"العلوم العربية": الفضل لبيئتها
05-02-2018, 10:00 AM
"العلوم العربية": الفضل لبيئتها
أبو بكر خالد سعد الله
أستاذ جامعي قسم الرياضيات / المدرسة العليا للأساتذة- القبة

يقصد المؤرخون الغربيون اليوم بمصطلح:"العلوم العربية": تلك العلوم التي كُتبت باللغة العربية بصرف النظر عن صاحبها سواء كان عربيا أو أعجميا أو مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أو وثنيا، علما أن كل هذه الفئات من البشر أسهمت حقًا في تلك النهضة العلمية، بينما يطلق آخرون على هذه العلوم مصطلح:"العلوم العربية الإسلامية" بحكم أنها برزت خلال عهد علوّ شأن هذه الحضارة المرتبطة بالإسلام: مستنكرين المصطلح السابق، لأنهم يرونه يكيد لدور العامل الديني.

التنابز المضلِّل:
من المؤسف حقًا: أن تخلط فئة من المثقفين اليوم وقبل اليوم -ومعهم قوم تبّع مجادلون بدون علم ومتباهون بغير بصيرة- الجانب العلمي المحض بالجانب السياسي والعرقي والجهوي، نقول هذا: لأننا كثيرا ما نسمع في مناسبات عديدة ونقرأ في أماكن مختلفة لأناس يؤكدون مثلا: أن الفُرس كانوا وراء كل تقدم حدث في عصر الحضارة العربية الإسلامية، بينما تذهب فئة أخرى إلى أن العرب هم أساس كل هذا التقدم !، وهم بذلك يلوّثون صورة العلم، ويسيؤون لأهله أمام المواطن.
والواقع أن المهم ليس هذا التنابز والحساسيات المقززة، بل الأهم من كل ذلك هو: نشأة الظروف المناسبة وخلق البيئة المواتية لازدهار العلم وتحفيز الباحثين بتوفير لهم الإمكانيات المادية والمعنوية للعمل والتفوّق، وقد وُفِّقت مُقوّمات الحضارة العربية الإسلامية في بعث تلك البيئة العلمية، فأنتج فيها العلماء المنتسبون إلى كل الأمم والمذاهب والأديان والمناطق الجغرافية باللغة العربية العلوم الراقية.
وفي هذا السياق، يعلم الباحثون ومؤرخو العلوم أن الأفكار العلمية تأتي تباعا، فتْني صرح العلم لبنةً لبنةً، وتَمضي قُدما بصفة تدريجية حتى تأتي لحظة التتويج...
تلك اللحظة التي تَعْلق في الأذهان حين تُنسى كل المراحل البارزة التي سبقتها، بمعنى أن الجديد في كل شيء لا يكون أبدا نتيجة عمل تم في لحظة تاريخية، وإنما نتيجة مخاض يدوم أحيانا قرونا، فالصاروخ لم يسبق الطائرة، والطائرة لم تسبق السيارة، والسيارة لم تسبق الدراجة، تلك هي بديهيات تطور العلم وسيرورة تقدمه، ولذلك يكون عادة من العبث: أن لا نحتسب في عالم الأفكار إلا اللحظة الأخيرة، ولا نشيد إلا بمن برز خلالها!.
نودّ أن نعود إلى تنابز الفئات الضالّة في مجال العلوم العربية، ونأخذ كـ"حَكَم" الموقع الأكاديمي الأنكليزي الذي يُعنى بتاريخ الرياضيات وترعاه جامعة سنت أندروز St Andrewsالبريطانية، يتعلق الأمر بأرقى موقع في هذا الاختصاص، وهو يعرض سيَر علماء الرياضيات من العصور القديمة إلى العصر الحديث، ويقوم بهذه المهمة بدون توقف منذ نحو 20 سنة، وقد نال بفضل إتقان أداء مهمته عدة جوائز.
وهكذا، قدّم الموقع لحد الآن 2680 سيرة لعلماء الرياضيات، وجاء ذلك في أزيد من 10 آلاف صفحة و 4 ملايين كلمة، وتسهر على الموقع شخصيتان بارزتان هما جون أوكُنور O'Connor (1945-.) وإدموند روبرستون Robertson (1943-.)
نجد في هذا الموقع قائمة من الأسماء تحت عنوان "الرياضيات العربية"، والمقصود بهذه العبارة كما أسلفنا، الرياضيات التي كُتبت باللغة العربية. تشمل هذه القائمة سيرة 45 رياضياتيا لأبرز من عرفتهم الحضارة العربية الإسلامية في هذا الاختصاص، وتشير هذه السيَر إلى الانتماءات الجغرافية لهؤلاء العلماء إضافة إلى إسهاماتهم العلمية.
ومن ثمّ اتضح: أن البلدان التي ينتسب إليها العلماء الـ 45، هي كالتالي : 12 إيرانيا، 9 عراقيين، 5 أندلسيين، 4 مصريين، 4 أتراك، سوريان، مغربيان، أفغانيان، أزباكستانيان، 3 من المجموعة لم يستطع المسؤولون عن الموقع تحديد أماكن ولادتهم ووفاتهم بدقة.

وماذا عن مغربنا؟:
وهكذا، نلاحظ أن من منطقة الشرق الأوسط (مصر وسوريا والعراق) هناك 15 عالما، ومن آسيا 16 عالما، وإذا أضفنا تركيا لتلك المنطقة الآسيوية صار العدد 20 عالما، وإن أضفنا ما يطلق عليه اليوم عند المؤرخين "الغرب الإسلامي" (المغرب العربي+الأندلس) إلى قائمة البلاد العربية يكون عدد العلماء من الرقعة العربية 22 عالما، وإن حذفنا منها الأندلس صار هذا العدد 17.
وهكذا نستخلص من هذه الأرقام (المبنية على عينة بسيطة) شبه تعادل في عدد العلماء الذين أثْروا العلوم، ولا فضل لأحد على آخر، وإنما الفضل الأول يعود إلى البيئة التي أنشأتها تلك الحضارة.
من جهة أخرى، ينبغي أن ننبّه إلى أن عمل الموقع الإلكتروني المذكور متواصل بدون انقطاع، ومن الواضح أنه لم يُدخل بعدُ نتائج الأبحاث الحديثة في الغرب الإسلامي التي اهتم بها الباحثون خلال العقود الأخيرة، من أمثال: التونسي محمد السويسي (1915-2007) والجزائري أحمد جبار بمعية فريقه، والمغربي إدريس لمرابط، فلم يقدم الموقع مثلا السيرة العلمية للمبدعين في الرياضيات أمثال الجزائري ابن حمزة (ق. 16م) رائد فكرة اللوغاريتمات، والمغربي ابن منعم العبدري (ق. 13م) رائد التحليل التوفيقي، والأندلسي المؤتمن بن هود (ق. 11م) الذي برهن مثلا على النظرية الهندسية المعروفة في كتبنا المدرسية بـ"نظرية سيفا Ceva" قبل سيفا بقرنين!.
وإذا أردنا أن ننوّه بما أنتجت منطقتنا المغاربية في إطار الحضارة العربية الإسلامية، رغم أن هذا ليس هدفنا في هذا المقام، يكفي أن نشير إلى أن المغربي إدريس لمرابط، المختص في تاريخ الرياضيات، قد ألّف كتابا في هذا الموضوع باللغة الفرنسية عام 1994، ثم أعيد طبعه عام 2014 (ولا نستبعد أن يكون قد ترجم إلى العربية) بعنوان "مدخل إلى تاريخ الرياضيات المغاربية".
قدّم المؤلف في هذا الكتاب عينة من الأعمال الرياضية التي أنجزها أبناء منطقة المغرب العربي والأندلس إضافة إلى سِيَرهم الذاتية والعلمية المفصلة قدر المستطاع، وخصّ بالذكر أولئك الذين كان لهم باع في تأليف ونشر وتدريس علم الرياضيات عبر القرون الماضية وتركوا لنا فيها آثارا مكتوبة باللغة العربية.
وفي هذا السياق، استعرض الأستاذ لمرابط سِيَر أبرز علماء الرياضيات في الشرق الإسلامي، وعددهم 22 رياضياتيا، وركّز على الأندلس، فأحصى فيها 295 عالما اهتم بالرياضيات وألف فيها، أما في المغرب العربي الكبير الحالي (من ليبيا إلى موريتانيا)، فيندهش القارئ عندما يجد في هذا الكتاب سِيَر 480 مؤلفا أسهموا في هذه الحركة العلمية والفكرية إسهامات متفاوتة في الكم والكيف!، وهذا يدل على النشاط العلمي الذي كان منتشرا في هذه المنطقة حتى خلال العصر الذي يسمي بعصر "الانحطاط"!!؟.
ويعجب المرء أكثر عندما يقرأ رأي المؤرخين حين يؤكدون أن مئات المخطوطات العلمية في هذه المنطقة لا زالت مجهولة أو مفقودة، ولم يعثروا عليها بعد، وإنما اكتشفوا وجودها من خلال الإشارات إليها ضمن مؤلفات أخرى.
لا شك أن البعض يتساءل عما إذا كان هؤلاء العلماء أو غيرهم في الشمال الإفريقي قد ألّفوا في الرياضيات بلغة أخرى غير العربية خلال القرون الخالية!!؟.
ليس لنا جواب عن هذا السؤال سوى ملاحظة بأن ابن حمزة الجزائري السابق الذكر قد ألّف كتابه الشهير "تحفة الأعداد لذوي الرشد والسداد" باللغة التركية علما أن والدته تركية الأصل، ولذا أتمم تعليمه في تركيا بعد دراسته بالجزائر العاصمة، ثم عاد إليها.

خلاصة القول:
إن "العلوم العربية" تواجدت وازدهرت حيث وجدت البيئة العلمية المواتية سواء في الأندلس أو في المغرب أو المشرق، وما يتضح أكثر فأكثر: أن الجهود الرامية إلى تحقيق ودراسة مثل هذه المخطوطات والمؤلفات والكشف عنها في كل مكان، شرقًا وغربًا، لا زالت دون المستوى المرجو. ولذا ينبغي عمن يؤمن بضرورة إحياء التراث العلمي العربي الإسلامي: أن يدعم البحث والباحثين في هذا المجال.