على العشاء..لابد أن نلتقي
07-02-2016, 02:20 PM
على العشاء..لابد أن نلتقي!


الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:

أعزائي الآباء والأمهات:
لا يخفى ما للاجتماع بين الوالدين والأبناء على مائدة الطعام، وتبادل الأحاديث والأخبار في جو أسريّ دافئ من أثر في ربط الأبناء بمؤسسة الأسرة، وتأكيد انتمائهم لها؛ مما يحافظ على كونها المؤثر الأقوى في تكوين أفكارهم وتوجهاتهم، وبناء قيمهم وأخلاقهم، ولا يخفى أيضاً: أن ظاهرة الوجبات السريعة، والتي انتشرت في العقود الأخيرة: قد ساهمت بشكل كبير في تراجع هذا التقليد الأسري العريق في مجتمعاتنا، ولعل إيقاع الحياة السريع، واكتساح ظاهرة الدروس الخصوصية، والتي تبقي الأبناء لفترات طويلة خارج المنزل، وشدة انشغال الأبناء بهواتفهم المحمولة...كل ذلك ساهم في اكتفائهم بالوجبة السريعة، وعدم اكتراثهم بالمحافظة على تناول الوجبة الرئيسية – على الأقل – مع الأسرة.
فهل ستنجح:" مائدة الطعام" في المحافظة على روح الأسرة ووظائفها المعنوية في الإطاحة بالطاريء الجديد المسمى بالوجبات السريعة، أو: "التيك واي!!؟".

الغرب أول يعاني من تلك الظاهرة:
إنّ المجتمعات الغربية التي صدّرت إلينا هذه الوجبات: قد باتت تعاني من آثارها السلبية على الأسرة، وقال الباحث:(تشن بو- زونغ من كلية روتمان للإدارة في جامعة تورنتو بكندا):
" إن التكنولوجيا التي تجعل الناس تأكل بسرعة: تفقدها الإحساس بالراحة، وبتناول الطعام مع العائلة، وتفسد عليهم متعتهم، لأن هاجس الاستفادة من الوقت يظل يطاردهم طوال الوقت!!؟".

وهي رحمةٌ أقرها النبي صلى الله عليه وسلم:
إن ديننا العظيم قد سبق الشرق والغرب في المنهج التربوي الفريد الذي جاء به، وقد نالت:" مسألة الاجتماع على الطعام وما لها من أثر": اهتماما وتوصية من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، بل كانت هي سنته صلى الله عليه وسلم، فقد روى الأمام مسلم في صحيحه : " أَعْتَم رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع إلى أهله ، فوجد الصبية قد ناموا، فأتاه أهله بطعامه، فحلف ألا يأكل من أجل صبيته، ثم بدا له فأكل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من حلف على يمين فرأى غيرها خير منها ؛ فليأتها وليكفر عن يمينه ".
فهذا أحد الصحابة الذين يجالسون الرسول صلى الله عليه وسلم حتى عتمة الليل: لا يمنعه ذلك من تعاهد أطفاله عند عودته للبيت، ليأكل معهم ويجالسهم، وفي الليلة التي تأخر فيها عنهم حتى ناموا؛ ففاته وفاتتهم تلك الجلسة المعتادة ، حزن ـ رضي الله عنه ـ فحلف ألا يأكل، كأنه يعاقب نفسه على إهماله ذلك الواجب اليومي!!؟.

وهي: ضرورة تربوية لكل أسرة:
إنّ التأكيد على هذه الجلسة العائلية الدافئة عند الاجتماع على الطعام: ليست ترفاً تربوياً، ولكنها وسيلة ناجحة وهامة من وسائل التربية المتوازنة، فالاجتماع على الطعام، وتبادل الأحاديث المفعمة بالحب والودّ بين الوالدين وأبنائهم: يمنحهم الكثير من الإشباع العاطفي، والاستقرار النفسي، كما يمنحهم شعوراً أكيداً بالقبول والاحترام عند والديهم، مما يولد في أنفسهم قدراً من الثقة في النفس، والاستعداد الايجابي المرتفع لتلقي توجيهات الوالدين، وهذا ما يؤكده المختصون، تقول:( د.سامية خضر: أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس):
" إنّ قوة العلاقة الأسرية ترتبط بقدرة أفرادها على الترابط والتلاحم، فاجتماع الأسرة يوميا على تناول الطعام: يكوّن فرصة لحل الكثير من المشاكل، ويمثل ضرورة لبقاء الحياة الأسرية".
وأضافت:" لابد أن تبذل كل أسرة مجهودا كبيرا حتى يجتمع كل أفرادها على تناول الطعام، لأن ذلك بمثابة الغذاء الروحي الذي تحتاجه الأسرة، ولا يمكن أن تستغني عنه، كما لا يمكن التنازل عنه بدعوى الانشغال، أو عدم الأهمية!!؟".
بل إن غياب هذا الاجتماع الأسري: قد يؤدي لدخول أحد أفراد الأسرة في أزمات نفسية، يقول:( الدكتور أحمد عكاشة: الطبيب النفسي):
" تتولد أزمات نفسية لدى بعض أفراد الأسرة في حال غياب اللقاء اليومي سواء كان على الطعام أو اللقاء المنفرد، والذي يبدو صعبا بالنسبة لحالات كثيرة من الأسر بسبب الارتباطات الخاصة بالعمل، أو بعض المسؤوليات والمهام".
وأضاف:" إنّ غياب هذه الاجتماعات: قد يؤدي إلى أزمات نفسية، فالأبناء يحتاجون الوالدين أكثر مما يحتاجون إلى الطعام، والاجتماع على الطعام بشكل يومي ومتكرر: يخلق التواصل الجيد بين أفراد الأسرة، فالأبناء يحتاجون لمترجم يفهمهم، ويكون قريبا منهم، وهذا لا يتم إلا من خلال الأسرة على مائدة الطعام".

ومن فوائد اجتماع الأسرة على الطعام أيضاً:
1)- إشعار الأبناء بمحبة الوالدين وتقديرهما: وقد أكدت الدراسات التربوية هذه الحقيقة، ففي دراسة أسبانية أكدت أن:" جمع شمل الأسرة حول مائدة الطعام: يعزز استقرار الصحة النفسية والعقلية لدى الأبناء، وتوصلت الدراسة إلى أن الأبناء في سن المراهقة الذين يشاركون آباءهم في تناول الطعام يتمتعون بحالة نفسية جيدة، وأن تناول الوجبات اليومية التي تضم جميع أفراد الأسرة ولأكثر من خمس مرات في الأسبوع: له أثر جيد على الصحة النفسية للأبناء-".

2)- توفير جو الأمن النفسي للأبناء: فالوجبة العائلية تؤدي دوراً في التكوين النفسي للأبناء، حيث تطمئن المراهق والطفل, إذ أن لقاء الوالدين, خصوصًا العاملين, أبناءهما حول طاولة الطعام: يترك انطباعًا جيدًا عندهم بأن والديهم حاضران، وأنهما مرجع لهم وإن كانا لا يمضيان الكثير من الوقت معهم.

3)- خلق فرص تربوية رائعة:
إنّ اجتماع العائلة على مائدة الطعام: يعلم الأبناء آداب السلوك، ويخلق فرصاً كثيرة ومتنوعة للتواصل الجيد بين الوالدين وأبنائهما، وهذا يؤدي بكل تأكيد إلى تدعيم ارتباط الأبناء بالأسرة، وتوثيق العلاقة بين أفرادها، ونذكر ببعض هذه الفرص و الأفكار التربوية، مثل:
- تأديب الصغار من الأبناء عملياً وبرفق، وتدريبهم على التصرف السليم أثناء تناول الطعام، وعلى آداب الحديث الجماعي وغيرها، عن عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ، يَقُولُ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
" يَا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ ". – متفق عليه -

5)- خلق مجالات للحوار المفتوح :
يمكنك- عزيزي المربي- أن تعقد حلقة نقاشية مع أفراد أسرتك عند تناول الطعام، والجديد هنا هو: حداثة الموضوعات المطروحة مثل:
كيف يمكننا التغلب على الشعور بالبرد في فصل الشتاء؟، أو كيف ننظم شراء حاجيات المنزل؟، أو كيف نرتب زيارة عائلية لقريب مقيم في مدينة أخرى؟.
والغرض من هذا النقاش هو: إشاعة جو الألفة والمحبة داخل الأسرة مع تدريب الأبناء على التعبير عن وجهات نظرهم ومشاعرهم، بالإضافة إلى تعليمهم بعض آداب الحوار والنقاش بصورة ودّية وعملية.

6)- شخصية الشهر:
يمكنك- أيها المربي الكريم- أن تختار بمشاركة أبنائك شخصية تاريخية إسلامية، لتكون شعاراً لهذا الشهر، وتتحدث عنها معهم أثناء تناول وجبة الغذاء أو العشاء، وتحاول ألا ينقضي الشهر إلا بعد أن يكون أبناؤك قد درسوا معالم هذه الشخصية.

7)- خلق الشهر:
كذلك يمكنك أن تختار خلق الشهر، ثم تشترك مع أبنائك في جمع القصص التي تدور حول هذا الخلق، ثم الاتفاق على وسائل عملية تطبقونها معاً في التخلق بهذا الخلق.

8)- أيام لا تنسى:
هل جربت مرة أن تقص على أبنائك قصصاً من حياتك، أو مواقف مررت بها؟..
لقد حان الوقت لكي تفعل ذلك أثناء الغداء أو العشاء أو أثناء تناول الشاي بعدهما، وسترى بريقاً في أعين صغارك، وهم يتابعون بشغف ما تسرده عليهم.

9)- فلترتاحي اليوم يا أمي:
في هذا اليوم، سيمنح الأب والأبناء للأم الغالية إجازة من أعمال المطبخ والطهي، وستقوم أنت أيها الأب الكريم بالاشتراك مع أبنائك في إعداد طعام الغداء أو العشاء، ثم غسل الأطباق وإعداد الشاي، وهكذا ستعيش الأسرة روح التعاون والحب والمودة، ويشعر الجميع بالقدر الحقيقي للمجهود الذي تبذله الأم يومياً من أجل راحتنا جميعاً.
فلنتصور كم سيكون هذا اليوم رائعاً؟، لنطبق الفكرة ونستمتع بما فيها من متعة وفائدة.

وأخيراً..
كم هو رائع و جميل: أن ينتظر الابن عودة أبيه إلى المنزل حتى يشاركه في لهوه وطعامه، أو يناقشه في آماله، أو يسمع منه حكايات لطيفة تنطبع معانيها في فؤاده طوال عمره، وعلى الأب ألا يغفل عن هذا الأمر مهما كثرت شواغله، فلنكن إيجابيين، ولنبدأ من اليوم: التمسك بالاجتماع العائلي على الطعام، ولنحوّل أوقات تناول الطعام من عادات رتيبة إلى أوقات رائعة مع أبنائنا.

منقول بتصرف يسير.