استمتع بتفسير ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾
18-01-2018, 04:41 PM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أمابعد:
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران:36]
في هذه الآية ثلاث مسائل مهمة:
-المسألة الأولى: نوع الألف واللام في: ﴿ الذَّكَرُ ﴾ و﴿ الْأُنْثَى ﴾ من قوله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾
اختلف المفسرون في نوع الألف واللام هذه على قولين:
القول الأول: الألف واللام للعهد؛ والمعنى: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وضعت. وهـو
قـول "الزمخـشـري والنسـفي والخـازن وإسمـاعيل حـقي والمـراغي"، ورجحـه محمـد ثنـاء الله المظهري(1) والآلوسي"(2 ). وذكره "السمين الحلبي والنيسابوري وأبو السعود والشوكاني"( 3).
فإن قيل: علم أن الألف واللام في ﴿ الْأُنْثَى ﴾ للعهد من قوله تعالى: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ ، فمم علم أن الألف واللام للعهد في ﴿ الذَّكَرُ ﴾ ولم يسبق له ذكر؟
أجيب عن هذا بأنه ذكر ضمنا في قوله تعالى في الآية التي قبل آية الباب: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [ل عمران:35]، وهم كانوا ينذرون الذكور لخدمة بيت المقدس( 4).
القول الثاني: الألف واللام للجنس، والمعنى: وليس جنس الذكر الذي أردت أن يكون خادما، ويصلح للنذر وخدمة المسجد مثل جنس الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدس والقيام بخدمة الكنيسة؛ لما يعتريها من الحيض والنفاس. وهو قول "القاسمي، ورجحه ابن عاشور"( 5)، وذكره "السمين الحلبي والنيسابوري وأبو السعود والشوكاني"(6 ).
وأجاب الآلوسي عن إشكال وارِدٍ على هذا القول، قال: (( وأورد عليه أن قياس كون ذلك من قولها أن يكون وليست الأنثى كالذكر فإن مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر، والعادة في مثله أن ينفى عن الناقص شبهه بالكامل لا العكس، وأجيب بأنه جار على ما هو العادة في مثله أيضا لأن مراد أمّ مريم ليس تفضيل الذكر على الأنثى، بل تعظيماً لعطية الله تعالى على مطلوبها؛ أي وليس الذكر الذي هو مطلوبي كالأنثى التي وهبها الله تعالى لي، علماً منها بأن ما يفعله الرب خير مما يريده العبد. وفيه نظر، أما أولاً : فلأن اللام في الذكر والأنثى على هذا يكون للعهد وهو خلاف الظاهر الذي ذهب إليه أكثر المفسرين ، وأما ثانياً : فلأنه ينافي التحسر والتحزن المستفاد من قولها : ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ فإن تحزنها ذلك إنما هو لترجيحها الذكر على الأنثى، والمفهوم من هذا الجواب ترجيحها الأنثى على الذكر، اللهم إلا أن يحمل قولها ذلك على تسلية نفسها بعد ما تحزنت على هبة الأنثى بدل الذكر الذي كانت طلبته، إلا أنه تبقى مخالفة الظاهر على ما هي، فالأولى في الجواب عدم الخروج عما هو الظاهر والبحث فيما اقتضته العادة. ))( 7)
-المسألة الثانية: هل هناك فرق بين تقديم ﴿ الْأُنْثَى ﴾ أو تقديم ﴿ الذَّكَرُ ﴾ ؟
لم أجد فيما بحثت من تكلم عن الفرق بين تقديم ﴿ الْأُنْثَى ﴾ أو تقديم ﴿ الذَّكَرُ ﴾ إلا ما قاله السمين الحلبي وابن الحاجب.
أما ابن الحاجب فقال: (( أن المراد نفي التسوية بينهما، فلا فرق بين تقديم ﴿ الْأُنْثَى ﴾ أو تقديم ﴿ الذَّكَرُ ﴾؛ ولذلك قال تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً ﴾ [آل عمران:113]. وإذا كان المعنى على ذلك، فلا فرق في التقديم والتأخير لصحة الإتيان بهم جميعا بلفظ الجمع. وكل ما صح فيه لفظ الجمع صح في مفرداته التقديم والتأخير. ))( 8)
وخالفه السمين الحلبي قائلا: (( وكان سياق الكلام على هذا يقتضي أن يدخل النفي على ما استقر وحصل عندها وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المقصود منه، فكان التركيب: وليس الأنثى كالذكر، وإنما عدل عن ذلك لأنها بدأت بالأهم بما كانت تريده. وهو المتلجلج في صدرها والحائك في نفسها، فلم يجر لسانها في ابتداء النطق إلا به، فصار التقدير: وليس جنس الذكر مثل جنس الأنثى لما بينهما من التفاوت فيما ذكر، ولولا هذه المعاني التي استنبطها العلماء وفهموها عن الله تعالى لم يكن لمجرد الإخبار بالجملة الليسية معنى؛ إذ كل أحد يعلم أن الذكر ليس كالأنثى. ))( 9)
-المسألة الثالثة: تشبيه الفاضل بالمفضول في ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾.
المعروف في باب التشبيه أن المشبه به يكون أفضل من المشبه؛ لذا اختلف في ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾على قولين:
القول الأول: أن التشبيه هنا على بابه (المشبه به أفضل من المشبه)، والمعنى: وليس الذكر الذي رغبت فيه بمساو للأنثى التي أعطيت لو كانت تعلم علو شأن هاته الأنثى. فالأنثى على هذا المعنى أفضل من الذكر( 10). قال الفخر الرازي: (( المقصود من هذا الكلام ترجيح هذه الأنثى على الذكر، كأنها قالت الذكر مطلوبي وهذه الأنثى موهوبة الله تعالى، وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة لله، وهذا الكلام يدل على أن تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جلال الله عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه. ))(11 )
القول الثاني: أن المشبه أفضل من المشبه به، أي جنس الذكر أفضل من جنس الأنثى. والمعنى: أن الذكر أفضل وأكمل في خدمة بيت المقدس لقوته وعدم وجود العوارض التي توجد في الأنثى.
قال ابن عاشور: (( ولو قيل: وليست الأنثى كالذكر لفهم المقصود. ولكن قدم ﴿ الذَّكَرُ ﴾ هنا لأنه هو المرجو المأمول فهو أسبق إلى لفظ المتكلم. ))( 12)
وقال ابن عاشور موضحا ومستدلا ومقررا هذا القول: (( ونفي المشابهة بين الذكر والأنثى يقصد به معنى التفصيل في مثل هذا المقام وذلك في قول العرب: ليس سواء كذا وكذا، وليس كذا مثل كذا، ولا هـو مثـل كذا، كقـوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، وقوله: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [الأحزاب: 32] .
وقول
.............................. *** فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ (14 ).
وقولهم: ( مرعى ولا كالسعدان، وماء ولا كصُدَّى )(15 ).
ولذلك لا يتوخون أن يكون المشبه في مثله أضعف من المشبه به إذ لم يبق للتشبيه أثر. )) (16 )
الـنـتـيـجـة:
الذي يترجح لي -والله تعالى أعلم-: القول الثاني في المسألة الأولى، وهو أن الألف واللام للجنس؛ للأدلة الآتية:
أولا: لأنه الموافق للمعنى الذي قاله أكثر المفسرين( 17). قال الطبري: (( وليس الذكر كالأنثى، لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها، وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدس والقيام بخدمة الكنيسة، لما يعتريها من الحيض والنفاس. ))( 18)
ثانيا: لأنه الموافق للظاهر وما اقتضته العادة؛ إذ المرتكز في قلوب الناس إناثهم وذكورهم الرغبة في مواليد الذكور، ويتأكد هنا زيادة على ذلك نذر أم مريم أن يولد لها ذكر تحرره لخدمة بيت المقدس.
ثالثا: جملة ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾. على الصحيح من كلام أم مريم؛ لأن السياق يقتضي ذلك؛ ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ ، ولا نحمل الجملة على الاعتراض كالتي قبلها؛ إذ لادليل على ذلك؛ "وجملتان متتاليتان اعتراضيتان اختلف في جوازها، مذهب أبي علي عدم الجواز"( 19)
وفي المسألة الثانية: قول السمين الحلبي هو الصواب؛ لما ذكر من أدلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) هو:محمد ثناء الله،الهندي،الباني،النقشبندي،فقيه حنفي، مفسر،من آثاره:التفسير،توفي سنة (1216هـ). ينظر في ترجمته: معجم المفسرين لعادل نويهض:(2/507)، معجم المؤلفين لعمر بن رضا كحالة:(9/144).
(2 ) ينظر:الكشاف للزمخشري:(1/356)،تفسير النسفي:(1/251)،تفسير الخازن:(1/240)،روح البيان لإسماعيل حقي: (2/27)،تفسير المراغي: (3/144)،تفسير المظهري:(2/1/41)،تفسير الآلوسي: (2/130).
( 3) ينظر:تفسير النيسابوري:(2/149)،الدر المصون للسمين الحلبي:(3/137)، تفسير أبي السعود:(2/28)،الفتح القدير للشوكاني: (1/384).
(4 ) ينظر: تفسير النيسابوري:(2/149)،تفسير الآلوسي: (2/130).
( 5) ينظر:محاسن التاويل للقاسمي:(2/311)، التحرير والتنوير لابن عاشور:(3/233).
(6 )ينظر:تفسير النيسابوري:(2/149)،الدر المصون للسمين الحلبي:(3/137)، تفسير أبي السعود:(2/28)،الفتح القدير للشوكاني: (1/384).
( 7) تفسير الآلوسي: (2/130).
(8 ) أمالي ابن الحاجب:(1/216).
(9 ) الدر المصون للسمين الحلبي:(3/137).
(10 ) ينظر:التحرير والتنوير لابن عاشور:(3/233).
( 11) مفاتيح الغيب للرازي:(8/204)، وينظر:تفسير المراغي:(3/144)،تفسير الخازن:(1/240).
( 12) التحرير والتنوير لابن عاشور:(3/233).
( 13) هو:السموأل بن غريض بن عادياء الأزدي،شاعر جاهلي حكيم،من سكان خيبر،كان يتنقل بينها وبين حصن له سماه (الأبلق)، أشهر شعره لاميته،وهي من أجود الشعر،له ديوان صغير،وهو الّذي تنسب إليه قصة الوفاء مع امرئ القيس الشاعر،توفي سنة (حوالي 65ق هـ). ينظر في ترجمته:الأعلام للزركلي:(3/140).
(14 ) صدره:سَلي إِن جَهِلتِ الناسَ عَنّا وَعَنهُمُ.ينظر:البيان والتبيين للجاحظ:(3/128)،خزانة الأدب للبغدادي:(10/354)،نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين النويري:(3/202).
(15 ) أي لست مثله، والسعدان شيء تعتلفه الإبل، وهو من أفضل مراعيها، وصدّى: ركية لم يكن عندهم ماء أعذب من مائها.ينظر: جمل من أنساب الأشراف للبَلَاذُري:(12/33).
(16 ) التحرير والتنوير لابن عاشور:(3/234).
( 17) ينظر مثلا:تفسير الطبري:(6/334)،تفسير ابن المنذر:(1/177)،الكشف والبيان للثعلبي:(3/55)،تفسير البغوي:(2/30)، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي:(ص208)،زاد المسير لابن الجوزي:(1/276)،تفسير ابن كثير:(2/28)،فتح القدير للشوكاني:(1/384).
( 18) تفسير الطبري:(6/334).
( 19) ينظر:البحر المحيط لأبي حيان:(3/118).
م.ن




الحمد لله