لمحات من الضوء على أعمال المستشرقين
10-11-2016, 02:22 PM
لمحات من الضوء على أعمال المستشرقين



الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:



بين يدي المقال بقلم الأخ الفاضل:" نجيب بن منصور".
جاءت فكرة طرح المقال بعد إتمام قراءة كتاب العلامة:" محمود شاكر" رحمه الله الموسوم ب:(رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، وهذا لتقريب شيء من أسماء المستشرقين وأعمالهم للقراء –خصوصا- وأن هذا الموضوع مهم جدا، فقد كانت له آثار عميقة وحاسمة في صناعة واقعنا المعاصر وظهور بعض التيارات الغريبة عن هذه الحياض الشرقية المنيعة بثقافتها ولغتها ودينها، فهي كما أسماها صاحبها:
" لمحة من ضوء على زاوية مظلمة من التاريخ كثيرا ما عششت فيها شياطين التخريب بمخططاتها، وقد كتبتها وألم يحز في نفسي أن تاريخ مخطط تمزيق ثقافة الشرق وهدم حضارته قديم قد الحروب الصليبية التي نفثت نيران أحقادها في نفوس أتباعها فألهبتها حماسة ورغبة في الوصول إلى غاية ما دبّره وكاده شياطين الظلام، فيا لهذا المكر كيف استطاع أن يستغفل الأمة، فيصرعها ويصيب مقتلها، بل يصيبها بالدهشة والذهول، فتركع جاثية على ركبها، وقد بهرتها قوة المدنية الغربية، وفتنها بهرج زيفها ودجلها، فليكن قارئ المقال على يقين: أنّ هؤلاء الصبية المدفوعين من ملوك أوروبا وكاردينالاتها هم: سرّ هذا التفوق الرهيب هناك، وما يقابله من بؤس وشقاء في هذه الربوع من بلادنا الإسلامية الشاسعة في هذا الشرق العظيم، فلتتفضلوه مشكورين":

أغراض الإستشراق:
بدأ الإستشراق في أوروبا بدافع ديني، وما زال يتطور حتى صار له المكان الأول في جهود الاستعمار في القرنين الأخيرين، وكان الاتصال الأول للأوروبيين بالشرق الإسلامي في الحروب الصليبية، وكان عرب الأندلس المثل الأعلى في العلم والحضارة عند الإسبانيين وفرنسيي الجنوب وسائر الأوروبيين، وحتى بعد أن بسط الإسبان سلطانهم على جميع بلاد الأندلس ظلوا ينقشون نقودهم بحروف عربية، ومن هذه النقود نماذج موجودة إلى اليوم في متحف مدريد.
أما الترجمة من كتب العرب، فقد بدأت منذ كان العرب لا يزالون في إسبانيا، ثم أخذ الأوروبيون في تأسيس المدارس لنقل العلم العربي.
ومن مدارس أوروبا التي كانت تستمد العلم من معارف العرب في القرون الوسطى:(مدرسة بادو) وهي مدرسة إكليريكية شرقية ومن أساتذتها: (أغابيو) الذي تخرج بها عدد من التلاميذ باللغة العربية، وللكاردينال (مارباريكو) الفضل في انتشار حركة المشرقيات في هذه المدرسة في القرون الوسطى.

عصر الترجمة:
ومن أقدم ما عرفناه من أمر ترجمة الكتب العربية باللغات الأوروبية: أن المعز موسى الإيطالي من أهالي (باليرمه) في القرن الثالث عشر الميلادي ترجم من اللغة العربية إلى اللاتينية كتاب أبقراط في:(أمراض الخيل).
ومن قدماء المشتغلين بعلوم العرب العالم الإيطالي:(تبزيو أميريكو كونت اليونيز) من القرون الوسطى، ولم أعرف له أثرا غير كونه من أصحاب العناية بتتبع أحوال الشرق الإسلامي وعلومه.
والمعلوم من ترجمة حياة:(أندري موتكاجون بللون) من علماء القرن الخامس عشر الميلادي: أنه لما رأى تراجم كتب ابن سينا المنقولة من الكتب العربية إلى اللغات الأوروبية، والتي كان يستعملها أطباء بلاط فريدريك الثاني ليس فيها عناية: أخذ على عاتقه دراسة العربية في صميم أوطانها، فذهب إلى دمشق وأقام فيها مدة يدرس ويتعلم، ثم قام برحلة في سائر بلاد سورية ومصر وفارس وآسيا الصغرى، وعاد بعد ذلك إلى كلية (ياهو) ليشرح لتلاميذه فلسفة ابن سينا وعلومه.
ومن هذا القرن الطبيب:(جيرو لاموار انوزيو) من أطباء البندقية قصد بلاد الشام سنة 1483 م ليتبحر في فهم كتب ابن سينا، وليعلق شروحا على ترجمته لها.
وكانت فاتحة القرن السادس عشر الميلادي: بدء تأسيس الطباعة العربية في أروبا، فقد أنشأ (يوليوس الثاني) في مدينة قانو على بحر البلطيق أول مطبعة عربية، واحتفل ليون العاشر بافتتاحها سنة 1514 م.
و نرى آل دي مدسيس في نابولي: كانوا يعملون قبل ذلك على غزو بلاد العرب الإسلامية غزوا دينيا مسيحيا بواسطة الطباعة والنشر، فظفروا بالمستشرق:(ريموندي) المولود سنة 1536 م، وهو من أهالي نابولي التي كانت العربية منتشرة فيها أكثر من غيرها، وكان ريموندي هذا يتقن بضع لغات شرقية ولاسيما العربية، وهو قدوة الداعين إلى تعلم المشرقيات، فولاه الكاردينال:(فرديناند دي مدسيس) إدارة مطبعة مدسيس، وفيها نشر:(كتاب نحو) و (كتب ابن سينا) وغيرها، وكانت مطبوعاته موضع الإعجاب العام بحسن طبعها ووضعها، وبعد أن قضى نحبه لم تعد أسرة مدسيس تفكر في إعلان حرب الكتب على المسلمين، بل عمدت إلى إحداث الإضطرابات العملية.
وفي أوائل القرن السابع عشر: أسس (سافاوي دي بريف)، وكان سفيرا لملك فرنسا في القسطنطينية مطبعة حجرية شرقية في روما، وهو الذي حفر أمهات الحروف العربية التي عنها نقلت مطبعة الأمة في باريس أشكالها.
وفي أول القرن السابع عشر أيضا: أسس الكاردينال (فردريك برومة) مدرسة أمبرواز ومكتبتها في مدينة ميلانو، ومن تلاميذها أنطونيو جيجيو الإيطالي المتوفي في ميلانو سنة 1632 م وهو مؤلف أقدم معجم صنفه الأروبيون.
وفي فاتحة القرن السابع عشر أيضا: تأسست مكتبة ليدن، أسسها (فريز) قنصل هولندة في القسطنطينية بعد أن أشترى من ماله - بلا مساعدة - الكتب العربية من تصانيف أكابر الأقدمين، ووقفها في سبيل النفع العام، وفي هذه المكتبة خطوط (التبريزي) و(ابن الجواليقي) و(المقريزي) و(الحافظ النسائي) و(العماد الكتاب) سكرتير صلاح الدين الأيوبي و(عبد الله الحشاب النحوي) وأضرابهم وأكثر الكتب العربية المطبوعة في أروبا هي من هذه المكتبة، لذلك كان ما طبعته مطبعة بريل نقلا عن أصول هذه المكتبة: أصح من الكتب التي طبعت في مطابع أخرى.
هذا مجمل ما بدأ به الإستشراق، وكان أولا لمقاصد دينية، ثم تحول إلى الاستفادة من علوم العرب، وتحرك فيما بعد إلى معاونة الاستعمار وإمداده بالأخبار العلمية.

رحلات المستشرقين:
ومن أقدم الأوروبيين الذين رحلوا إلى بلاد العرب (بارتيما) الإيطالي فاتح باب السفر إلى الحجاز لكل من أتى بعده من الإفرنج، فقد زار الحرمين سنة 1503 م أيام (قانصوه الغوري) ،وتسمى باسم (يونس) ورحلته إلى الحجاز واليمن والهند معربة في مقتطف سنة 1910 م وسنة 1911 م.
ثم (فنسان ليلان) الفرنسي، فقد زار الحجاز سنة 1568 م و (يوسف بتس) الإنجليزي سنة 1680 م.
وظلت الرحلات مستمرة بلا انقطاع إلى أن أرسل إمبراطور فرنسا على نفقته سنة 1862 م الرحالة (بولغريف)، وهو إنجليزي يسوعي، فدخل نجدا وألف كتاب (رحلة في بلاد العرب الداخلية) طبع سنة 1863 م، ورحلته هذه لم تنجح في المقاصد التي أريدت لها!!؟.
وسافر (دوتي) إلى مدائن صالح، وأقام فيها ثلاث سنوات ينقل آثارها، وله كتاب (جزيرة العرب).

مشاهيرهم وأعمالهم:
وأشهر المستشرقين: (وستفلد)، (سيلفستر دي ساس)، (كاتريمر)، (سنوك هو غورنجه)، (هوتسما)، (نولدكه)، (دوزي)، (غولدزهير)، (جوليوس)، (رانبرغ)، (دي خويه)، (كليمان هوار)، (باربييه دمثار)، (بروكلمان)، (أمبري ميشيل إيماري)، (سيدبو).
ومن المتأخرين: (نلينو)، (كرنكو)، (رودلف غيره)، (هانسك أمزيك) (كونهيل)، (كراتشكوفنيكي).
ومهمة المستشرقين الحقيقية هي: أن يكونوا عيون أوروبا الناظرة إلى عقول سكان الشرق الإسلامي، والباحثة عن الثقافة المؤثرة في قلوب المسلمين.
وأهم مؤتمراتهم التي يعقدونها في كل بضع سنوات، وأولها: مؤتمر باريس سنة 1873 م، والثاني في لندن سنة 1883 م، والثالث في بطرس برغ سنة 1877 م، والرابع في فلورنسه سنة 1878، والخامس في برلين سنة 1881، والسادس في ليدن سنة 1889، والسابع في فيينا سنة 1886، والثامن في استوكهولم وكريستيانا سنة 1889، والتاسع في لندن سنة ،1897 والعاشر في جنيف سنة 1899، والحادي عشر في باريس سنة 1897، والثاني عشر في روما سنة 1899، والثالث عشر في هامبرغ سنة ،1902 والرابع عشر في الجزائر سنة 1903، والخامس عشر في كويتهاغ سنة 1909، والسادس عشر في أثينة سنة 1912 م، والسابع عشر في أكسفورد سنة 1928.
ومن أهم أعمالهم: تأليفهم (دائرة المعارف الإسلامية)، وتأسيسهم جمعيات بمساعدة حكوماتهم (كالجمعية الأسيوية) التي تأسست في باريس بمساعي سلفستر دي ساسي سنة 1822، وتأسيسهم مدارس اللغات الشرقية والمعارف العربية في معظم عواصم الغرب: لتخريج الساسة والقناصل والمستشرقين الذين يعملون في بلد تلك اللغات.
ولا تقوم أمة بعمل يتعلق بالإستشراق إلا تبادر الأمم الأخرى إلى عمل مثله وما هو أتقن منه، ولأكثرهم مجلات خاصة بالشرق وعلومه وأحواله.
أما أهم مراكز الإستشراق في البلاد العربية، ففي مدينة (بيروت)، وذلك لكثرة عدد المسيحيين في لبنان

أشهر المكتبات العربية:
وأشهر المكتبات التي تضم كتبا ثمينة ومخطوطات عربية وإسلامية هي: مكتبة ليدن ومكتبة باريس والمتحف البريطاني ومكتبة لينغراد ومكتبة براين أو مكتبة الفاتيكان ومكتبة الأسكوريال وفي إسطنبول نحو أربعين مكتبة كل منها صغيرة، لكنها بمجموعها تعد من أثمن المكتبات العربية، ومنذ شاع استعمال الفوتوغراف في نقل المخطوطات القديمة: صارت كل مكتبة تنقل ما ينقصها من الكتب التي امتازت بها المكتبات الأخرى حتى دار الكتب المصرية نقلت من مكتبات أوروبا كثيرا من الكتب النفيسة التي كنا نحسد تلك المكتبات عليها.
وبعد فهذا بحث من الظلم أن يفرد له بضعة أسطر أو صفحات، لأن مجهود المستشرقين يتعب المؤرخ الذي يتوسع في الكتابة عنهم بمجلدات!.
ولذا اجتهدت فقط أن ألقي لمحات من الضوء على أعمالهم وصور نشاطهم.