ظلمات البحر اللُجّي*
28-08-2019, 05:35 PM
لطالما خشي الإنسان أعماق البحار و نسج حولها الأساطير بسبب ما كانت تعانيه السفن من مصاعب في إبحارها ، فاعتقد الرومان القدماء بوجود أسماك ماصَّة تستطيع أن تشل حركة السفن، كما آمن الأقدمون بخرافات عديدة عما يجري في أعماق البحار والمحيطات، واعتقدوا بوجود حيوانات وحشية غريبة الخلقة تعيش هناك، ولم تتوفر ـ حتى للبحارة ـ آنذاك معرفة حقيقية عن الأحوال السائدة في أعماق البحار و المحيطات. وبالرغم من أن القدماء عرفوا أن الرياح تؤثر على الأمواج والتيارات السطحية إلا أن الجهل خيّم على ما كان يجري في أعماق البحار فلم تكن الوسائل و التقنيات قد توفرت لسبر أغوارها بعد.
وفي حديثه عن أمواج المحيط يقول (وللارد باسكون Willard Bascom): إنها على قدر كبير من التعقيد بحيث أن جميع ما دونه البحارة والمسافرين بحرًا من ملاحظات على مدى 2000 سنة لم تقدم أي تعليل يزيد على القول بأن الرياح تؤدي إلى تكون الأمواج بطريقة ما، أما الحركة في الأعماق فقد كانت أعقد من أن يفهمها التفكير الحدسي.(1)
لم تبدأ الدراسة المتصلة بعلوم أعماق المحيطات إلا مع نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين، عندما توفرت الأجهزة المناسبة والتقنيات اللازمة لابتكار الغواصات المتطورة، ففي عام 1920م تم استخدام طريقة السبر بصدى الموجات الصوتية لدراسة الأعماق، و في عام 1930م تمكن كل من ( أوتيس بارتون و وليام بيب) من أن يغوصا لأول مرة حتى عمق 3028 قدم (حوالي 920 مترا) باستخدام غواصة كروية قام بارتون بتصميمها كما ابتكرا أقنعة الوجه والزعانف وأنبوب التنفس.(2)
و في عام 1938م (4) تم ابتكار قارورة للتنفس (سكوبا Scuba) وابتكار صمام التنفس من قبل الكابتن (كوستو و دوماس-Cousteuo & Dumas).
و في عام 1958م تم إجراء تجارب على غواصة الأعماق (الستينيات برس) لأول مرة.
إلا أن المفاجأة جاءت بتاريخ 13/12/2007 عندما نشرت جريدة تيليغراف مقالاً بعنوان: "العلماء يكتشفون أمواجا في أعماق المحيط" :


جاء في هذا الخبر أن اكتشاف هذه الأمواج العميقة قد سبب مفاجأة للعلماء لأنهم لم يتوقعوا أن يشاهدوا أمواجاً تشبه أمواج سطح البحر في هذه الأعماق، لنتابع:
"علماء بريطانيون يكتشفون أمواجاً تتدفق في أعماق المحيط الهادئ!:
لقد أمكن اكتشاف هذه الأمواج و تعقبها و هي تجري شرقا باستخدام آلات ذكية مسيرة (Robots) مخصصة لسبر أغوار المحيطات على عمق يقارب الميل (أو 1600 متر). يُعزى تشكل هذه الأمواج - و التي تسمى أيضا أمواج كلفن (Kelvin Waves)- إلى ارتفاع درجة حرارة مياه المحيط عند خط الاستواء، مما يؤدي إلى تشكل حركة مياه الأعماق بين المناطق الساخنة عند خط الاستواء و الباردة قريبا من القطبين الشمالي و الجنوبي، هذه الأمواج أكثر طولا (طول الموجة هو المسافة بين ذروتين متتاليتين منها) و ارتفاعا و أقل سرعة بكثير من تلك الأمواج التي نستمتع بمشاهدتها على شاطئ البحر.
لقد دُهش العلماء من وجود هذه الأمواج في تلك الأعماق و جاء على لسان البرفسورة كارين هيوود(Karen- Heywood) المؤلفة المشاركة في هذا البحث:
"لقد كنا مندهشين وفرحين! لقد كنا نتوقع وجود شيء ما على عمق 50 متراً كما أشارت إلى ذلك الصور القادمة من الأقمار الاصطناعية، ولكن الذي أثارنا حقيقة أن نجد هذه الأمواج على عمق يقارب 1600 متراً، وهذا يفتح باب الاحتمالات على أن هناك أمواجاً على أعماق أكبر".
يقول الدكتور (أدريان ماتيوس-(Adrian Matthews الذي يقود هذا البحث: كنا نظن أنه لا يمكن مصادفة أمواج على أعماق تزيد عن 200 متراً".
أكّد العلماء في نهاية العام 2007 أن هذا الاكتشاف يحدث أول مرة وأنه سيشكل قفزة في دراسة المحيطات والبيئة بشكل عام، و تابع العلماء حشد جهودهم للتعرف على المزيد من هذه الأمواج الغريبة، ففي دراسة جديدة جرت في أكتوبر/تشرين الأول عام 2013 برعاية جامعة واشنطن اكتُشِفت أضخم أمواج عميقة عرفت حتى اليوم، و تبين من تحليل المعلومات التي تم تحصيلها من الأعماق المظلمة للمحيط الهادئ وجود أمواج يصل ارتفاع بعضها إلى 300 متر أي ما يقارب ارتفاع ناطحة سحاب!. جرى القياس على عمق 5000 متر حيث تم تسجيل خصائص الماء وكثافته وارتفاع الأمواج وشدتها وغير ذلك، وتبين أن هذه الأمواج تتشكل في العمق المذكور وتستغرق ساعة أو أكثر حتى تتكسر، فهي عميقة جداً ومظلمة والطبقة التي تحتها من الماء كثيفة جداً.
إن هذه الأمواج العميقة ضرورية لمزج مياه البحار وعدم فسادها عبر آلاف السنين، فامتزاج ماء المحيط يساعد على توزع الملوحة بين الأعماق و طبقات المياه العليا وبالتالي عدم فساد ماء البحر الأمر الذي لابد منه لاستمرار الحياة في البحار و المحيطات.



صورة بالقمر الصناعي لمنطقة من المحيط وتظهر الأمواج الداخلية على الجانب اليسار على شكل خطوط نصف دائرية.

إن اختلاف كثافة ماء الأعماق عن الماء الذي يعلوه يعتبر أحد الأسباب التي تؤدي إلى حدوث الأمواج العميقة، كما أن وجود التضاريس المتنوعة في قاع المحيط بين جبال و وديان وممرات ضيقة وحفر ونتوءات تولّد أمواجا عملاقة عندما تمر تيارات ماء الأعماق من خلالها...


صورة بالكمبيوتر لقاع المحيط ونرى فيه الأمواج بلون أخضر وأصفر ويبلغ ارتفاعها طول ناطحة سحاب (300 متر) وهي أمواج عنيفة جداً وتغطي منطقة مظلمة جداً من أعماق المحيط.

لو أردنا وصف أعماق المحيط ببضع كلمات لقلنا أنها بيئة عميقة مضطربة بسبب الأمواج الهائلة التي تسودها، الضغط فيها يزيد عن 500 كيلو غرام لكل سنتيمتر مربع يمكن أن يسحق أي جسم يخاطر بالنزول إليها، شديدة الظلام أو معتمة بالكامل (إذا أخرجت يدك لا تكاد تراها)، فمن شبه المستحيل التواجد في بيئة مضطربة عظيمة الضغط عميقة ومظلمة كهذه.
و للعلم فإن جسم الإنسان لا يحتمل الغوص إلى أكثر من 30 متراً، فبعد تجاوز هذا العمق يرتفع الضغط على جسمه إلى أكثر من 3 ضغوط جوية و يؤدي ذلك إلى ذوبان النيتروجين الذي يستنشقه الغطاس مع الهواء في دمه مما يفقده السيطرة على جسمه.
أما ظلمات الأعماق فيبدأ ظهورها بعد الغوص إلى أكثر من عمق 200 متر، عندها تحتاج الغواصة إلى مصابيح تنير الظلام من حولها، بل إن الأسماك التي تعيش في هذه المناطق تستنير من خلال احتوائها على الفسفور الذي يضيء ذاتيا، أو تكون عمياء تلتمس طريقها و فرائسها بالاستشعار من خلال أعضائها الحسية.


بعض الكائنات البحرية في المحيطات تمتلك إنارة ذاتية تنير الأعماق المظلمة حولها

هذه الظلمات في أعماق البحار ترجع إلى سببين رئيسيين:
الأول: العمق لأن الشعاع الضوئي يتكون من ألوان الطيف السبعة، و هي مختلفة عن بعضها في طول الموجة، فيختلف امتصاص الماء لمكونات الضوء تبعا لطول موجته إذ يُمتص اللون الأحمر على مسافة عشرين متر الأولى، فلو أن غواصاً جُرح على هذا العمق مثلا، لما رأى دمه باللون الأحمر بل باللون الأسود، لماذا؟..... لأن اللون الأحمر امتصه الماء عند هذا العمق فنتجت ظلمة اللون الأحمر، ثم يُمتص اللون البرتقالي على عمق 30 متر، ثم اللون الأصفر على عمق 50 متر، ثم اللون الأخضر على عمق 100 متر، وهكذا بقية الألوان السبعة ... و لا يتبقى على عمق 200 مترا سوى اللون الأزرق، لذلك نرى البحر أزرق. بعد ذلك نصل إلى منطقة الظلام الشديد، و كما نرى فهذه الظلمات ظلمات متدرجة بعضها فوق بعض.


امتصاص ألون الطيف في ماء المحيط بالتدريج تبعا للعمق

أما السبب الثاني الذي يؤدي إلى ظلمات الأعماق فهو تراكم الأمواج الداخلية و فوقها السطحية فالسحاب، و هي كلها عوائق أمام نفاذ شعاع الضوء إلى هذه الأعماق.
و هكذا نجد:
- أن الظلام يسود أعماق المحيطات لأن الماء يمتص ألوان طيف الضوء التي تقع عليه بالتدريج مع ازدياد عمقه بدءا بالأحمر و انتهاء بالبنفسجي، حتى يسود ظلام دامس في الأعماق التي تتجاوز 200 مترا.
- هذه الأعماق مضطربة تنتشر فيها أمواج عملاقة غير الأمواج السطحية التي نشاهدها على الشاطئ لم تكتشف إلا في القرن الحادي و العشرين.
- هذه الأمواج المتراكبة فوق بعضها و السحاب الذي يعلوها فوق المحيط بالإضافة إلى تدرج ظلمات اللون كلما غصنا في الأعماق تشكل ظلمات بعضها فوق بعض، بحيث تنعدم الرؤية في قاع المحيط .
- هذه المعارف لم يتم التوصل إليها إلا في القرن الحادي و العشرين مع تطور التقنيات التي سهلت دراسة أعماق المحيط.
و لابد من الإشارة أخيرا إلى أن وصف هذه الأمواج الداخلية و ظلمات المحيطات أو البحار اللُجّية و سحابها قد جاء في القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنا في بيئة صحراوية لم يعرف سكانها البحر أو يركبوه إلا نادرا، و ذلك في الآية 40 من سورة النور التي تصف حال من عمي عن ذكر الله، بقوله تعالى:
"أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ"
*. لُجّيّ: لا يُسْبَر غَوْره، بعيد القَعْر.
مراجع:
1. Willard Bascom, Waves and Beaches: The Dynamics of the Ocean Surface, December 18, 1979
2. فرنسيس آشكروفت، تعريب عبد الكريم ناصيف، العيش على حافة الخطر، مكتبة العبيكان، ص 133
3. Frédéric Dumas, From Wikipedia, the free encyclopedia