، وروايته لكتب الصحيح (البخاري ومسلم) وغيرها ، وعنايته بأهل العلم في الشام وغيرها ، وخدماته الجليلة للدولة العثمانية وتوطيده لحكم الخلافة الإسلامية وردّ المعتدين عليها والرامين لتمزيقها ، وسعيه الحثيث لإطلاق سراح المجاهد الكبير الشيخ شامل الداغستاني ، ورعايته لإخوانه المجاهدين في الجزائر ومتابعة أخبارهم وتقديم العون لهم ، إلى غير ذلك من الخصال وجميل الفِعال..

الأمير عبد القادر شخصيّةٌ محسودة ولها خصوم وأعداء ، فهو الشاب الحديث السِّن الذي بويع أميرًا على قبائل الجزائر ، وكان هناك رجالٌ أكبر منه سنًّا ولهم في مجال الحكم والعسكرية سابقيّة ، فكَبُرَ عليهم أن ينزلوا تحت حكمه ويُبايعوه ، فانتصبوا له أعداءً ومخاصمين.
وكذلك هناك من أعلن الجهاد مثله ولكنه لم يستطع أن يصنع شيئًا مما صنعه هو ، ولم تكن له الآثار العظيمة كتلك التي تركها الأمير عبد القادر ، فثارت غيرته وامتلأ صدره غلاًّ وحسدًا على الأمير.
وفي بلاد الشام كان لحضور الأمير فيها أثرٌ كبير على بعض أعيانها ورجالاتها ، حيث انصرفت أنظار الناس عنهم ، واتّجهت نحو الأمير منذ الأيّام الأولى لوصوله ، وما هي إلاّ أيّام قليلة ويصبح الأمير ملجأً للمحتاجين والمنكوبين وأصحاب الحاجات ، ويقصده الولاة والعلماء للتوسط عند السلطان ، لِما له عنده من منزلة رفيعة. وهو الذي شفع في بعض الوجهاء المعادين له! الذين كان يريد (الصدر الأعظم) فؤاد باشا أن يعدمهم ، فخفف العقوبة إلى النفي ، وبعد ذلك شفع فيهم الأمير عند السلطان لكي يرجعهم إلى بلادهم.
فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أنّ أصحاب تلك الشخصيات أو أبناءهم أو الموالين لهم أخذوا يحاولون تشويه صورة الأمير لكي يجمّلوا صورهم ويُنقذوا سُمعتهم!
فإذا ذُكِرَ الجهاد وتألّق الأمير في مجاله ؛ قال المتخاذلون عن الجهاد الذين لا يد لهم فيه ـ وبكل بلاهة وسفاهة ـ إنه صديق فرنسة وهي تُعينه!!
وإذا ذُكِرت الفتنة وتصدي الأمير لها وفقًا لأحكام الإسلام ؛ قال المتورّطون فيها والمخالفون لشريعة الإسلام إنّه ماسوني!!
وإذا ذُكِرَت النهضة العلمية والتبصرة الفكريّة والدروس الحديثيّة والتمسّك بالسنّة النبويّة ونبذ التقليد، قال المتحجّرون ، والمبتدعون ، إنّه فيلسوف وجودي وعلى قدم ابن عربي!!
وإذا ذُكِرَ التزامه بأحكام الشرع الإسلامي في حُسْن معاملته للأسرى ، ومحافظته على عهوده ، قال الغافلون عن أحكام الشرع وآدابه ، إنه مفتون بالحضارة الغربية!!
وإذا ذُكِرَت المواقف السياسية المتمسّكة بالمبادئ الإسلامية والمتحلّية ببعد النظر والحكمة والإخلاص، قال الفاقدون لهذه الصفات إنه يُنفذ المخططات الغربية!! (رمتني بدائها وانسلّت)
وإذا ذُكِرَ الكرم والسّخاء والبذل والعطاء واتّصاف الأمير بها ؛ قال المحتكرون والأَشِحّاء والقابضون إنّه يتلقى الأموال من فرنسة لأنه موظف عندها!!

وهذا حال كل ذي نعمة وقدر عظيم؛ يقول الله تعالى :{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا}[النساء:54]

فإذا كان الحُسّاد يرمون خصومهم بالتهم والأباطيل ، فهل يُعقل أن يَقْبل الدارسون للتاريخ والرجال ، أو القرّاء من العرب والمسلمين هذه التهم ويُصدِّقوها دون دليل أو برهان؟!

والأمر ليس مقصورًا على الحسّاد والخصوم من العرب والمسلمين ، وإنما دخل فيه أيضًا الكتّاب الغربيون الذين وجدوا أنفسهم مضطرين للاعتراف بسمو شخصية الأمير عبد القادر ـ العربي المسلم ـ وبعظيم مآثره! ولكنهم حاولوا أن يصبغوا حديثهم عنه ومديحهم له بشيء من تراثهم المُتَهَرِّئ ومدنيّتهم الزائفة!
فها هو الكولونيل تشرشل عندما يتحدث عن التزام الأمير عبد القادر الديني وقيامه بشعائره وسعيه الدائم لمزيد من القُربات والطاعات ، بخلاف حكّام الغرب وقادته العسكريين الذين لا هَمَّ لهم إلاّ الطغيان والزهو بجرائمهم الحربية وإسرافهم في الملاهي والملذات والفحش وصحبة العاهرات!
يقول : ((وطالما اشرأبّت نفس عبد القادر إلى تحقيق أملٍ ورغبة ، وهي أن يكون قادرًا عاجلاً أو آجلاً، على إكمال واجباته الدينية بتتويجها بعملٍ آخر من أعمال العبادة . ففي عين المسلم الحقيقي ليس هناك رتبة دنيوية أو تقدير يمكن أن يُقارن بذلك مثل الميزة العالية التي يُطلق على صاحبها (مجاور النبي) ، ولكي يحقق المرء هذه الميزة يجب عليه أن يُقيم باستمرار في مكّة أو في المدينة مدّة سنتين ، أو على كل حال أن يبقى في الحرمين الشريفين حتى تتعاقب عليه حجّتان ويغادر الحجيج بعدهما الحرمين المذكورين.
وعندما سُئل ذات مرّة كيف يستطيع أن يفصل نفسه في مثل سِنِّه (55سنة) عن عائلته كل تلك المدة؟ أجاب :"حقيقةً إن عائلتي عزيزةٌ عليّ ، ولكنّ الله أعزُّ منها".
ويُتابع تشرشل:...ووصل إلى مكّة في الموعد المحدد.... وقد أمر له شريف مكّة بغرفتين في فِناء الحرم توضعان تحت تصرفه . وتهاطل عليه الزوّار ، وبعد عشرة أيّام أعلن أن مدة الاستقبال قد انتهت . وسأل أن يُترك على انفراد وفي عزلة هادئة . وخلال الاثني عشر شهرًا الثانية لم يُغادر حجرته إلاّ للذهاب إلى الجامع الكبير (كذا) . فكل وقته قد كرّسه للدراسات الدينية والتعبد والصلاة ، وكان حماس فكره الديني قد استثير بأشد أنواع إنكار الذات ، فلم يسمح لنفسه بسوى أربع ساعات من النوم ، ولم يوقف صومه خلال الأربع والعشرين ساعة سوى مرة واحدة ، وحتى عندئذ فإنه كان لا يتناول سوى الخبز والزيتون ، وكان قد أَنهَك هذا التقشف القاسي الطويل قواه حتى ظهر على بدنه الحديدي.... (ثم تحدث كيف سافر إلى المدينة)...
... وقد بقي عبد القادر في المدينة أربعة أشهر ، مستأنفًا العمل الذي كان قد مارسه بينما كان في مكّة قرب قبر النبيّ!([3]) ، وكان حارس الضريح النبوي يطلب منه دائمًا أن يفحص الأشياء الثمينة التي يحتوي عليها : نذور الماس والجواهر والأحجار الكريمة ، والذهب والفضة ، المرسلة من الملوك والأمراء ورجال الدين والأعيان من جميع أنحاء العالم الإسلامي . ولكن عبد القادر كان يرفض حتى النظر إلى هذه الأشياء. فقد كان ينظر إليها على أنها تبذيرٌ وبذخ لا فائدة منه وسوءُ تصَرُّفٍ مُذْنِب في الثروة التي كان يمكن استعمالها في أعمال الخير والمصلحة العامة...
وعندما حان وقت رحيله..... ووصل مكّة .. في الوقت الذي يجب عليه أن يكون حاضرًا لأداء شعائر وفرائض عيد الأضحى!! للمرة الثانية. وبذلك يكون قد حقق وعده وغرضه فالتفت الآن عائدًا نحو أهله ، وفي شهر يونيو سنة 1864 وصلَ إلى مدينة الإسكندريّة.
لقد نجح عبد القادر في تحقيق أعلى المراتب الدينية التي تعتبر أساسية وجليلة ، بعد عملٍ شاق وإنكارٍ طويل للذات . ومن جهة أخرى أصبح يحمل شعار جمعيّة تقوم على مبدأ الأخوّة العالميّة. إن الجمعيّة الماسونية في الإسكندرية قد سارعت للترحيب بالعضو الجديد الشهير . فقد دعا المحفل الماسوني ، المعروف بمحفل الأهرام ، للاجتماع خصيصًا لهذه المناسبة ، عشيّة الثامن عشر من يونيو. وأدخل عبد القادر في هذا النظام الصوفي الغامض. وقد أضيف إلى ميزة (مجاور النبي) ميزة (ماسوني حر ومقبول) ، وهي العبارة العرفية المستعملة في هذا المقام)).انتهى مختصرًا من[حياة الأمير عبد القادر ص291ـ294]

إذن تحدث تشرشل عن تديّن الأمير عبد القادر من قيامه بالحج والمجاورة في الحرمين والخلوة للتعبد والتقرب إلى الله . في حين أنّ تشرشل نفسه ـ وهو من كبار الضباط البريطانيين ومن النبلاء ـ وكثير من الحكام والملوك وكبار الضباط الأوربيين لم يكن لهم نشاط أو اهتمام ديني ، وإنما كانوا ينخرطون في سلك الماسون ويتبجّحون بعناوين عريضة ودعايات فارغة ، فما الحل حتى يتساوى الطرفان؟ لقد زعم تشرشل أن الأمير انضمّ ـ كسائر ملوك وحكام أوربة ـ إلى الماسونية . ثمّ أطلق على الماسونية وصفًا عجيبًا فقال : "هذا النظام الصوفي الغامض"!!
إذن على رأي تشرشل الماسونية طريقة صوفية يتبعها الأوربيون فلا مانع من انضمام الأمير العربي المسلم إليها! ومتى كان هذا الانضمام؟ لقد كان في رحلة العودة من الديار المقدسة من الحرمين الشريفين بعد مجاورة دامت أكثر من سنة!! أليس هذا من الأخبار الفجّة والمستهجنة والتي لا يمكن تصديقها إلاّ بدليل قاطع وبرهان ساطع.
ضمن أسطر قليلة نجد تناقضًا عجيبًا ، ففي البداية عرّف تشرشل الماسونية فقال:"جمعيّة تقوم على مبدأ الأخوّة العالميّة" ، وبعد سطرين وصفها فقال:"هذا النظام الصوفي الغامض" . ومرَّ معنا في الحلقة (14) تناقض الماسون أنفسهم في تعريف الماسونية ، ومرَّ معنا أيضًا تضارب مزاعمهم في تاريخ انضمام الأمير إليهم، وتبيّن لنا سقوط جميع دعاويهم ومزاعمهم! فيمكنكم الرجوع إلى تلك الحلقة لمراجعة الموضوع.
إنّ تشرشل قال في مقدمة كتابه أن المعلومات التي يوردها عن الأمير مصدرها اللقاءات التي جرت بينهما طيلة الخمسة أشهر التي تردد فيها تشرشل إلى الأمير في دمشق. وذَكَرَ لنا أنّه غادر دمشق في مطلع سنة 1860م!(قبل حادثة النصارى) إذن الأحداث التي جرت للأمير بعد ذلك التاريخ لم يكن تشرشل يُعاينها من قريب ، فضلاً عن تلقي تفاصيلها من الأمير . فمن أين إذن حصل تشرشل على هذه المعلومات؟ ولماذا لم يذكر مراجعه أو أدلّته على ما يقول؟
لقد اكتفى بالقول في مقدمته : ((ولم يكن يخطر على بالي وأنا أغادر دمشق في ربيع سنة 1860 أنّ فصلاً آخر كان يوشك أن يُضاف إلى تاريخه الغريب الكثير الوقائع ، أو أنّ نجمه المجيد الذي كان يبدو أنه سيظل ساطعًا إلى الأبد ، كان مقدّرًا له قريبًا أن يظهر فجأة من جديد بعظمةٍ أخرى ثاقبة. أمّا عن سلوكه الباهر النموذجي خلال المذبحة المخيفة التي تعرّض لها مسيحيو دمشق ، وسط تواطئ السلطات التركية المخزية القاسية ، فقد حصلتُ على تفاصيل على درجة كبيرة من الأهمية والصحة من مشاهدي العِيان . هذه هي إذن مادتي ، ولم يبق لي إلاّ أن أنسقها وأصوغها ، وقد فعلتُ ذلك . وإنني أدعو قرّائي ، بكل هيبة وتواضع ، أن يصدروا حكمهم على العمل نفسه)).انتهى[حياة الأمير عبد القادر ص37]
ولأنّ تشرشل يدعونا لإصدار الحكم على عمله ، أقول : إن الباحثين استفادوا من كتاب تشرشل المعلومات التي ذكرها عن الأمير سماعًا منه ، وهي في معظمها متّفقة مع ما ذكره عنه المؤرّخون العرب والمسلمون. ولكنه لم يغب عن ذهنهم أنّه أثناء كتابتِه عن الأمير وثنائه عليه كان يدسّ بعض المعلومات الكاذبة ليروّج للسياسة البريطانية المعادية للخلافة العثمانية بشدّة ، وكتابه من أوّله إلى آخره طافحٌ بالعبارات الممتلئة بغضًا وكرهًا للأتراك العثمانيين ، بل إنه كان يفتري عليهم ويزوّر تاريخهم إلى درجة مفتضحة . كما نرى في النص السابق!
وإذا كان مصدر معلوماته الأخيرة عن الماسونية والأمير ،كما صرّح هو ،"بأنه من مشاهدي عيان"، فلماذا لم يسمّهم لنا؟ لعلّهم من الماسون أنفسهم! وهم دون أدنى شك مستعدون لافتراء مثل هذه المزاعم بعد أن صدّهم الأمير حين دعوه للانضمام إليهم ، وذلك كي لا يظهروا أمام العالم بصورة تُضعِفُ دعايتهم بأنهم جمعيّة الكبار والعظماء!!
على كل حال يبقى هذا الخبر مرفوضًا من الناحية التوثيقية ولا يمكن الاعتماد عليه ولا الركون إليه.
وإذا كان البعض يرى أن القَبول بكلام تشرشل أو جرجي زيدان لا بأس فيه! فأقول لهم إنّ القبول بكلام من هو أصدق منهم أولى وألزم. لقد روى السيد بدر الدين بن أحمد الحسني كلامًا يردّ مزاعم تشرشل وجرجي!
أقول : حدّثني ظافر بن أحمد مختار الحسني قال حدّثني جدّي بدر الدين بن أحمد الحسني قال سمعتُ عمّي الأمير عبد القادر يقول: ((عندما حضرت حفل افتتاح قناة السويس (سنة 1869م) أتاني بعض أعضاء الجمعية الماسونية يدعونني إلى الانضمام إليها ، فقلت لهم إلى أي شيء تدعون؟ قالوا ندعو إلى التضامن والتكافل فيما بيننا. فقال لهم الأمير : لا يجوز عندنا نحن المسلمين أن يتكافل البعض دون الكل. فانصرفوا)).انتهى
وبدر الدين هو ابن السيد أحمد شقيق الأمير الأصغر ، وهو أيضًا صهر الأمير زوجُ ابنته زهرة! وهو من المُعمَّرين عاش مئة سنة توفي في 1/12/1967م. وسأعرض شهادات أخرى لاحقًا.

وبعد انتشار إشاعة انضمام الأمير إلى الماسونية عَقِيْبَ وفاة الأمير ، وتداولها من قبل بعض الصحف والجرائد المشبوهة (وبخاصة تلك التي كان يصدرها جرجي زيدان وأمثاله) ، قامت بعض الجرائد والصحف المصرية واللبنانية بتكذيبه والاعتراض عليه ، ومن الأدلة التي كانت تلك الصحف تعتمد عليها في تكذيب هذا الخبر هو قولهم : "إن الماسون يزعمون أن الأمير استقبل عضوًا في محفل الأهرام الماسوني بتاريخ 18/6/1864م!!! الموافق 14/1/1281هـ في الإسكندرية. ومع العلم أن الأمير في هذا التاريخ كان لم يزل في الحجاز، وهو لم يصل إلى الإسكندرية إلاّ بعد 14/5/1865م!! الموافق 19/12/1281هـ ؛ ووصل إلى دمشق بتاريخ 19/1/1282هـ الموافق 13/6/1865م!!!!".انتهى[كنتُ نقلت هذه المعلومات من صحيفة لبنانية وأخرى مصرية. ورجعت إلى بعض الكتب التي أرّخت للأمير عبد القادر فوجدت أنّ التواريخ المذكورة في تلك الصحيفة موافقة لما ذكرته تلك الكتب ، وهي (تحفة الزائر 2/145) لمحمد باشا ، و(حلية البشر 2/899) لعبد الرزاق البيطار ، و(الأمير عبد القادر الجزائري ص26) لنزار أباظة].
والعجيب أنّ بعض المشتغلين بتلخيص كتب التراجم والتواريخ ، وهو الأستاذ نزار أباظة ، وضع كتابًا بعنوان (الأمير عبد القادر الجزائري العالمُ المجاهد) وقد جمعه من عدة مصادر أهمها (تحفة الزائر) و(حلية البشر) و(حياة الأمير) لتشرشل وكتاب جواد المرابط (التصوف والأمير عبد القادر)؛ وعندما تحدث فيه عن رحلة الحج وعودة الأمير منها ومروره بالإسكندرية أوردَ هذه المعلومة فقال: ((وفي الإسكندرية عرضَ عليه الماسونيون الدخول في جمعيّتهم(1) ثم توجّه إلى دمشق فوصلها في 19 المحرّم سنة 1282هـ = 13/6/1865م)).انتهى[الأمير عبد القادر ص26]
هذا كل ما قاله في هذا الخصوص ولم يزد عليه كلمة واحدة ، واكتفى بوضع حاشية في أسفل الصفحة قال فيها:{(1) انظر مجلة الثقافة 269، ومجلة الحقائق مج2،ح2، ص2 ،78}.انتهى
وترك القارئ يفهم من عبارته وحاشيته ما يشاء! والذي يتبادر إلى ذهن القارئ أنّ هذه المجلاّت التي ذكرها في الحاشية تثبت الخبر الذي أورده في المتن ، ثم يقرر القارئ من تلقاء نفسه : أقَبِلَ الأمير العرض أم لا!
راجعتُ مجلّة "الحقائق" لصاحبها السيد عبد القادر الإسكندراني، فوجدتُ أمرًا عجبا!!
أتدرون ماذا وجدت؟ لقد وجدت على الغلاف الخارجي للعدد المذكور نفسه إشارة إلى مقال في داخله ص77 بعنوان : (الأمير عبد القادر والجمعية الماسونية ـ وفيه تبرئة الأمير رحمه الله مما نُسِبَ إليه من دخوله في هذه الجمعيّة المجهولة الحقيقة والشروط) بقلم حفيد الأمير محمد سعيد الجزائري!
وإليكم نص المقال:

الأمير عبد القادر


والجمعية الماسونية

((في سنة ست وثمانين(1286هـ = 1869م) دُعيَ الأمير عبد القادر مع من دعي من ملوك أوربا ليحضر احتفال فتح ترعة السويس ، وبينما كان عائدًا لسورية عن طريق الإسكندرية اغتنمت الجمعيّة الماسونيّة فرصة وجوده في ذلك القطر فأوفدت إليه هيئة من أعضائها لتعرض عليه المبادئ الماسونية ، وعندما ذَكَرَ الوفدُ المشار إليه فضائلَ الماسون وخدمتها في الإنسانية ، شكرها الأمير على عملها الذي ادَّعته شأنَ كلِّ رجل يدّعي له شخصٌ أنه يخدم الإنسانية ويسعى في سبيل خير البشر فيستحسن أعماله ويشكر مقاصده. فاتخذ بعض المنتمين للجمعية ذلك الاجتماع ذريعةً حسنة لِنِسبة دخول الأمير في جمعيّتهم ، وبدؤوا يترجمون سيرته ويشكرون عظيم خدماته في الإنسانية. بيد أنّ هذا الاجتماع وتلك الدعوى لا تثبت ولا تحقق دخول الأمير في الجمعيّة الماسونية ، لأنّ هذه الحجة ضعيفة تحتاج إلى أدلّة مؤدية ؛ ومن المعلوم أن لجمعية الماسون نظامًا كما لسائر باقي الجمعيات، تطبّق أعمالها بموجبه ، ومن جملة مواد نظام جمعيّة الماسون أنه لا بد لكل شخص يريد الدخول إلى هذه الجمعية أن يطلب الانخراط بها بموجب استدعاء يلتمس منها قبوله فإذا تمَّ له ذلك واستحسنت الجمعيّة إدخاله ، تكلّفه بوضع إمضائه في سجل أعمالها وعليه أن يكتب أنه دخل بإرادته واختياره ؛ هذا ما يدّعيه أيضًا بعض أفراد الجمعيّة الذين ينسبون دخول الأمير في هذه الجمعية بمجرّد القول! وحيث أنّ وجودَ مثل هذه المواثيق المادية هي أعظم دليل وأقوى برهان بيد كل من يريد أن يُثبت حجته ، فإنني أطالب كل من يدَّعي من أفراد هذه الجمعيّة انتظامَ الأمير بها ، بإبراز هذه الوثائق الراهنة مطبوعةً نُسَخُها على الحجر؛ وما من أحدٍ يجهل خطَّ الأمير وإمضاءه ؛ هذا ما نطالب به من يفترون على الأمير والجمعيّة معًا الكذب والبهتان. وأمّا نحن فإننا نقول إنّ الأمير عبد القادر الذي اشتهر بالتُقى وبصلابة الدِّين سيما وأنّه كان يُقيم الحدود الشرعيّة في هذه البلاد السوريّة كما أقامها في وطنه ، لا يُخالف الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة ويدخل في جمعيّة سريّة لا يعلم حقيقتها إلاّ من انخرط بين جماعتها . وإننا بصرف النظر عن كون مبادئ هذه الجمعيّة حسنة أم سيّئة ، فالشرع لا يسمح للمسلم أن يدخل بها قبل معرفته حقائقها ، وقد قال الله تعالى {يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم}الآية ، وقوله جلَّ شأنه {لا تجدُ قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوادُّون مَنْ حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم}الآية.
وقال رسوله عليه الصلاة والسلام (ليس منّا من عمل بسنّة غيرنا) رواه ابن عبّاس ، وقال (ليس منا من تشبّه بغيرنا) رواه ابن عمرو رضي الله عنه ، وأمثال هذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية كثيرة سيما وأنّ الجمعيّة الماسونية وأصلها (فران ماسون) أي البنائين مأخوذة عن الأمم الغربية والملل الأجنبيّة ؛ ولا جرم أنّ جمعية مبدؤها خدمة الإنسانية وخطتها تعميم الأخوة والمساواة والحرية لا ترضى بأن يفتري بعضُ أفرادِها عليها الكذب قصدَ إغراء بعض الناس بنسبة دخول زيد وعمرو بها!
وخلاصة القول إن الجمعية التي هي على يقين من طهارة وجدانها لا تحتاج لترغيب لأنها ترتقي بسنّة طبيعيّة ؛ وعليه فإنّا نحذّر كل من يتشدَّقون بنسبة انتظام الأمير بسلك الجمعيّة الماسونية أن يرجِعوا عن غِيّهم أو أن يأتوا لنا ببرهان من البراهين الآنفة {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.
ابن الأمير
محمد سعيد)).انتهى


([1]) أظن أنه لم يعد خافيًا اليوم ميلُ وانحيازُ هذه القناة إلى الجهات المعادية للإسلام والمسلمين!! ـ بعد حرب اليهود على المسلمين في غزّة والموقف المخزي لقناة "العربية" من أحداث تلك الحرب على وجه الخصوص.


([2]) ملاحظة : يتّخذ بعض الناس ـ في مجتمعاتنا العربية الإسلامية ـ من المديح أو الثناء الصادر من جهة الغرب اليهودي النصراني أو العلماني تجاه شخصيّة عربية مسلمة ، وسيلة لاتهام تلك الشخصية! بصرف النظر عن طبيعة تلك الشخصية ، وهذا فعلٌ غير صائب ، لأنّ بعض كتّاب وعلماء الغرب المنصفين قد يُثني ويمدح رجال الإسلام إذا رأى فيهم فضائل ومحاسن ومزايا لا مجال لنكرانها . وأوضح مثال على ذلك هو كتاب (المئة الأوائل) فإنّ كاتبه اليهودي الأمريكي "د. مايكل هارت" جعل الشخصيّة الأولى في العالم هي شخصية نبيّ الإسلام سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.


[3] ـ وهنا نلاحظ بوضوح جهل هذا الكاتب (تشرشل) بحقائق شهيرة وهي أنّ قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وليس في مكّة!! ولذلك من الخطأ الاعتماد على كل ما يذكره الكتّاب الغربيون عن الإسلام ورجاله!
وعند الله تجتمع الخصوم ... [ وداعا ]

أيّ عذر والأفاعي تتهادى .... وفحيح الشؤم ينزو عليلا

وسموم الموت شوهاء المحيا .... تتنافسن من يردي القتيلا

أيّ عذر أيها الصائل غدرا ... إن تعالى المكر يبقى ذليلا


موقع متخصص في نقض شبهات الخوارج

الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية عرض وتفنيد ونقض
نقض تهويشات منكري السنة : هدية أخيرة

الحداثة في الميزان
مؤلفات الدكتور خالد كبير علال - مهم جدا -
المؤامرة على الفصحى موجهة أساساً إلى القرآن والإسلام
أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية
مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة

  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية algeroi
algeroi
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 17-10-2007
  • المشاركات : 4,860
  • معدل تقييم المستوى :

    22

  • algeroi has a spectacular aura aboutalgeroi has a spectacular aura about
الصورة الرمزية algeroi
algeroi
شروقي
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر .. خلدون مكي الحسني
28-01-2009, 03:05 PM
فسبحان الله العظيم ، الأستاذ أباظة أحال إلى مرجع فيه نصٌّ قاطع كتَبَه حفيد الأمير عبد القادر ، ينفي فيه بشدّة وتَحَدٍّ دعوى انتساب الأمير إلى الجمعيّة الماسونية ، وهذا المقال نُشِرَ بتاريخ رمضان 1329هـ أي بعد وفاة الأمير بتسع وعشرين سنة!!وقبل مئة سنة من يومنا هذا!!!
لقد تحدّاهم الأمير سعيد أن يبرزوا شيئًا من الأدلّة المادية ولكنّهم لم يفعلوا!
إذن عندما ادّعى بعض الماسون انضمام الأمير إلى جمعيتهم لكي يرغّبوا الآخرين بالانضمام إليها، في الوقت الذي لم تكن فيه الماسونية تُهمةً ، تصدى لهم حفيد الأمير ونفى مزاعمهم ، ونشرت المجلات هذا النفي في حينها. وانتهت القضيّة ، فلماذا نجد اليوم ـ وبعد مئة سنة من ذلك النفي ـ بعض الناس يعيدون الحديث في القضية بعدما انكشفت الماسونية وصارت تهمة؟!

وأرجو أن تلاحظوا معي التباين والاضطراب في قضيّة اجتماع الماسون بالأمير وعرضهم عليه الانضمام إليهم. فتارة يقولون إن ذلك حدث قبل 1860 ، وتارة يقولون إنه حدث سنة 1864 ، وتارة يقولون إنه حدث سنة 1869 ؛ وفي مقال الأمير سعيد أثبتَ أنّ ذلك حدث سنة 1869!! وكذلك الأمر فيما نقله السيد بدر الدين عن عمّه الأمير!
ومحلُّ تعجّبي من فعل الأستاذ أباظة أنّه أورد خبر لقاء الماسون بالأمير في متن كتابه ولم يُعلّق عليه بشيء مع أنه مطلعٌ على مقال الأمير سعيد . فما فائدة إيراد مثل هذا الخبر دون بيان قبول الأمير الانضمام أو لا؟!
على كل حال المهم أنه ظهر للجميع تهافت شبهات المروّجين لقصة انضمام الأمير إلى الماسونية .

ـ وبعد المقال الذي كتبه الأمير سعيد متحديًا فيه الذين يدّعون انتساب الأمير إلى الماسونية ، خمدت أصوات أولئك الأشخاص .
طبعًا الشعوب العربية المسلمة بعلمائها وعامّتها لم تكن تلتفت إلى تلك الدعاوى فسُمْعَةُ الأمير عبد القادر عندهم من أصفى ما يكون لا يُعكّر صفوها تشويش المشوّشين!

ولكن بعد نكبة العرب والمسلمين سنة 1948م بسلخ جزء كبير من فلسطين عن جسم الأمّة ، وبعد نكستهم سنة 1967م وخسارة ما تبقى من أرض فلسطين، وبعد توالي الهزائم وانحطاط الأمّة وضياع كرامتها ، بدأت تظهر في طائفة من أبنائها أعراضٌ لمرض نفسي خطير ، مرض يسبب لصاحبه الشلل ، إنه مرض الانهزام النفسي الكُلّي ، وبعد استحكام الشعور بالهزيمة عند المصاب بهذا المرض يلجأ إلى إيجاد الأعذار التي سيتّكئ عليها ، وبعد تراكم عدد كبير من تلك الأعذار عند أولئك المصابين تكوّنت لديهم نظرية صارت تُعرف فيما بعد بنظريّة المؤامرة! وأيّ مؤامرة؟ إنها بزعمهم مؤامرةٌ أحْكَمَ نسج خيوطها وحياكتها حكماءُ صهيون، وتقوم على تنفيذها الحكومة الخفيّة أو الجمعيّة الماسونيّة ، فكلّ ما يجري في العالم إنما هو بتدبيرهم وإرادتهم!!(زعموا) لأنّ كل رؤساء العالم ماسون وكل موظفي هيئة الأمم ماسون ، وكل من يعارضهم يكون مصيره الهلاك ، لأنّ الماسون يعرفون كل شيء ويهيمنون على كل شيء!
سبحان الله! لقد صار الماسون وحكماء صهيون عند أولئك الناس كأنّهم آلهة يشركونهم مع الله! والعياذ بالله.
وبدأت هذه النظرية تأخذ مكانها في كتابات بعض المعتقدين بها أو المروّجين لها ، ثمّ تكاثرت مقالاتهم وصارت تغزو الصحف والجرائد اليومية ، وكَثُرَ الحديث عن هذه المؤامرة ورجالاتها والمنخرطون في سلكها ، أو الذين استُخْدِموا لتمرير خططها ، وبدأت التُّهم تُلقى جزافًا ولا رقيب ولا حسيب!
وساهمت بعض الجهات في تغذية هذا التوجّه وتدعيمه ، لأنها ستستفيد من رواج هذا الفكر واستقراره . وصحيح أنّ بعض الصحفيين يكتب عن الماسون وعمالتهم ، من باب تأثّره بنظرية المؤامرة وبرتوكولات حكماء صهيون. إلاّ أنَّ البعض الآخر كان يكتب من باب استغلال تلك النظرية! والسبب أنّ البعض سيستفيد من هذا الأمر في درء الشبهات عن نفسه وتحييد خصومه ، وصرف الأنظار عنهم ، وإقناع الناس بالواقع المرير!([1])
ومما ساعد أصحاب هذا التوجّه على ترويج نظريتهم ، أنّ بعض رجالات العرب والمسلمين انتسبوا إلى الجمعيّة الماسونية في وقت مضى ـ قبل تلك النكبات والنكسات ـ وأعلنوا انتسابهم إليها، وذلك لأنّه لم يكن هناك شيء ظاهر يبعث على الريبة فيها ، بل على العكس كان يُنظر إلى تلك الجمعيّة على أنّها أمرٌ حسن ، فهي تُنادي بالقيم الإنسانيّة وتدعو إلى مساعدة الآخرين وإلى النهوض بالأمم والرقي بها . هكذا كانت تروِّج لنفسها . وقد انضمَّ إليها في السابق أشخاص لا يُشك في نزاهتهم وصدق نيّاتهم ، وهذا جعل المنتسبين الجدد يشعرون بالارتياح.
ولكن بعد مدّة من انتسابهم أحسّوا أنّ وراء تلك الجمعيّة أغراضًا خبيثة مخفيّة لا يُمكن أن يرضوا بها، وأدركوا أنّ تلك الجمعية ستستفيد من انضمامهم إليها لتمرير شيء من أغراضها ، فما كان منهم إلاّ أن انسحبوا منها وانقطعوا عنها. بل أخذوا يحذِّرون منها ، ويكتبون لفضحها.

ولعلّ كتابات الدكتور عبد الجليل التميمي عن الأمير عبد القادر والماسونية ، كانت المصدر الثاني للصحفيين والمفتونين بالشأن الماسوني ، بعد كتابات جرجي زيدان وشاهين مكاريوس!!
وعبد الجليل التميمي كان ينقل أشياء عن بعض الكتّاب الغربيين ولكنه يصبغها فيما بعد بنظرته السوداوية للأشخاص! ومرَّ معنا في حلقات سبقت اعتماد التميمي على رسائل مزوّرة ـ سمحت السلطات الفرنسية له ولغيره بالاطلاع عليها وتصويرها!! ـ في الطعن بالأمير وموقفه من الحركات الانتفاضية في الجزائر بعد خروجه منها . وبيّنتُ وقتها التزوير المفتضح لتلك الوثائق ، وكذلك جهل الدكتور التميمي بالوثائق الحقيقية التي تُثبت عكس ما ادّعاه.
وبعد ذلك اعتمد عبد الجليل التميمي على كلام ووثائق "زافيني ياكونو" في دعم نظريته القائلة بانضمام الأمير إلى الماسونية! والوثائق المزعومة هي ثلاث رسائل موجّهة إلى الماسون وُضِعَ في نهايتها اسم الأمير عبد القادر وختمه!!وزعموا أنها بخط الأمير!! [بحث التميمي هو :الأمير عبد القادر الجزائري في السنوات الأولى من إقامته بدمشق]
وكتابات التميمي بهذا الخصوص غير علمية وغير موثّقة وهي تعكس رأيه ونظرته ونفسيّته وقد ضمّنها مواقفه القَبْلِيَّة من الأشخاص والأحداث! وعن التميمي نقل الصحفيون وهواة الماسونية تلك الرسائل واستنتاجات التميمي وزافيني منها!!
وأقول : لو كان التميمي والناقلون عنه في كتبهم يتحرّون الحقيقة لأمكنهم بمجرّد إلقاء نظرة سريعة عليها أن يقطعوا بأن تلك الرسائل ليست بخط الأمير حتمًا ، ولو قرؤوها وقرؤوا ما فيها من ألفاظ عامّية وإملاء لا يصدر إلاّ عن شخص أعجمي حديث عهد بتعلّم العربية ؛ لأيقنوا أنها ليست للأمير الذي يحفظ كتاب الله تعالى ، ويروي حديث رسوله صلى الله عليه وسلم ، وينظم الشعر وكتاباته مشهورة ومعلومة!
وقد صدرت دراسات علميّة تُبيّن زيف وبطلان هذه الرسائل. ومن أهم تلك الدراسات والوثائق تقرير الخبرة الفنيّة الذي أعدَّه الخبير المحلّف الأستاذ هشام الغراوي بتاريخ (21/جمادى الأولى/1420هـ = 1/9/1999م) الخاص بدراسة إحدى تلك الرسائل وهي الرسالة الموجهة إلى محفل هنري الرابع ، ظهرت في زمن متأخر، مضمونها شكر وثناء على جمعية المحفل وعلى أغراضها ودعاء لها ولأعضاء المحفل ، وكاتب الرسالة يقول إنه مندرجٌ معهم في الأخوية المحبوبة!
وقد تناولها الأستاذ الغراوي بالدراسة الفنية وكانت النتيجة أنها مزوّرة بكل وضوح!
يقول الأستاذ هشام الغراوي ؛ الخبير المحلّف بشؤون الوثائق : ((الوثيقة 4 تَبيَّنَ بالدراسة الفنية الكاملة عليها أنها مزوّرة أيضًا بكل وضوح في أسطرِها التسعة وختمِها وإمضائِها:
فالنصُّ خالٍ من الحمد بالأعلى (خلافًا لعادة الأمير فيما عهدناه في رسائله الصحيحة)، وجاءت الكتابة بالخط "الرقعي/المشرقي" من العصر التركي ، وبعيدٌ كل البعد عن الخط المغربي للأمير بأدلة كثيرة جدًّا ظاهرة بالعين المجرّدة ولا تحتاج إلى تفصيل بعد الذي سبق لنا بيانه ، وعدد هذه الأدلة يتجاوز "التسعة" بكثير ، وفي مقدمتها التركيب الإنشائي المخالف تمامًا لأسلوب الأمير بكتاباته الصحيحة ، فضلاً عن عدم معقولية ما فيها من كلامٍ مرفوض لا يُصدّق صدوره عن الأمير من حيث الدعاء لرجال الماسونية بأن يبلّغهم الله أقصى مرادهم (الذي كان مجهولاً في ذلك العصر ، حينما لم تكن الماسونية قد انكشفت عالميًا على حقيقتها السرية الرهيبة) ؛ وهي مؤرّخة في 10آب (آغسطوس 1864 وتحمل خاتمًا جديدًا لم نرَ مثله في الوثائق الصحيحة (الثابتة على ختم واحد) .. وكأنّ الأمير رحمه الله كان يملأ جيوبه بمجموعة من الأختام .. ثم يتعمّد أن يختم كل وثيقة بخاتم خاص بها! .. ويمتاز الخاتم المنسوب للأمير بهذه الوثيقة (4) بأنه محاط بإطار شبه دائري ، وبمثابة (out line) منتظم لا نجد له مثيلاً بالأختام الأخرى المزوّرة .. ولا الصحيحة!.)).انتهى[من التقرير الفني ص7ـ8]

طبعًا هذا الكلام ينطبق على الرسالتين الأخريين. وبهذا يتبيّن سقوط هذه الشبهة وهذه التهمة.
(والأستاذ هشام الغراوي خبير في الخطوط والوثائق والمخطوطات ، وهو الخبير المحلّف بشؤون الوثائق لدى وزارة العدل السورية مدّة 28 سنة ، من 1952 إلى 1979م . ويقيم في "أنقرة" بتركية ، متفرّغًا للبحث العلمي بشأن المخطوطات والكتب العربية الأثرية ، وهو مرجعٌ لكثير من الباحثين يساعدهم في قراءة المخطوطات وفكّ المستعصي فيها).

والآن مع شبهة جديدة : فبعدما تهاوت وسقطت جميع الحجج التي ساقها متَّهمو الأمير بالماسونية، اضطروا إلى اللّجوء لأشياء أخرى ولو كانت بعيدة ، ولكن يمكن بتضافرها أن تخلق شكوكًا عند بعض الناس وتدعم حججهم الأولى!
قال الأخ محمد مبارك في (فك الشيفرة) : ((كما لجأ إليه فردينان ديليسبس للتوسط من أجل إقناع العثمانيين بمشروع قناة السويس ـ والذي جلب الاستعمار الانجليزي فيما بعد ـ ، و لذلك فقد كان الأمير عبدالقادر في طليعة المدعوين في الحفل الأسطوري الذي صنعه الخديوي إسماعيل في عام1869 م احتفالا بافتتاح القناة)).انتهى

أقول : ما هو مصدر هذا الكلام العجيب المخالف لما هو ثابت في المراجع الكبيرة التي تحدَّثت عن قصّة شق قناة السويس؟
إنّ في هذا الكلام عدّة مغالطات! أوّلها الزعم أنّ فردينان دوليسبس لجأ إلى الأمير عبد القادر لإقناع العثمانيين بمشروع القناة.
وهذا طبعًا غير صحيح البتّة ولا دليل عليه . والحقيقة أنّ دوليسبس لجأ إلى الأمير سعيد باشا ابن محمد علي باشا حاكم مصر. والقصّة هي أنّ محمد علي باشا كان على صلة بالدبلوماسي ماتيو دوليسبس المقيم في مصر ، وكان ابنه الشاب فردينان صديقًا للأمير سعيد ومعلّمًا له. ودوليسبس له قرابة من الإمبراطورة أوجيني ، وكان يعمل في القنصلية الفرنسية وكان أبوه من قبله قنصلاً في القاهرة، فكان دوليسبس وهو صبي يختلط ببيت محمد علي وعرف معظم الأمراء الذين حكموا مصر بعد ذلك، وكان الأمير محمد سعيد الذي صار بعد ذلك واليًا على مصر من خاصة أصدقاء دوليسبس. وسبب اختصاصه به أنّ محمد علي غضب عليه فنفاه إلى باريس فلمّا قصدها وجد بيت دوليسبس أهلاً وسهلاً ، فكان يصحب دوليسبس ويرافقه أينما ذهب.[ عن مجلة الهلال . ملخصًا عن مقالة للمستر كرابيتس القاضيالأمريكي في المحاكم المختلطة نشرها في مجلة "آسيا"]
وسبق أن عرض الفرنسيون مشروع القناة على محمد علي فلم يقبل به (خشية طغيان الماء على البلاد) ، وبعد سقوط حكم نابليون وعودة أسرة دوليسبس إلى فرنسة عانت الفقر والضعف . وعندما وصل الأمير سعيد باشا إلى سدّة الحكم وصار خديوي مصر ، أسرع فردينان دوليسبس وسافر إلى مصر والتقى بصاحبه القديم الأمير سعيد وعرض عليه مشروع شق قناة سويس ، فما كان من الخديوي سعيد إلاّ أن وقّع وثيقة امتياز حفر القناة لدوليسبس وذلك سنة 1854م! (الأمير عبد القادر كان في ذلك الوقت مقيمًا في تركية بعد سنة من إطلاق سراحه). وبعد ذلك بسنوات أقرَّ السلطان العثماني الامتيازَ الممنوح لدوليسبس.
وبكلامٍ جامع يقول المؤرّخ الكبير محمود شاكر : ((وما إن تولّى ـ محمد سعيد ـ حتى عرضَ عليه صديقه المهندس الفرنسي فرديناند دولسبس مشروع قناة السويس فأعطاه امتياز ذلك ، ودولسبس ابن قنصل فرنسة في الإسكندريّة وصديق محمد سعيد منذ الطفولة ، غير أن هذا المشروع قد لقيَ معارضةً واسعة من قِبل الدولة العثمانية على اعتبار أن مصر ولاية منها ، وشجّع على ذلك الرفض الإنكليز الذين يخشون من النفوذ الفرنسي في مصر ، على حين تريد فرنسة بحصولها على هذا الامتياز أن يزداد نفوذها وتصبح المشرفة على طريق الهند . إلاّ أنّ نابليون الثالث إمبراطور فرنسة قد أيّد هذا المشروع بصورة تامّة ، ومشى وراءه بكل إمكاناته ، وحصل في النهاية على موافقة الخليفة)).انتهى[التاريخ الإسلامي 8/498]

والعجيب في كلام الأخ صاحب (فك الشفرة) أنّه جعل مشروع شق القناة تهمةً لأنّه كان سببًا في رأيه للغزو الإنكليزي!!
مع العلم أنّ سبب التدخل الأجنبي في شؤون الحكم بمصر ، والذي تلاه فيما بعد الغزو البريطاني ،لم يكن بسبب القناة وإنّما كان سببه تبذير وضخامة الإنفاق من الخزينة ، الذي مارسه الخديوي إسماعيل، وبدأ بالاستدانة من البنوك الغربية بفوائد ربوية فاحشة ، واضطر إلى بيع أسهم مصر من القناة فاشترتها إنكلترا ، وأصبح لها النفوذ القوي في مصر وازدادت الديون على مصر ، وبدأت الدول الأوربيّة تطالب بديونها ، فبدأ التدخل الإنكليزي بشؤون الحكم في مصر إلى أن انتهى بالغزو والاحتلال. [راجع تفاصيل الموضوع في التاريخ الإسلامي الجزء الثامن من ص500 إلى ص507].

وبفَرْض أنّ الأمير عبد القادر توسّط عند السلطان للقَبول بهذا المشروع ، فلماذا يرى البعض أن ذلك أمرٌ قبيح أو تهمة؟!
مصر كانت ولاية عربية مسلمة يحكمها مسلمون تابعون للسلطان العثماني ، فما المانع من إقامة مشروع قناة سويس الذي سيحسّن أوضاع تلك البلاد ويدرّ عليها المال؟! وهل إذا طمع الأعداء فيها بسبب مزايا تلك القناة، يعني عدم صحّة الشروع بها؟! لقد غزت الجيوش الفرنسية مصر واحتلتها قبل شق تلك القناة ، ثم تحررت البلاد ورجعت إلى أهلها ، وبعد ذلك غزتها الجيوش البريطانية ، وعادت وتحررت ، ومن حينها إلى اليوم مصر تنعم بالوارد المالي الضخم الذي تدرّه عليها تلك القناة، وتتبوّأ مكانةً عالمية مميزة بسبب ذلك.
على كل حال إن أوّل من تحقق على يديه شق قناة تصل بين البحر المتوسط والبحر الأحمر هو سنوسرت الثالث أحد فراعنة السلالة الثانية عشر (2000ـ1800 قبل الميلاد) ، ولمّا حكم ملك الفرس داريوس مصرَ سنة 510 قبل الميلاد أدخل على تلك القناة تحسينات كبيرة ، وفي سنة 285 قبل الميلاد أعاد حفر القناة كلها بطلميوس الثاني، وفي سنة 98 قبل الميلاد أعاد الرومان استعمال القناة بعد أن أُهملَت في أواخر عهد البطالسة.[الموسوعة العربية 11/364]
وأمّا في عهد المسلمين فتذكر الموسوعة العربية أنه : ((لمّا فتح العرب المسلمون مصر ، ووُلِّي عليها عمرو بن العاص (641ـ644م) ، خطر له أن يحفر قناة تصل مباشرة بين البحرين المتوسط والأحمر، وتشقّ السهل المنبسط القليل الارتفاع ، الممتد جنوبي "فرما" ، وهي مدينة كانت قائمة على مقربة من موقع بور سعيد الحالي . ولكن الخليفة عمر بن الخطّاب عارض هذا المشروع ، إذ جاء من يُنبّهه إلى أنّ شق البرزخ يُعرّض مصر كلها لطغيان مياه البحر الأحمر ، فأمر الخليفة بالاكتفاء بإعادة قناة الرومان القديمة ، لكي يتسنّى للسفن السفر إلى الحجاز واليمن والهند ، وبذلك أعاد العرب قناة الرومان إلى الملاحة من الفسطاط إلى القلزم ، في أقل من ستة أشهر (القلزم هو اللفظ العربي لاسم السويس القديم كليسما).
وقد سمّيت هذه القناة بقناة أمير المؤمنين ، واستُخدمت زهاء 150سنة ، لتنشيط التبادل التجاري بين البلاد العربية وأنحاء المعمورة كافة ، وخاصة لنقل الحجاج إلى بيت الله الحرام ، على أن الخليفة العبّاسي أبا جعفر المنصور أمر بردمها في نهاية القرن الثامن ، كيلا تستخدم في نقل المؤن إلى أهل المدينة الذين تمرّدوا على سلطته ، فتعطّلت بذلك الصلة مع البحرين مدة أحد عشر قرنًا.
وفي أثناء إقامة الفرنسيين في مصر ، إثر الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت ، درس المهندسون الذين رافقوا الحملة العسكرية ، النيل والبحر الأحمر وبرزخ السويس ، وبحث علماء الآثار عن بقايا الأقنية القديمة. ولم يكن من السهل على "دوليسبس" إقناع المسؤولين بفكرة فتح القناة ، بسبب المخاوف القديمة من طغيان مياه البحر التي كانت تراود أفكار الناس . واستمر دوليسبس في بذل مساعيه مستفيدًا من صداقته للخديوي محمد سعيد ، الذي أصدر فرمانًا في تشرين الثاني من عام 1854 يُعطي امتياز فتح القناة إلى دوليسبس ، وصدَّق الباب العالي امتياز القناة في تشرين الثاني 1858 ، وكانت مدة الامتياز 99 سنة.
ومع العقبات الكثيرة التي واجهت هذا المشروع ، فقد أمكن تدشينها في تشرين الثاني من عام 1869، وحضر الحفلة عدد من ملوك أوربا ، ومنهم الإمبراطورة أوجين زوجة نابليون الثالث وامبراطور النمسا وأمير بروسيا {ألمانيا}.
وبقيت القناة التي تمر عبر أراضي مصر ، والتي حفرتها أَيْدٍ عربية ، ملكًا لشركة السويس العالمية ، ومركزها باريس إلى أن أممتها الحكومة المصرية في 26 تموز 1956 {يعني قبل نهاية الامتياز بـ 12سنة}، فغدت شركة مصرية (عربية) وطنية)).انتهى[الموسوعة العربية 11/365]

إذن هذه قصّة قناة سويس ؛ وألفت انتباه القارئ إلى أنّ بعض الكتّاب يذكرون في كتاباتهم أنّ دوليسبس صديقٌ للأمير عبد القادر! وهذا خطأ أيضًا ، ولعلّ السبب في ذلك أنهم أثناء قراءتهم لتاريخ مصر في عهد محمد علي وابنه الأمير سعيد ، يكثُرُ الحديث عن الأمير وصديقه دوليسبس! ثم يأتي الحديث عن قناة سويس وعن حضور الأمير عبد القادر. فينصرف ذهنهم إلى أنّ المقصود بصديق دوليسبس هو الأمير عبد القادر مع أنّ المقصود هو الأمير سعيد باشا كما هو ظاهر في جميع النقول التي سقتها.
والعجيب من أولئك الكتاب إطلاقهم هذا الوصف (صديق الأمير) على بعض الأشخاص! فهل كل من يراسله الأمير أو يتصل به لسبب أو لآخر يكون صديقًا له؟ وكلمة صديق يستعملها العرب لدلالة معيّنة بخلاف الدلالة التي يريدها الأوربيون!

ولمزيدٍ من البيان أقول : إنّ معرفة الأمير بدوليسبس كانت بعد قناة السويس ، فبعد افتتاح هذه القناة ونجاحها والثناء العالمي عليها ، تحمّست فرنسة لإنجاز مشروع "البحر الداخلي الإفريقي" الذي يشتمل على أجزاء كبيرة من الأراضي التونسية والجزائرية ، وذلك في عقد السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن التاسع عشر ، ويقع حوض هذا البحر في المنطقة المحصورة بين خليج فابس على الساحل التونسي شرقًا ، وجبال أولاد نايل وهضبة ميزاب غربًا ، وجبال الأوراس والنمامشة وتبسّة والظهر التونسي شمالاً ، وجبال مطمامة والهقّار جنوبًا . ولكن سكّان تلك الأراضي ترددوا في قبول هذا المشروع وعارضوه ، لأنّ البحر المفتوح سيغمر قراهم وأراضيهم ، فلجأ أصحاب هذا المشروع ، وعلى رأسهم دوليسبس ، إلى الأمير عبد القادر الجزائري وتَرَجَّوْهُ أن يكاتب أهالي وسكّان تلك المناطق ليقنعهم بفائدة المشروع. وليس ذلك لأن دوليسبس والحكومة الفرنسية أصدقاء للأمير كما يزعم البعض! وإنما لما يعلمه هؤلاء من المكانة العظيمة والمنزلة الرفيعة التي للأمير عند شعبه في الجزائر ومدى تأثيره فيه ، على الرغم من كل الحواجز التي وضعتها واختلقتها فرنسة بين الأمير وشعبه!.
فلمّا اقتنع الأمير بجدوى هذا المشروع وما سيجلبه لبلاده من الخيرات الكثيرة في مستقبله المنظور ـ لأنّ الاحتلال الفرنسي لبلاده لن يدوم بل سيزول ـ كتبَ رسالة وأرسلها إلى الجزائريين يحثّهم فيها على تأييد هذا المشروع، وأوضح لهم الأهميّة التي ستنجم عن إنجاز هذا البحر ، ودعَمَ آراءه بآيات من القرآن الكريم ، وبأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ولكن عندما اطلع بعض الناس (من أصحاب فكر الاتهام والتشكيك في سلف الأمّة) بعد قرابة قرنٍ من وفاة الأمير على رأيه في المشروع أسرعوا وأطلقوا أحكامهم المنتقدة للأمير على موقفه هذا.
وقد تأثّر بعض الباحثين بهذه الانتقادات وبما كانت تروّجه بعض الكتابات الفرنسية ، ولكنه سرعان ما استدرك الأمر وصدع بالحق.
وأقصد بهذا المؤرّخ الأستاذ الدكتور يحيى بو عزيز رحمه الله ، الذي تعرّض لموضوع البحر الداخلي بالدراسة والبحث في عدّة رسائل ومحاضرات ثمّ جمع مضمونها في كتابه (مع تاريخ الجزائر في الملتقيات الوطنية والدُّولية) ومنه نقلتُ الموضوع ؛ يقول الدكتور يحيى بو عزيز معلّقًا على مراسلة الأمير للجزائريين بخصوص المشروع : ((.. وراسلهم وذلك مما يدل على بعد نظره وتفهّمه ، وإدراكه للأهمية الاقتصادية لهذا المشروع الضخم ، رغم أنه كان بعيدًا عن الميدان ، وليس صاحب اختصاص في الموضوع. وقد نشرنا عن هذا الموضوع دراسة وثائقيّة بمجلّة الأصاله انتقدنا فيها موقف الأمير ، ثمّ لمَّا تعمّقنا في الموضوع بالبحث والدراسة اكتشفنا أنه على حق ، فصححنا ذلك في الملتقى الثالث عشر للفكر الإسلامي بـ "تامنراست" عندما تناولنا هذا الموضوع بالبحث والدراسة من جديد)).انتهى[(مع تاريخ الجزائر) ص235]
رحِم الله الأستاذ بو عزيز ؛ وهذا الموقف منه يدلّ على حرصه وتمسّكه بالحق ، وسرعة رجوعه عن الخطأ بمجرّد ما لاح له الحق. وهذا هو دأب المنصفين والمتّقين من علماء المسلمين.
وقد أَسِفَ الدكتور يحيى بو عزيز على عدم إنجاز مشروع البحر الداخلي وتمنّى لو يُعاد النظر فيه اليوم ، فقال: ((إن مشروع هذا البحر الداخلي الإفريقي ، عظيم الأهمية ، كثير الفوائد والمزايا ويا حبّذا لو يُعاد التفكير في إنجازه مرة أخرى بعد أن تحررت شعوب المنطقة من الاستعمار الأوربي . فتسعى كلٌّ من تونس والجزائر ولربما ليبية ، لدراسته من جديد وفقًا للتطورات العلمية والتقنية الحديثة . وتعمل على إنجازه بواسطة الخبرة الدولية ، ورؤوس أموال الدول البترولية العربية الغنية التي تملك أرصدة ضخمة في البنوك الأجنبيّة الأوربيّة ، والأمريكية ، ولربما اليابانية كذلك.
إن هذا البحر ، رغم ما سيغمره من أراضٍ وقرى عمرانية كثيرة ، ستكون له آثار ونتائج إيجابيّة على مستقبل الصحراء وسكانها في الآماد البعيدة . لأنه سيقضي على الجفاف الحاد والعزلة الشديدة والتخلّف الفظيع . ويسمح للأساطيل البحرية أن تصل إلى أعماق الصحراء لإفراغ وشحن حمولاتها المختلفة ، وإيصال مرافق الحضارة إلى السكان العزّل بسهولة ، وييسر الاتصال بين أعماق الصحراء والعالم الخارجي.
وإذا ما أنجز هذا البحر الداخلي ، فإنه سيضاف إلى قائمة المنجزات العملاقة للجزائر ، وجيرانها من بلدان الشمال الإفريقي ، وسيقضي على خرافة التفوق الأوربي كذلك ، ويفتح المجال على مصراعيه للرأسمالية العربية لتستثمر في مشاريع التنمية الاقتصادية العربية الإسلامية ، بدلاً من استثمارها في مشاريع الأغنياء المترفين في أوربا وأمريكا ولربما اليابان)).انتهى[(مع تاريخ الجزائر) ص88]

فرحمة الله على الدكتور يحيى بو عزيز ، ورحمة الله على الأمير عبد القادر!

أمّا الشبهة قبل الأخيرة التي أثارها بعض الناس حديثًا حول الأمير فهي حقًا من أعجب الشُّبَه!!
ألا وهي النجمة السداسية الموجودة في شعار الختم الذي تُختم به بعض أوراق الأمير. وقد زعموا أنه ختم الأمير الخاص.
أقول : إنّ هذا الختم الذي يتحدّثون عنه ليس ختمًا خاصًّا بالأمير ، وإنما هو ختم الإمارة والدولة! وكانت الأوراق الرسمية (كالمعاهدات والمراسيم) تختم به في أعلاها ، وهو دائري الشكل مكتوب في محيطه البيت المشهور من قصيدة البردة للبوصيري :
((ومن تكن برسول الله نصرَتُه *** إنْ تَلْقه الأُسْد في آجامها تجِمِ)) وفي وسط الختم يوجد نجمة سداسية مرسومة بخطوط متقاطعة كتب في كل رأس من رؤوسها المثلّثة، على التسلسل ((الله ، محمد، أبو بكر ، عمر ، عثمان ، عليّ)) ؛ وفي وسط النجمة يرتسم الشكل المسدس المشهور لخلية النحل وكُتِب في وسطه : ((الواثق بالقوي المتين ، ناصر الدين ، عبد القادر بن محيي الدين))

وقد نصّ المؤرخون على كون هذا الختم خاصًّا بالإمارة الجزائرية [انظر على سبيل المثال كتاب (المقاومة الجزائرية تحت لواء الأمير عبد القادر) لإسماعيل العربي ص221].
وهذا الختم صنع سنة 1832م يعني قبل قيام إسرائيل بـ (116) سنة!
واليهود لم يتخذوا النجمة السداسية شعاراً لهم إلاّ بعد تأسيسهم لدولتهم المسخ!
وأمّا الماسون قبل الكيان الصهيوني فكان في شعاراتهم النجمة الخماسية وما زالت!
فكان على مثيري هذه الشبهة أن يتّهموا كل مَنْ في شعاره أو ختمه أو علم بلاده أو نقوشه ورسومه نجمة خماسية أنه ماسوني! لأنّها شعار للماسونية منذ نشأتها إلى اليوم بخلاف السداسية. وطبعًا هذا ضربٌ من الجنون أيضًا!
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري : ((من رموز الماسونية: المثلث، والفرجار، والمسطرة، والمقص، والرافعة، والنجمة الخماسية، والأرقام 3 و5 و7)).انتهى[موسوعة اليهود 5/380] ؛ ولم يذكر النجمة السداسية.
والنجمة السداسية هي شكل هندسي مشهور وكان يُعدُّ شعارًا لشمال إفريقية ، ويمكن للناظر أن يجده منقوشًا أو مرسومًا في الكثير من الأبنية القديمة الباقية في الجزائر أو المغرب أو تونس ومصر...
وكذلك يمكن أن يراه في الأبنية العثمانية الموجودة في شمال إفريقية أو في المشرق أو في تركية.
وعندنا هنا في دمشق نرى النجمة السداسية موجودة في معظم الأبنية العثمانية كالمساجد أو التكايا، وهي ظاهرة بوضوح ولونها أسود . هذا عدا النجمات السداسية المتشكلة من الرسوم والنقوش الهندسية المعروفة بـ (خط النقش العربي) والتي تظهر بوضوح في قطع الأثاث المصنوع من "الموزاييك" وكذلك في الجدران والأسقف الخشبية التي تزين بها الأبنية الفخمة .
وأكثر من ذلك: فإن كل أحد يستطيع أن يرى النجمة السداسية المفردة بكل وضوح على مآذن الجامع الأموي بدمشق ؛ والذي بناه الأمويون قبل ثلاثة عشر قرنًا!!
وإنّ بعض ملوك وسلاطين المغرب وعلمائه أيضًا ، اتّخذوا لأنفسهم أختامًا شخصيّة شعارها النجمة السداسية ، وهذا قبل عصر الأمير عبد القادر. والناظر في كتب التراجم المصوّرة يقف على بعض هذه الأختام والشعارات. وأضرب لكم مثالاً على ذلك ، الختمَ الخاص لسلطان المغرب سليمان بن محمد ويمكن رؤيته في موسوعة "الأعلام" للزركلي. وإليكم ترجمة هذا السلطان:
قال الزركلي: ((المولى سليمان (1180- 1238 هـ = 1766- 1822م) سليمان بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل، أبو الربيع، الشريف العلوي: من سلاطين دولة الأشراف العلويين في مراكش.
بويع بفاس سنة 1206هـ ، بعد وفاة أخيه المولى يزيد. وامتنعت عليه مراكش، فزحف إليها سنة 1211هـ ، فبايعه أهلها.وأقام فيها مدة ثم استوبأها، فانتقل إلى مكناسة، وتوفي بمراكش.
كانت أيامه كلها أيام ثورات وفتن وحروب، انتهت باستقرار الملك له، في المغرب الأقصى.
وكان عاقلاً باسلاً، محبًا للعلم والعلماء، له آثار في عمران فاس وغيرها، قال الكتاني: كان من نوادر ملوك البيت العلوي في الاشتغال بالعلم وإيثار أهله بالاعتبار. له حواش وتعاليق على الموطأ والمواهب)).انتهى
وقال عبد الحيّ الكتاني في "فهرس الفهارس" مترجمًا له: (( الفقيه البياني النحرير الناسك، له حواش وتعاليق على الموطأ وشرحها للزرقاني والمواهب وغيرها، وحاشية عليّ الخرشي في مجلدين، حلاّه أبو التوفيق الدمنتي في فهرسته بـ "السلطان الجليل، العلامة النبيل، الشريف الأفضل، الحجة الأكمل".... وقال القاضي ابن الحاج في "الأشراف" : " كان لا يجالس إلا الفقهاء، ولا يبرم أمراً من أمور مملكته إلا بعد مشاورتهم ولا يقبل منهم إلا النص الصريح، ويبالغ في الثناء عليهم وتعظيمهم وصلتهم ومودتهم وتفقد أحوالهم وأحوال كل من له صلة بهم"اهـ. وكان له اشتغال بقراءة التفسير والحديث غريب، انقطع لذلك وعكف عليه)).انتهى

ولم يكن أحد في السابق ينفر من هذه النجمة أو يستهجن وجودها قبل قيام دولة إسرائيل وجعلهم تلك النجمة شعارًا لهم . ومع ذلك فإنّ اليهود يرسمون شعارهم على شكل مثلثين متداخلين غير متحدين فيظهر الشكل يشبه النجمة السداسية .
وأمّا الماسون فهم لا يتخذون من النجمة السداسية شعارًا لهم وإنما شعارهم الفرجار والزاوية القائمة، وهم يرسمونه بحيث تتداخل الزاوية القائمة مع الفرجار فيظهر بشكل يشبه النجمة السداسية، وذلك لأنهم يرمزون بهذا الشكل إلى زعيمهم الذي يدعونه بـ "مهندس الكون الأعظم"
فليس من المقبول عقلاً أن يُقال إن دولة الأمير اتخذت رسم النجمة السداسية ضمن خاتمها الرسمي تشبّهًا باليهود أو تقليدًا لهم . واليهود لم يتخذوا ذلك الشعار إلاّ بعد أكثر من قرن من تصميم ختم الإمارة الجزائرية. ليس ذلك فحسب بل إن قائل ذلك لا يتهم الأمير وإنما يتهم كل الدولة الجزائرية في ذلك الوقت : القواد العسكريين والوزراء والخلفاء والشيوخ والشعب عامّة.
وكل ما في الأمر أنه رسم هندسي لا علاقة له بأي جهة لا من قريب ولا من بعيد .
أمّا الأمير عبد القادر فاتخذ لنفسه خاتمًا شخصيًا يختم به رسائله أو إجازاته . وهو ختم دائري صغير مكتوبٌ فيه : (عبد القادر بن محيي الدين) وكان يختم به الرسالة في نهايتها آخر الصفحة ، بخلاف ختم الإمارة الذي يوضع في رأس الصفحة . وختم الأمير الخاص لا يوضع إلا في نهاية الرسائل أو الإجازات.

وأمّا آخر شُبهة وقفتُ عليها في اتهام الأمير، فهي ما ذكره الأخ صاحب"فك الشفرة" بقوله : ((كما قام بإنشاء مصرف دولي كان يموّل الطريق التي تربط ما بين دمشق وبيروت، ومن خلاله قام باستقبال أسرة آل روتشيلد اليهودية العالمية المُريبة "صانعة الملوك")).انتهى

أقول : هذا الكلام باطلٌ جملةً وتفصيلاً! وأنا لم أقف عليه في أي مرجع ولم أسمعه من أي شخص عارف مطلع ، وأوّل مرّة سمعت به كان على لسان الفرنسي"برونو إيتيان" في الفيلم المُغرض الذي بثّته وتبثّه القناة المشبوهة "العربية"! ويبدو أنّ الأخ محمد مبارك اعتمد عليه كسائر الأقوال التي اقتبسها من هذا الفيلم! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكل معطيات هذا الكلام مردودة بالوقائع الثابتة!
إنّ مهمّة إنشاء الطرق بين المدن والولايات والإنفاق عليها هي من صلاحيات الحاكم أو الوالي وبموافقة الباب العالي، ويُرصد لها ميزانيّة كبيرة ؛ فكيف يُنسب هذا المشروع ـ شق الطريق بين دمشق وبيروت ـ إلى الأمير عبد القادر الذي لا يحمل أي صفة رسمية في الدولة؟ ومن أين للأمير أن يموّل مثل هذا المشروع وهو يحصل على مرتب شهري من الحكومة الفرنسية ، وعطاءات من السلطان العثماني؟
وحقيقة الأمر أنّ الذي قام على مشروع الطريق بين دمشق وبيروت إنما هو "رشدي شرواني باشا" والي دمشق العثماني (من 1277 إلى 1280هـ تقريبًا) وفتحُ هذا الطريق يُعدُّ من منجزاته وآثاره. هذا ما تذكره المراجع التاريخية المتخصصة في هذا الشأن : قال أديب تقي الدين في "منتخبات التواريخ لدمشق" : ((ثم جاء رشدي شرواني باشا ، وهو من المطلعين على حقائق هذه البلاد ، لأنه كان في معيّة فؤاد باشا بعمامة بيضاء سالكًا سلوك العلماء ، وهو من أعضاء مجلس فوق العادة ، ومن المريدين لهذه البلاد الإصلاح والسعادة ، فانتفع به الوطن وحَمِدَ الناسُ أيّامَ ولايته ، وأبقى من الآثار الحسنة ما يستوجب عليه الثناء لأنه كان فخر الأمراء وعين العلماء . وكان متقلدًا لمنصب الصدارة ، وفي زمنه صار تشكيل الولايات ، وطريق "الشوسة" بين بيروت ودمشق)).انتهى [منتخبات التواريخ 1/269] ؛ و"الشوسة" اسم الشركة التي شقت الطريق.

والقارئ لتراجم وسِيَر الولاة العثمانيين على مدينة دمشق يرى أنّ شق الطرق وإصلاحها وبناء المدارس ومدّ الأسلاك البرقية وبناء الجسور وغير ذلك إنما هو من مهامهم ، وتمويله يكون من خزينة الولاية! والدولة العثمانية كانت تستعين بشركات أجنبية إيطالية وألمانية وغيرها لإنجاز كثير من تلك المشاريع. (من بين تلك المشاريع إنشاء شبكة للاتصالات البرقية بين دمشق والمدينة المنورة).

ولكن الأمر العجيب الذي لا أدري كيف استساغه الأخ محمد مبارك أو غيره ممن خاض في هذا الموضوع ، هو زعمه أنّ الأمير أنشأ مصرفًا دوليًا للتمويل ومن خلاله استقبل آل روتشيلد!!

فإمّا أنه غاب عنه معنى مصرف دولي أو أنه غاب عنه ما معنى آل روتشيلد!
الأمير عبد القادر كان ميسور الحال ، هذا صحيح ، ولكن هذا لا يعني أنّه كان من عمالقة الرأسماليين بل ولا من صغارهم. فدخله الشهري يكاد لا يبقى منه شيء آخر الشهر فهو يخصص منه مرتبات ثابتة لعشرات العلماء ولأبنائهم وكذلك لأُسَر الفقراء وللأعمال الخيرية ، وطبعًا لأسرته وعائلته ، وتحدّثنا بشيء من التفصيل عن وضعه المالي في حلقات سبقت فيمكن الرجوع إليها.
كانت تأتيه السندات المالية (الكمبيالات) بمرتبه الشهري ، ويقوم ببيعها إلى صرّاف في بيروت وكانت قيمة السند تساوي (12,375) فرنك فرنسي!!
فرجل هذا هو دخله الشهري ، كيف يمكن له أن يؤسس مصرفًا دوليًا أو يموّل مشروعًا بملايين الفرنكات؟! (وللفائدة فإن تَرِكَة الأمير المالية ليس فيها مصارف ولا بنوك ولا أموال نقدية كبيرة ، وإنما هي دُوْرُه وأراضيه)
أمّا آل روتشيلد : ((فهم عائلة من رجال المال ويهود البلاط الأوربي الذين تحوَّلوا بالتدريج إلى رأسماليين من أعضاء الجماعات اليهودية. واكتسب نيثان ماير روتشيلد مكانة مرموقة في عالم المال أثناء الحروب النابليونية حيث ساهم في تمويل إنفاق الحكومة الإنجليزية على جيشها في أوربا، واستعان في ذلك بأخيه جيمس روتشيلد المقيم في فرنسة، كما ساهم في تمويل التحويلات البريطانية إلى حلفائها في أوربا. وقد استطاعت عائلة روتشيلد، خلال تلك الفترة، تدبير ما يقرب من 100 مليون جنيه إسترليني للحكومات الأوربية. وبعد الحرب، كانت هذه العائلة هي الأداة الرئيسية في تحويل التعويضات الفرنسية إلى الحلفاء وفي تمويل القروض والسندات الحكومية المخصصة لعمليات إعادة البناء. وأكسبته هذه المعاملات المالية مكانة متميِّزة في جميع أنحاء أوربا ودعمت مركز مؤسسته كواحدة من أبرز المؤسسات المالية الأوربية في تلك الفترة.
ولـ "ليونيل روتشيلد" أعمال مالية شهيرة : من بينها تدبير قرض قيمته 16 مليون جنيه لتمويل حرب القرم (التي خاضتها الدولة العثمانية مع حلفائها بريطانيا وفرنسة لمواجهة روسيا). كما قدم ليونيل التمويل اللازم لدزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا، الذي كانت تربطه به صداقة وثيقة، لشراء نصيب مصر في أسهم قناة السويس عام 1875، وهي عملية تمت في كتمان وسرية تامة بعيداً عن الخزانة البريطانية، ولم يُبلَّغ البرلمان البريطاني بها إلا بعد إتمامها. ولا شك في أن مساهمة بيت روتشيلد في تقديم القروض للخديوي إسماعيل ولأعيان مصر، وما تبع ذلك من تَضخُّم المديونية المالية لمصر، ثم ما جر ذلك وراءه من امتيازات أجنبية ثم تَدخُّل بريطاني في آخر الأمر بحجة الثورة العرابية، كل ذلك تم في إطار المصالح الإمبريالية الرأسمالية التي كانت تسعى لفصل أهم أجزاء الإمبراطورية العثمانية عنها تمهيداً لتحطيمها وتقسيمها.
وقد اشترك ليونيل روتشيلد أيضاً في إقامة السكك الحديدية في فرنسة والنمسا ....
وأما جيمس ماير دي روتشيلد فكان مقرباً لملك فرنسة لويس فيليب حيث تولى إدارة استثماراته المالية الخاصة، كما قدَّم قروضاً عديدة للدولة. كما شارك مدة طويلة من عمره في رسم السياسة الخارجية الفرنسية. وفي أعقاب ثورة 1848، استمر بيت روتشيلد في تقديم خدماته المالية وقام بتدبير القروض لنابليون الثالث....
وشارك بيت روتشيلد في تمويل الجيوش والحروب، وفي تسوية التعويضات والديون، وفي تمويل مشاريع إعادة بناء ما دمرته الحروب وفي تقديم القروض للعديد من الملوك والزعماء، وفي تمويل المشاريع والمخططات الاستعمارية والتي كان المشروع الصهيوني في فلسطين في نهاية الأمر يشكل جزءاً منها)).انتهى[باختصار من موسوعة اليهود للمسيري 3/88]

إذن فآل روتشيلد كانوا يموّلون الحروب والجيوش والمشاريع الضخمة في أوربة ، وكانت الدول العظمى كبريطانية وفرنسة تقترض من بنوك آل روتشيلد عشرات الملايين من الجنيهات ، وبلغت بعض القروض الممنوحة لعدة حكومات أوربية مئة مليون جنيه إسترليني ، وكانت مصر ترزح تحت وطأة ديونها العائدة لمؤسسات روتشيلد ، بل إن الدولة العثمانية ترتبت عليها ديون كبيرة لبنوك آل روتشيلد! فكيف صدّق الأخ صاحب "فك الشفرة" بأن الأمير يمكن أن يؤسس مصرفًا دوليًا، يستقبل من خلاله أسرة آل روتشيلد؟! والأمير كان يحصل على مرتبه من نابليون الثالث الذي كان يقترض لدولته من مؤسسة آل روتشيلد!!!
وللفائدة أذكره بأنّ توجهات أسرة آل روتشيلد في حياة الأمير عبد القادر لم تكن صهيونية!
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري : ((ومن الجدير بالذكر أن عائلة روتشيلد، مثلها مثل غيرها من عائلات أثرياء اليهود المندمجين في المجتمع البريطاني، كانت في البداية رافضة لصهيونية هرتزل السياسية بسبب تَخوُّفهم مما قد تثيره من ازدواج في الولاء، وهو ما يشكل تهديداً لمكانتهم ووضعهم الاجتماعي. وقد ساهمت العائلة في تأسيس "عصبة يهود بريطانيا المناهضة للصهيونية". لكن هذا الموقف تبدَّل فيما بعد حيث تبيَّن أن وجود كيان صهيوني استيطاني في المشرق العربي يخدم مصالح الإمبراطورية البريطانية، وذلك إلى جانب أن الصهيونية كان يتم تقديمها في ذلك الوقت كحل عملي لتحويل هجرة يهود شرق أوربا إلى فلسطين بعيداً عن إنجلترا وغرب أوربا)).انتهى[موسوعة اليهود 3/89 ـ90] ؛ توفّي الأمير ، وهرتزل عمره عشرون سنة!

وختامًا أقول: أرجو أن أكون قد وفّقت في رد الشبهات المثارة حول شخص الأمير عبد القادر الجزائري ، تلك الشبهات التي ما كان لها أن تجد مجالاً للقَبول أو الانتشار لو أنّ المتلقّين لها كانوا على شيء من الاطلاع أو المعرفة بتاريخ تلك الحقبة ، فضلاً على تاريخ الأمير عبد القادر وسيرته ، أو أنّهم تريّثوا وتبيّنوا قبل أن يقبلوها ويروّجوا لها.
وللَّذين يريدون معرفة سيرة الأمير عبد القادر الجزائري أقول: إنّ هذه الحلقات ليست السبيل إلى ذلك ، فأنا في هذه الحلقات كنتُ معنيًّا ببحث الشبهات والتهم ثم معالجتها وردّها . ولم أتطرّق إلى سيرة الأمير إلاّ عَرَضًا ولضرورات البحث. وإنما السبيل إلى ذلك هي قراءة الكتب والمراجع المتخصصة في هذا الشأن. وليس من ترجمة وسيرة الأمير التي تنشر في الإنترنت ويتناقلها الجميع وينشرونها في منتديات ومواقع كثيرة ، وهي ترجمة غير دقيقة بل فيها الكثير من الخلل ، ومع ذلك فهي لا تتعرض لتفاصيل سلوك وأخلاق ومبادئ الأمير. ولعلّي في القريب إن شاء الله أضع لكم ترجمة عن حياة هذا الرجل من المراجع الموثوقة تُبيّن بوضوح خصاله وشمائله.
وكنت أود أن أتطرّق إلى كشف حقيقة بعض الكتب التي تعرّضت للحديث عن الماسونية والتحذير منها وأورَدَت أسماء بعض رجالات العرب والمسلمين ضمن المنتسبين إليها في محاولة للتشهير بهم! ولكن أرجأت هذا إلى وقت آخر خشية التطويل.
بقي أمر وهو أنني سأنهي قريبًا بحثي في كتاب "المواقف" وديوان الأمير ، وسيأتيكم في رسالة مستقلة في أقرب فرصة إن شاء الله.

والحمد لله أولاً و آخرًا ، وأشهد ألا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله ، وأستغفر الله العظيم من كل خلل أو زلل. {ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}

خلدون بن مكّي الحسني


دمشق أول المحرّم 1430هـ


****************************** ***********


([1])مثال على ذلك ما يفعله مدير الفضائية العربية من تكرير عرض فيلم الأمير عبد القادر ووصفه بالماسوني! مع أنّ مدير تلك القناة هو أنسب بذلك الوصف وأفعاله أكبر شاهد لا على ماسونيّته بل على ما هو أسوء منها!!
وعند الله تجتمع الخصوم ... [ وداعا ]

أيّ عذر والأفاعي تتهادى .... وفحيح الشؤم ينزو عليلا

وسموم الموت شوهاء المحيا .... تتنافسن من يردي القتيلا

أيّ عذر أيها الصائل غدرا ... إن تعالى المكر يبقى ذليلا


موقع متخصص في نقض شبهات الخوارج

الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية عرض وتفنيد ونقض
نقض تهويشات منكري السنة : هدية أخيرة

الحداثة في الميزان
مؤلفات الدكتور خالد كبير علال - مهم جدا -
المؤامرة على الفصحى موجهة أساساً إلى القرآن والإسلام
أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية
مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة

  • ملف العضو
  • معلومات
The pink panter
عضو نشيط
  • تاريخ التسجيل : 28-02-2009
  • الدولة : الأرض
  • المشاركات : 96
  • معدل تقييم المستوى :

    16

  • The pink panter is on a distinguished road
The pink panter
عضو نشيط
  • ملف العضو
  • معلومات
غمارى احمد
عضو نشيط
  • تاريخ التسجيل : 25-05-2008
  • المشاركات : 39
  • معدل تقييم المستوى :

    0

  • غمارى احمد is on a distinguished road
غمارى احمد
عضو نشيط
Re: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر .. خلدون مكي الحسني
09-07-2010, 05:48 PM
السلام عليكم شكرا لك الاخ الدكنور المكي الحسني عن ردع كل الشبهات عن الامير عبد القادر المجاهد الدب مازال بعرف لدى شيوخ الجزائر بالحاج عبد القاد و على مساهمتك في اثراء الموضوع في قناة المستقلة ايضا سيدي الكريم ان اكزاقي ياكونو معروف بكتاباته الصهيونبة حاصة حول يهود الجزائر و المكاتب العربية و شارل اندري جوليان في كتابه الجزائر المعاصرة زور وثيقة عت الامير طالب فسها ثوار 1870 بالقاء السلاح و رد عليه د ابو القاسم سعد الله بان هدا كلام خطير في كتايه ابحاث و اراء في تاليخ الجزائر و عت ماسونية الامير لابد ان يناقش الموضوع في اظار قانون التجنس المعروف بالمشروع النابليوني الصادر عام 1865 و موقف الامير منه لانه رفض اعطاء الجنسية الفرنسية للمسلمين الجزائرين لانها لا تتناسب مع الاحوال الشخصية الاسلامية ادن ماهو موقف الامير من هدا المشروع
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع
الأمير عبد القادر بن محي الدين
فك الشفرة الجزائرية
الساعة الآن 07:59 AM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى