قصة خلق العالم في ستة أيام
02-03-2020, 01:24 PM
اليوم الأول:
يوم الانفجار الأعظم:

في البدء كانت نقطة مادية خارج حدود الزمان و المكان لا نعرف ما كان قبلها، بل كانت كل مادة الكون و طاقته مختزنة فيها، ثم، و لسبب نجهله، و ربما سنظل نجهله انفلقت هذه النقطة في انفجار أعظم من أن يتكرر ثانية ما دام العالم. يسمى هذا الفَلَق في الأدبيات العلمية بالانفجار الأعظم (The big bang)، و مع بداية الانفجار بدأت ساعة الزمن تدق و بدأت أشلاء المادة تتباعد لتصنع المكان من العدم، لقد أخذ المكان يتمدد و يتسع في ذاته و يصنع ما نسميه اليوم بالسماء، و الآن و أينما كنا فإننا سنعود إلى النقطة التي بدأ منها العالم فيما لو قدر لنا أن نعود بالزمن حوالي 13.8 مليار سنة إلى الوراء. لا يستطيع أحد القول بما حدث قبل الثانية الأولى من عمر الكون، فهذه الحقبة لا تنطبق عليها قوانيننا الكونية المعروفة.

اليوم الثاني:
انبعاث أولى خيوط النور:

يبدأ هذا اليوم بعد ولادة الكون ب 380.000 عام، كان الكون آنذاك قد تبرد إلى حوالي 3000 درجة كلفن (حوالي 2700 درجة مئوية) مما سمح لإلكترونات المادة أن تنجذب إلى بروتوناتها لتظهر ذرات المادة لأول مرة و هي في حالة هياج شديد أدى إلى انبعاث سيالة من الفوتونات المرئية منها، فظهرت أولى أشعة النور، و مع استمرار اتساع الكون انتشرت هذه الفوتونات على صفحته مخلفة ما يعرف ليوم بالخلفية الكونية الإشعاعية (Cosmic Microwave Background) أو CMB اختصارا. هذه الخلفية الإشعاعية هي أهم ما بقي لنا من أثر من يومي الخلق الأول و الثاني!


تُظهر هذه الخريطة انبثاق النور أول مرة في الكون، أو ما يسمى بالخلفية الكونية الإشعاعية، مطبوعًا على السماء عندما كان عمر الكون 380.000عاما. يُظهر المخطط تقلبات ضئيلة في درجات الحرارة تتوافق مع اللون، فالمناطق الزرقاء أكثر المناطق برودة و ذات كثافة مادية أكبر نسبيا بعكس المناطق الصفراء، هذه الخريطة ستحمل بذور بنية العالم في السنين التي تلتها و كيف ستتوزع النجوم والمجرات بعد ذلك.

اليوم الثالث:
ولادة أولى النجوم منهية حقبة الظلام:

بعد حوالي 400 مليون سنة من توسع الكون في أعقاب الانفجار الأعظم ، انخفضت حرارة الكون إلى الحد الذي سمح باندماج سحب الهيدروجين و تحولها إلى نجوم بفعل التفاعلات النووية بين ذراتها، لقد أنهى النور الذي بثته النجوم لأول مرة عصر الظلام و سجل نقطة تحول في حياة الكون، فمنذ هذه اللحظة سيتخذ الكون شكله المميز المعروف لنا اليوم بمجراته التي تحوي مليارات من النجوم تحيطها مليارات أخرى من الكواكب التي كان بعضها كالأرض مثلا يستعد لاحتضان الحياة على سطحه.
للنجوم دور هام في الطبيعة، فهي فضلا عن كونها مصابيح تنير ظلمة الكون، ففي أتونها النووي المستعر تُصنع كافة العناصر الطبيعية الثقيلة بدءا من الهيدروجين، كالهليوم و النيون و الكزينون و الصوديوم و البوتاسيوم ... و حتى المعادن الثقيلة كالقصدير و النحاس و الحديد... كذلك تلد النجومُ الكواكبَ من مادتها التكوينية، وتوفر الطاقة لتلك الكواكب، الأمر الذي تقوم به شمسنا مثلا بالنسبة للأرض، فما أروع النجوم!

اليوم الرابع:
ولادة النظام الشمسي و بدء الحياة على الأرض:

مرت أكثر من تسعة مليارات سنة أرضية بعد ظهور الكون من العدم لتأخذ الشمس و معها كواكبها و أهمها الأرض بالظهور من بين سحب الهيدروجين المتراكمة في السماء. ليست كل النجوم شبيهة بالشمس، فمنها ما هو أصغر و منها ما هو أكبر، كما أن النجوم تختلف في ألوانها بين الأبيض و الأصفر و الأحمر كما تختلف اللآلئ الثمينة في ألقها و ألوانها، ما عليك إلا أن تتأمل السماء الصافية من خلال تلسكوب حديد الرؤيا لتتمتع بمنظر هذه الكنوز على صفحة السماء. أما الأرض هذا الكوكب الجميل الذي يملك جميع المقومات اللازمة لنشأة الحياة فيكاد يكون نادرا بمقوماته هذه بين مليارات الكواكب المنتشرة في الكون، هذا لا يعني عدم احتمال وجود حياة ذكية على كواكب بعيدة أخرى و إن كنا لا نستطيع توثيق ذلك بعد.
يشير تحليل نظير الكربون رقم 12 في الصخور القديمة إلى أن الحياة بدأت على الأرض منذ حوالي 3.8 مليار عام بشكل بدائي من تجمع بعض الأحماض النووية، لكن الآلية التي تجمعت بها هذه الأحماض و أدت إلى نشأة الحياة مازالت غامضة، لقد شوهدت مثل هذه الجزيئات العضوية في أماكن أخرى غير الأرض، فقد عُثر عليها في التواقيع الطيفية للنجوم وسحب الغاز، كما احتوى نيزك (مورتشيسون) الذي سقط على الأرض في عام 1969 على 92 حمضا أمينيا مختلفا، معظمها لم يشاهد له مثيل على وجه الأرض من قبل، لكن لغز أصل الحياة ما زال غامضا، فكيف تتحول سلسلة من الأحماض الأمينية (هكذا)، إلى كائن حي مزود بنظام للتمثيل الغذائي الذي يتحول إلى طاقة و نظام وراثي يخزّن المعلومات على أشرطة عضوية دقيقة و ينقلها من جيل إلى آخر ويوجه بناء البروتينات ، وينظم كل وظيفة من وظائف الكائن الحي ، ويكرر نفسه بين أفراد الأنواع الحية المختلفة دون أخطاء .
لم تسلم الحياة على الأرض من المنغصات، فقد تعرضت لعصور جليدية طويلة، كما أدى ارتطام الأرض بالمذنبات الضخمة الهابطة من السماء إلى انقراض السلالات العملاقة من الديناصورات التي عاشت عليها في الأحقاب الغابرة، لكن الحياة كانت تصمد و تخرج منتصرة من الأزمات كل مرة، و تعود لتظهر بأنواع و أشكال جديدة متلائمة مع ما يستجد على البيئة من تغيرات، كل هذا مهّد لظهور ما يشبه الإنسان الحالي منتصب القامة قبل أكثر من 2 مليون عام.

اليوم الخامس:
ظهور أشباه البشر الحاليين:

ظهرت سلالات شبيهة بالبشر، كانوا عقلاء و أذكياء للغاية ، في جميع أنحاء آسيا الوسطى وأوروبا ، أما أبناء عمومتهم الذين بقوا في أفريقيا فقد تطوروا إلى الإنسان الحديث. بدأ البشر في مغادرة إفريقيا و الانتشار في العالم قبل حوالي 100.000 عام. يمتلك علماء الآثار اليوم أدلة قوية تشير إلى طفرة مذهلة في الذكاء البشري منذ حوالي 100.000 إلى 60.000 عام. لقد تهيأت الأحوال تمهيدا لظهور الحضارة الإنسانية الحديثة.

اليوم السادس:
مغامرات العقل الأولى و بدء الحضارة الإنسانية:

لم تظهر بوادر الحضارة الأولى إلا منذ حوالي 10.000 عام عندما بدأ الناس في الشرق الأوسط بزراعة المحاصيل الصالحة للأكل قرب مجاري الأنهار الكبرى الأمر الذي تطلب أن يبقوا في مكان واحد قرب محاصيلهم ، واستعيض تدريجياً عن نمط الحياة البدوية المتنقلة بمخيمات دائمة أدت إلى معيشة أكثر استقرارًا، تصاحب ذلك بتدجين الحيوانات للاستفادة منها كوسائل نقل أو مصادر للطعام و الكساء، فظهرت مستوطنات دائمة كبيرة مثل أريحا و قونيا في الآثار الأحفورية. لم تكن هذه (المدن الأولى) مدنًا حقيقية بعد ، ولكنها أشبه بالمجموعات غير المنظمة من القرى التي لا توجد فيها سوى علامات قليلة على العلاقات الاجتماعية أو الثروة أو أنظمة الحكم. أما القفزة الحضارية الكبرى فقد بدأت مع بداية التجارة بين الشعوب.


آثار من فجر الحضارة الإنسانية في قونيا-تركيا

لقد ظهرت آثار مدائن الحضارة الحقيقية الأولى منذ حوالي 5200 سنة في عدة أماكن في جميع أنحاء الشرق الأوسط عندما أظهرت الأحافير الأركيولوجية دليلًا واضحًا على ظهور التقسيم الطبقي الاجتماعي والنخبة الحاكمة التي تملك الثروة والسلطة و هكذا بدأت الحضارة الإنسانية تحبو.
مع اختراع الكتابة و البدء بتدوين المعارف الإنسانية ولدت معظم خصائص عالم اليوم ، بما في ذلك الحكومة المركزية التي تقوم على السلطة و الجيش، و المؤسسات و الدين والنظام الأبوي والنظم النقدية و الثراء الفاحش والفقر المدقع، والزراعة على نطاق واسع والشبكات التجارية والإمبراطوريات الكبرى، ثم امتدت الحضارة الإنسانية لتظهر في العديد من المواقع الأخرى في جميع أنحاء العالم بما في ذلك الصين والهند ومصر وبيرو وكريت والمكسيك.
لم يتغير نمط الحضارة الإنسانية هذا في سماته العامة خلال 5000 سنة الماضية باستثناء ما طرأ على الأسماء والأماكن من تغيير، فماذا عن المستقبل؟
و أخيرا: يوم الارتحال عن الأرض:
على البشر ترك الأرض خلال القرنين المقبلين إذا أرادوا النجاة، . كان هذا آخر تحذير صدر عن عالم الفيزياء النظرية المرموق (ستيفن هوكينغ) في الأشهر التي سبقت وفاته عام 2018*، فهوكينغ الذي يعد من أشهر علماء الفضاء في عصره، اعتقد أن الحياة على الأرض قد تنتهي بكارثة مثل أن ترتطم الأرض بنيزك ضخم كما حدث في السابق، أو أن يسيطر الآليون (أو الذكاء الصناعي) على البشر، أو حتى أن تغزو الأرض مخلوقات فضائية من كواكب أخرى. كما حذر من أن الزيادة السكانية وعدائية البشر وتغير المناخ يمكن أن تتسبب بدمار الحياة على الأرض، واعتقد أنه إذا كان لدى جنسنا فرصة في النجاة، فهي تحتاج لإنشاء حياة جديدة في الفضاء. وكان من بين أكثر ما يخشاه هوكينغ بالنسبة للأرض هو الاحتباس الحراري، حيث حذر منه بقوله "إن مواردنا الطبيعية تُستنزف بمعدل مثير للقلق" وإننا "نمنح كوكبنا هدية تغير المناخ الكارثية". وقال إن الأرض ستبدو في يوم ما مثل كوكب الزهرة الذي تبلغ درجة حرارة سطحه 460 درجة مئوية إذا لم نوقف انبعاث غازات الدفيئة. و نوه إلى أن هذا ليس بخيال علمي، وإنما أمر تحكمه قوانين الفيزياء و الاحتمالات وأن البقاء على الأرض يعرض البشرية لخطر الفناء.
الواقع أنه، و بعيدا عن التشاؤم المرعب الذي تثيره مثل هذه التنبؤات، فهناك خلف حدود مجموعتنا الشمسية، تقع مجرتنا النجمية المسماة (درب التبانة) التي تحوم فيها مليارات الكواكب حول مليارات النجوم، و لا نستبعد أبدا أن يكون أحد هذه الكواكب صالحا لبدء الحضارة الإنسانية عليه من جديد، و لن تخون الشجاعة إنسان المستقبل في ارتياد هذه الكواكب البعيدة و استعمارها.
__________________________________________________ ________________________________
*. التحذير الأخير لهوكينغ.. غادروا الأرض أو الفناء، المصدر : الصحافة البريطانية