تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
منتديات الشروق أونلاين > المنتدى العام > منتدى الكتاب و الرواية

> أخطاء ابن خلدون في كتابه المقدمة للدكتور خالد كبيرعلال

  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية بلحاج بن الشريف
بلحاج بن الشريف
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 31-07-2015
  • الدولة : الجزائر
  • المشاركات : 345
  • معدل تقييم المستوى :

    9

  • بلحاج بن الشريف is on a distinguished road
الصورة الرمزية بلحاج بن الشريف
بلحاج بن الشريف
عضو فعال
أخطاء ابن خلدون في كتابه المقدمة للدكتور خالد كبيرعلال
08-08-2017, 10:32 PM
كتاب أخطاء ابن خلدون في كتابه المقدمة

للدكتور الجزائري خالد كبير علال
تمهيد :
ابن خلدون ،العلامة العربي ، و الذي يعتبره العلماء مؤسس علم الاجتماع عن جدارة و استحقاق ، بما تركه من ثروة علمية زاخرة في علمي التاريخ و الاجتماع ، شاعت أنواره كل العالم ، فلا تجد دراسة في اي جامعة من العالم تستغني عن تاريخ ابن خلدون و مقدمته ، و كان للجزائر الشرف أن كتبه في أرضها الطيبة بقلعة بني سلامة بضواحي مدينة فرندة بولاية تيارت حاليا .
هذا الكتاب الذي شغل العلماء و الباحثين ، حتى صار ابن خلدون هو الحجة في حد ذاته لا كتابه المقدمة، و لم يتناوله النقاد قبله ، لا من حيث المحتوى و لا من حيث الشكل و المنهجية بهذه الكيفية و المنهجية العلمية.. و هذا دكتور جزائري شاب صنيع الجامعة الجزائرية بامتياز ،يتناول مقدمة ابن خلدون بالدراسة و التحليل و يسجل بكل ثقة ملاحظات قيمة جدا من الناحية العلمية و المنهجية في كتاب بعنوان (أخطاء ابن خلدون في كتابه المقدمة )، أرفعه هنا في منتديات الشروق للقراء الكرام تعريفا بهذا العمل الجليل الذي أنجزه الدكتور الناقد خالد كبير علال بجامعة الجزائر، للفائدة :


الكتاب : أخطاء المؤرخ ابن خلدون في كتابه المقدمة
-دراسة نقدية تحليلية هادفة-
د . خالد كبير علال
- دكتوراه الدولة في التاريخ الإسلامي - جامعة الجزائر-

الطبعة الأولى : دار الإمام مالك
-البليدة- الجزائر- -1426هـ /2005م-


إهداء المؤلف :
إلى أهل العلم المنصفين ، الطالبين للحق ،و المتحررين من التعصب للأشخاص و المذاهب ،إليهم أهدي هذا الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على الرسول الكريم و على آله و صحبه أجمعين ،
و بعد : أفردت ُهذا الكتاب للبحث في أخطاء ابن خلدون و مجازفاته في كتابه المقدمة ، و قد قررتُ الكتابة في هذا الموضوع لثلاثة أسباب رئيسية ، أولها أن أخبارا غير صحيحة ، و مفاهيم خاطئة ، نجدها رائجة بين كثير من أهل العلم ، استقوها من مقدمة ابن خلدون ، دون أن يتنبّهوا لها .
و ثانيها أن كثيرا من أهل العلم –عل اختلاف تخصصاتهم- مبالغون في موقفهم من ابن خلدون و سلبيون تجاهه ، حتى أصبح قوله عندهم حجة بذاته ، يُحتج به و لا يُحتج له .

و ثالثها أن الجانب الرائع و الإيجابي من المقدمة حظي باهتمام كبير ، فأُشبع دراسة و قُتل بحثا ، لكن جانبها السلبي المليء بالأخطاء و النقائص ، لم يأخذ حقه من البحث و الاهتمام ، كالذي أخذه الجانب الأول ، فجاءت دراستنا هذه لتركز على الجانب السلبي المُهمل ، و تساهم في إكمال نظرتنا لمقدمة ابن خلدون ، و لتأخذ-أي المقدمة- مكانها الصحيح و المناسب لها ، بلا إفراط و لا تفريط ، و في انتقادنا لها لا ننكر جانبها الإيجابي الرائع .
و عبد الرحمن بن خلدون هو عَلَم غني عن التعريف ، لكننا نعرّف به بكلمة موجزة لمن لا يعرفه : هو الأديب الفقيه المؤرخ الناقد ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد الحضرمي الأشبيلي التونسي المالكي الأشعري ( 732-808ه) ، ولد بتونس و نشأ بها ، و تقلّد عدة مناصب سلطانية عند حكام عصره ببلاد المغرب و الأندلس ، ثم ترك السياسة سنة 776هـ و اعتزل بقلعة بني سلامة بتيهرت-غرب الجزائر- لتأليف كتابه : العبر و ديوان المبتدأ و الخبر في أيام العرب و العجم و من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، و ضمّنه مقدمته التاريخية ، و كتابه في العمران البشري ، و تاريخه عن العرب و البربر و العجم ، و في سنة 780ه خرج من عزلته و عاد إلى تونس ، و في سنة 784 ارتحل إلى المشرق لأداء فريضة الحج ، ثم استقر به المقام بالقاهرة ، فتولى بها قضاء المالكية ،و مشيخة المدرسة البيبرسية ، و ظل بالقاهرة إلى أن وافته المنية سنة 808هجرية .( ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب ، ج9 ص: 114-115. و الشوكاني: البدر الطالع ، ج 1 ص: 337-338 ) .
و المقدمة التي نحن في صدد دراستها لا تتضمن المقدمة التاريخية فقط ، و إنما تتضمنها هي أيضا و الكتاب الأول الخاص بالعمران البشري ، و هذا هو المعنى المقصود بمقدمة ابن خلدون عند الباحثين المعاصرين ، و إن كان ابن خلدون قد فرّق بين المقدمة التاريخية و كتاب العمران البشري .
و ليعلم القارئ الكريم إن النقد هو من أساسيات البحث العلمي في كل العلوم ، و قد مارسه علماء المسلمين قديما و حديثا انطلاقا من ديننا الحنيف ، فالقرآن الكريم فيه انتقادات كثيرة لليهود و النصارى و المشركين ، و فيه أيضا معاتبات و تأنيبات و انتقادات للصحابة الكرام . و فيه حث على نقد الأخبار و تمحيصها بمختلف الوسائل الممكنة ، في قوله تعالى (({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} - سورة الحجرات/6- .
و كذلك الأمر في السنة النبوية ، فقد كان رسول الله –عليه الصلاة و السلام- ينتقد أصحابه و يُقوّم سلوكياتهم عندما يراهم جانبوا الصواب . و على هذا المنهاج سار الصحابة -رضي الله عنهم – فكانت لهم ردود و انتقادات فيما بينهم ، في مختلف المسائل الفقهية و كتب فقه السلف فيها كثير من ذلك . و على منهاجهم سار السلف الصالح من بعدهم ، فمصنفاتهم في علوم الشريعة مليئة بالنقد و الردود العلمية ، من ذلك كُتب الجرح و التعديل ، فهي قامت أساسا على النقد ، لذا سمى الحافظ شمس الدين الذهبي كتابه في الجرح و التعديل : ميزان الاعتدال في نقد الرجال .
و للنقد العلمي النزيه فوائد كثيرة ، منها إنه طريق للوصول إلى الحقيقة عندما تتضارب الروايات و تختلف الآراء . و إنه وسيلة لطالب العلم يجعله يحتكم دوما إلى النصوص و الأدلة قبل النظر إلى الأشخاص . و إنه أيضا يساعد أهل العلم على الابتعاد عن التعصب المذموم ،و تقديس الشخصيات و اعتقاد العصمة فيها ؛ و الله سبحانه و تعالى يقول (( و فوق كل ذي علم عليم ))-سورة يوسف/76-
على أن يُمارس ذلك النقد في إطار من الضوابط الشرعية و العلمية ، كالتجرد للحق ،و التزام الأمانة العلمية ،و عدم تحميل الأقوال تفسيرات و تأويلات لا تحتملها ،و البعد عن التعصب المذموم للمذاهب و الأشخاص . و من أخطأ في حق عيره فليعترف بذلك ،و يستغفر الله و يتوب إليه .
و أخيرا أسأل الله تعالى أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم ، و أن ينفع به كاتبه و قارئه و كل من سعى في إخراجه و توزيعه ، إنه تعالى سميع مجيب ، و بالإجابة جدير ، و على كل شيء قدير .
د/ خالد كبير علال
-الجزائر 1426/2005-


الفصل الأول
أخطاء في منهج النقد التاريخي الخلدوني

أولا : عرض منهج النقد التاريخي لابن خلدون
ثانيا : أخطاء و نقائص منهج النقد التاريخي لابن خلدون

أخطاء في منهج النقد التاريخي الخلدوني
قبل أن يدوّن ابن خلدون تاريخه كتب مقدمة تاريخية انتقد فيها المؤرخين المسلمين الذين سبقوه ، و طرح منهجا تاريخيا نقديا بديلا لمنهجهم ، فما هي خطواته و معالمه و قواعده ؟ ، و ما هي نقائصه و أخطاؤه ؟ .
أولا : عرض منهج النقد التاريخي لابن خلدون :
يقوم منهج ابن خلدون في النقد التاريخي على جملة قواعد يجب الالتزام بها في تحقيق الروايات التاريخية و نقدها ، منها إرجاع الأخبار و الآثار إلي طبائع العمران و أحواله ، فهي من أحسن الوجوه و أوثقها ، في تمحيص الأخبار و تمييز صحيحها من سقيمها.و ذكر على ذلك أمثلة متنوعة سنعود إليها لاحقا إن شاء الله تعالى .
و منها –أي القواعد- تحكيم العادة و قواعد السياسة و الأحوال في الاجتماع الإنساني ، و قياس الغائب بالشاهد و الحاضر بالذاهب ، و تحكيم النظر و البصيرة في الأخبار ، و إخضاعها للعقل من حيث الإمكان و الاستحالة ، مع ضرورة تطابقها مع طبائع العمران.

و منها أيضا التركيز على نقد متون الأخبار و تقديمها على نقد الأسانيد-تتضمن رواة الأخبار- ، و قال إن النظر في المتن من حيث الإمكان و الاستحالة سابق على نقد الإسناد- أي نقد الرواة جرحا و تعديلا- ، فلا يُرجع إليه-أي الإسناد- حتى يُعلم الخبر في نفسه ، أهو ممكن أم ممتنع ، فإذا كان مستحيلا فلا فائدة من النظر فيه ، فأصبح ذلك أهم من نقد الإسناد و مقدما عليه .

ثم فرّق ابن خلدون بين الخبر الشرعي و الخبر البشري ، و جعل نقد الإسناد خاصا بالأول –أي الخبرالشرعي- ، و جعل نقد المتن خاصا بالثاني-أي الخبر البشري- ، و في ذلك يقول: (( و إنما كان التعديل و التجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية ، لأن معظمها تكاليف إنشائية – أي أوامر و نواه- أوجب الشارع العمل بها ، حتى حصل الظن بصدقها ، و سبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة و الضبط ... و أما الإخبار عن الواقعات –أي أخبار البشر- فلا بد من صدقها و صحتها من اعتبار المطابقة ، فلذلك وجب أن يُنظر في إمكان وقوعه ، و صار أهم من التعديل و مقدما عليه ،إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط ، و فائدة الخبر منه و من الخارج بالمطابقة )) .
كما أنه انتقد المؤرخين المسلمين انتقادا لاذعا ، و قال إن الفحول منهم لم يرفضوا تُرهات الأحاديث و لا دفعوها ، و التحقيق عندهم قليل و طرف التنقيح في الغالب كليل . ثم قال إن الكبار - من هؤلاء - الذين ذهبوا بفضل الشهرة و الإمامة المعتبرة هم عددهم قليل ، منهم : محمد بن إسحاق ( ت150ه) ، و سيف بن عمر التميمي(ت 200ه) ،و محمد بن الكلبي( ت204ه) ،و محمد بن عمر الواقدي(ت 207ه) ،و ابن جرير الطبري(ت310ه) ، و المسعودي(ت346ه ) ، ثم قال : (( و إن كان في كتب المسعودي و الواقدي من المطعن و المغمز ما هو معروف عند الأثبات ، و مشهور بين الحفظة الثقات ، إلا أن الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم ،و اقتفاء سننهم في التصنيف و اتباع آثارهم.
ثم أشار ابن خلدون إلى أنه جاء بعد هؤلاء الكبار مؤرخون أرّخوا لمدنهم و أقطارهم و دولهم ، كأبي حيان مؤرخ الأندلس(ت 469ه) ، و ابن الرقيق القيرواني(ت بعد:417ه) مؤرخ إفريقيا و الدول التي كانت بالقيروان ، ثم قال : (( ثم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد و بليد الطبع و العقل ، أو متبلّد ينسج على ذلك المنوال ، من يُحتذى منه بالمثال ، و يذهل عما أحالته الأيام من الأحوال )) ، و هؤلاء- دون ذكر لأي منهم- جمعوا الروايات جمعا دون بحث عن الأسباب في ذكرهم للأخبار
و قال أيضا إن كثيرا من المؤرخين و المفسرين و المحدثين المسلمين غلطوا في روايتهم للأخبار ، لاعتمادهم على مجرد النقل دون أن يُحققوها ، و ذكر أن بعض المؤرخين ذكروا المستحيلات في مصنفاتهم و لم يُمحّصوها ، كالمسعودي الذي روى أخبارا مستحيلة ، منها رواية تمثال الزرزور بمدينة روما ، الذي تجتمع عنده الزرازير كل عام و هي حاملة للزيتون ، تأتي به إلى هذا المكان . و منها أيضا حكاية وجود مدينة مبنية كلها بالنحاس بصحراء سجلماسة جنوب المغرب الأقصى.

و ذكر أيضا أن من أسباب غلط المؤرخين في تدوينهم للتاريخ ، منها أنهم يذهلون عن تبدّل الأحوال و الظروف و الملابسات في حياة الأمم و الأجيال ، بتبدل الأعصار و مرور الأيام ، فلا يتفطنون لتلك التحولات و التغيرات ، فيقعون في الأخطاء
و منها ولوع النفس بالغرائب ، و سهولة التجاوز على اللسان ، و الغفلة عن المتعقب و المنتقد ، حتى إن أحدهم لا يُحاسب نفسه على الخطأ ، و هذا هو الذي أوقعهم في الغلط في إحصاء الأعداد من الأموال و العساكر ، و المبالغة فيها
و منها أيضا التشيعات للآراء و المذاهب ، و الثقة بالناقلين ، و التقرّب إلى ذوي السلطان و الجاه ، و الجهل بطبائع الأحوال في العمران البشري ، فإذا كان الراوي عارفا بطبائع الحوادث و الأحوال في الوجود و مقتضاها ، أعانه ذلك في تمحيص الأخبار من حيث الصدق و الكذب ، و هذا أبلغ في التمحيص من كل وجه .
ثانيا : أخطاء و نقائص منهج النقد التاريخي لابن خلدون :
لا نتطرّق في مبحثنا هذا لإيجابيات منهج النقد الخلدوني ، فهي كثيرة ، و إنما نتطرّق لأخطائه و نقائصه ، التي هي كثيرة أيضا ، لأنها هي صلب بحثنا هذا ، نتناولها فيما يأتي إجمالا و تفصيلا .
أولا إنه –أي ابن خلدون – بالغ كثيرا في الدعوة إلى الاعتماد على قانون المطابقة بين الروايات التاريخية ، و الثابت من التاريخ ، و الواقع الطبيعي ، فدعا إلى استخدامه كقانون أساسي ، و أهمل استخدام الإسناد في النقد التاريخي ، و نحن لا ننكر ما لقانون المطابقة من أهمية في النقد التاريخي ، و لكننا ننكر عليه مبالغته في الاعتماد عليه ، و سكوته عن نقائصه من جهة ، و ازدرائه بطريقة نقد الأسانيد من جهة أخرى . فقد غاب عنه أن قانون المطابقة محدود و لا يصلح لتحقيق كثير من الأخبار التاريخية ، التي تدخل في إطار الإمكان العقلي و الواقعي ، و المتعلقة بالسلوكيات و التصرفات العادية ، و بالحِكَم و الأمثال ، و الأوامر و النواهي ، فهذا النوع من الحوادث التاريخي لا يمكن تحقيقها –في الغالب- إلا عن طريق نقد الأسانيد لا المتون ، و سنذكر على ذلك أمثلة كثيرة في موضع لاحق إن شاء الله تعالى .
و ثانيا إن ما قاله من أن النظر في الأخبار من حيث الإمكان و الاستحالة لتمييز صحيحها من سقيمها هو طريق برهاني لا مدخل للشك فيه، هو قول مبالغ فيه ، و لا يكفي لنقد الأخبار و تمحيصها ، لأن قانونه هذا يُدخل الروايات التاريخية في إطار الامكان العقلي و الواقعي ، و لا ينقدها و لا يُصححها بالضرورة ، و إنما هو يستبعد الروايات المستحيلة ، و يُبقي الروايات الممكنة الحدوث، تنتظر النقد و التمحيص ، لأنه ليس كل رواية ممكنة الحدوث بالضرورة أنها حدثت في الواقع ، فقد تكون مكذوبة و مزوّرة ، و هذا يعني أنه قد تجتمع لدينا روايات ممكنة الحدوث و هي مكذوبة ، و لا يمكن كشفها بالإمكان و الاستحالة ، و إنما يتم ذلك بنقد الأسانيد و المتون معا ، مما يعني أن ما قاله ابن خلدون من أن قانونه يُوصل إلى التمييز بين الحق و الباطل بطريق برهاني لا شك فيه ، هو قول مبالغ فيه ، و لا يصح على إطلاقه ، و لا يصدق على كل الروايات .
و قد غاب عنه أيضا أن قانون الإمكان و الاستحالة ليس مطلقا يصدق على كل الناس و في كل أحوالهم ، ففيه جانب نسبي يختلف من شخص لآخر ، فقد يكون خبر ما مستحيلا في حق شخص ، و لا يكون كذلك في حق شخص آخر . و الذي هو ممكن في حق الملوك قد لا يكون ممكنا في حق عوام الناس . و الذي يكون مستحيلا بالنسبة للفقير ، فقد لا يكون مستحيلا بالنسبة للغني . و الذي يكون ممكنا بالنسبة للعالم قد لا يكون ممكنا بالنسبة للأمي ، فهذا النوع من الروايات التاريخية ، لا يمكن تحقيقها بمجرد النظر العقلي ، من حيث الامكان و الاستحالة ، و إنما يتم تحقيقها بدراسة أسانيدها و متونها معا .
و ثالثا إن موقفه من النقد عن طريق الإسناد-أي عن طريق الرواة- ، يتضمن أخطاء كثيرة ، أولها إنه زعم أن التحقيق بنقد الأسانيد-أي الجرح و التعديل- هو خاص بالأخبار الشرعية ، -أي الأحاديث النبوية- و هذا زعم غير صحيح ،لأن الإسناد يخص كل الأخبار التاريخية دون استثناء ، فنحن إذا أردنا تحقيق خبر ما تحقيقا كاملا فلابد من تحقيقه إسنادا و متنا ، لأن الخبر الذي لا إسناد له هو خبر لا أصل له و لا مصدر ، فكيف نقبل خبرا هذا حاله ؟ ! .
و ثانيها إنه زعم أن نقد الإسناد هو المعتبر في صحة الأحاديث النبوية ، و هو السبيل الموصل إلى ذلك، و هو زعم باطل ، لأنه لم يذكر لنا دليلا على هذا التخصيص ، و لا يُوجد في علم مصطلح الحديث أن الأحاديث النبوية تُنقد من أسانيدها دون متونها ، و إنما الموجود فيه هو أنها تُنقد إسنادا و متنا ، مع التركيز على جانب دون آخر حسب طبيعة كل رواية ، و قد ردّ المحدثون أحاديث صحيحة الأسانيد لأن متونها منكرة ، و الأمثلة على ذلك كثيرة جدا ، سنذكر بعضا منها لاحقا إن شاء الله تعالى .
كما أن زعمه هذا فيه قدح بعلماء الحديث المحققين ، و إغفال لجهودهم الكبيرة في نقد متون الأحاديث ، و مصنفاتهم في هذا الموضوع شاهدة على ما بذلوه في نقد المتون و الأسانيد معا ، منها كتاب الموضوعات في الأحاديث المرفوعات، و كتاب العلل المتناهية ، و هما لابن الجوزي ، و ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي، و نقد المنقول لابن قيم الجوزية ، و هذه المصنفات مطبوعة و متداولة بين أهل العلم ، و سنذكر نماذج كثيرة لهؤلاء و غيرهم ، نقدوا فيها متون الأحاديث قبل أسانيدها ، نوردها في مبحث لاحق بحول الله تعالى .
و ثالثها إن قوله بأن نقد المتن مقدم على نقد الإسناد هو قول غير صحيح على إطلاقه ، و لا يصح إلا في حالة ثبوت استحالة الخبر ، و أما في حالات دخول الخبر دائرة الإمكان العقلي و الواقعي فإن الأمر يتغير تماما و تصبح طبيعة الخبر هي التي تفرض نفسها في التقديم و التأخير ، أو الجمع بينهما-أي الإسناد و المتن- ، فقد يكون عندنا خبر ممكن الحدوث يتناول جانبا عاديا من الحياة اليومية لشخص ما ، لكنه يصعب علينا تحقيق نسبته إليه من حيث متنه ، و لا يتأتى لنا ذلك إلا عن طريق نقد إسناده .
كما إن قوله بأنه لا فائدة من النظر في الإسناد إذا كان الخبر مستحيلا ، فهو قول صحيح بلا شك ، لكنه مع ذلك تبقى لدراسة الإسناد في هذه الحالة فائدة كبيرة غفل عنها ابن خلدون ، هي أن دراستنا لإسناد خبره مستحيل ، تمُكننا من التعرّف على الراوي أو الرواة الذين كذبوا ذلك الخبر ، و هذا يساعدنا على تصنيف هؤلاء الكذابين ، و استبعاد رواياتهم ، أو التعامل معها بالشك و الحذر و الحيطة .
و رابعها –أي الأخطاء- إنه فرّق بين الخبر الشرعي و الخبر البشري ، و هو تفريق غير صحيح من حيث الأصل ، لأن الفوارق الموجودة بينهما هي فوارق جزئية ، و لا تلغي الأصل المشترك بينهما ، نعم هناك فرق واضح بين متن الخبر الشرعي و هو الحديث النبوي ، و بين متن الخبر البشري ، فالأول – إن صحّ- هو قول رسول الله –عليه الصلاة و السلام- ، و الثاني هو قول لإنسان عادي ، لكن الذي يجمعهما هو أن خبر كل منهما هو حدث تاريخي متعلق ببشر ، سواء كان قولا أو فعلا أو تقريرا ، فكل منهما ورد إلينا بكيفية واحدة ، و كلاهما يدخل في دائرة الرواية التاريخية إسنادا و متنا ، فالحديث في محصلته النهائية هو خبر ، لكن ليس كل خبر حديث ، لذلك وجدنا بعض كبار المحدثين المؤرخين يدرجون السيرة النبوية –و هي أفعال و أقوال رسول الله- ضمن تدوينهم للتاريخ الإسلامي ، كما فعل الطبري في تاريخه ، و ابن الجوزي في منتظمه ، و ابن كثير في بدايته ، و كذلك البخاري و مسلم فإنهما أدرجا جانبا من تاريخ الدعوة الإسلامية و السيرة النبوية في صحيحيهما مع الحديث النبوي الشريف .
و أي فرق بين روايتنا لخبر مسند لرسول الله –عليه الصلاة و السلام- ، فنقول : أخبرنا فلان عن فلان أن رسول الله قال : ، و بين روايتنا لخبر آخر مسند للخليفة عمر بن عبد العزيز ، فنقول : أخبرنا فلان عن فلان أن عمر بن عبد العزيز ، قال : ، فلا يوجد أي فرق بين الروايتين من الناحية الشكلية ، و لا الكيفية التي ورد بها كل خبر ، فإذا أردنا نقدهما أخضعناهما لنقد الإسناد و المتن معا ، مع مراعاة الفوارق الجزئية الخاصة بكل متن ، فقد تختلف طبيعة المتن بين الحديث النبوي و الخبر البشري العادي ، فيُنقد كل نوع حسب طبيعته ، فالذي يجوز في حق الرسول ، قد لا يجوز في حق الخليفة عمر بن عبد العزيز ، و الذي يجوز في حق الخليفة ، قد لا يجوز في حق رسول الله –عليه الصلاة و السلام- .
كما إن قوله بأن الخبر الشرعي معظمه تكاليف إنشائية – أي أوامر و نواه- هو تقسيم لا دخل له فيما نحن بصدده ، لأن الروايات سواء كانت خبرا أو إنشاء أو هما معا ، تدخل كلها في دائرة الرواية التاريخية ، و ترد إلينا كلها بكيفية واحدة .و الخبر البشري هو أيضا يتضمن الخبر و الإنشاء ، و كلاهما يندرج في إطار واحد ، و الحديث النبوي - سواء كان إنشاء أو خبرا – هو في المحصلة النهائية رواية تاريخية .
و من أخطائه أيضا إنه-أي ابن خلدون- جعل الخبر البشري هو الذي يخضع لقانون المطابقة من حيث الإمكان و الاستحالة ، و استبعد الخبر الشرعي من أن يخضع لذلك القانون ،و خصّه بالنقد من حيث الإسناد جرحا و تعديلا ، و هذا تخصيص غير صحيح ، ليس فيه لابن خلدون دليل نقلي و لا عقلي . كما أنه من الثابت أن كبار المحدثين المحققين نقدوا الأخبار النبوية و البشرية بمنهج واحد جمعوا فيه بين نقد المتون و الأسانيد معا ، دون تفريق بينهما ، و الأمثلة على ذلك كثيرة جدا ، سنذكر منها طرفا في موضع لاحق من هذا المبحث إن شاء الله تعالى .
و أيد الباحث فاروق النبهان ما ذهب إليه ابن خلدون ، و دافع عنه ، و قال إن (( الروايات الشرعية ليست خاضعة لمنهج عقلي ، لأنها تدخل في التكليف الشرعي ، و هو لا يخضع لقانون العمران من حيث تحكيم العقل في صحته و سلامته ، لأن ذلك يُلغي دور الشرائع السماوية ، و يجعلها تصورات عقلية محدودة )) .
و ردا عليه أقول : إن دين الإسلام جاء بما يتفق مع العقل الفطري السليم تمام الاتفاق ، و نوّه بأرباب العقول و الألباب و النُهى ، و حثهم على استخدامها و مدحهم عليها ،و الآيات في ذلك كثيرة جدا . كما أن الله تعالى قد أنزل أحكامها متفقة مع العقول الصريحة و الفطر السليمة ، و لا يُوجد في أحكام الإسلام ما يتناقض معهما مطلقا .
و أما قوله بأن الروايات الشرعية ليست خاضعة لمنهج عقلي ، لأنها تكاليف لا تخضع لقانون العمران ، من حيث تحكم العقل في صحتها و سلامتها فهو قول مجانب للصواب ، لأن الشريعة أنزلها الله تعالى موافقة لطبيعة الإنسان و فطرته و عقله ، قال تعالى : (( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون )) - سورة الروم/30 - .
و الله سبحانه و تعالى لم يُنزل ما يتنافى و يتناقض مع طبائع العمران الفطرية الصحيحة ، لأنه تعالى أنزل كتابه موافقا للعقل الصريح و الفطر السليمة ، و لم يُنزّله مناقضا لهما ، لكنه سبحانه أنزل فيه أمورا لا يُدركها العقل البشري ، لكنه لا ينفيها و لا هي تتناقض معه ، فدين الإسلام جاء بما يتفق مع العقول السليمة ، و بما هو فوقها و لا تدركه ، لكنه لم يأت بالمستحيلات و المتناقضات التي تتنافى مع العقول و حقائق العمران و الطبيعة ، و كلامنا هذا تشهد له نصوص شرعية كثيرة ليس هنا مجال ذكرها ، لكن ما قلناه معروف من دين الإسلام بالضرورة .
و قال أيضا –أي فاروق النبهان- إن الخبر الشرعي (( ليس حادثة تاريخية ،و إنما هو رواية قولية أو فعلية تخضع لمعايير الرواية من حيث التعديل و التجريح ، و لهذا فإن صحة السنة النبوية تخضع لمعيار التعديل و التجريح ، و لا يمكن رفض الرواية لمخالفتها لطبائع العمران ، لأن السنة تكليف إنشائي ،و ليست إخبارا عن واقعة تاريخية .
و قوله هذا عير صحيح في معظم جوانبه بدليل المعطيات و الشواهد الآتية ، أولها إن تفريقه بين الحادثة التاريخية و الرواية هو تفريق غير صحيح ، لأن الرواية هي نفسها حادثة تاريخية، لأنها تُخبرنا عن أفعال و أقوال و تقريرات الرسول-عليه الصلاة و السلام- ، و هي في النهاية إخبار عن حقائق صدرت عن رسول الله ، في الماضي ، و بهذا فهي حوادث تاريخية ، لا تختلف عن أي حادثة تاريخية أخرى ، و الرواية في حقيقتها إخبار عن وقائع ماضية ، و هذا هو معنى الحادثة التاريخية .
و ثانيها إن قوله بأن الرواية الشرعية تخضع لمعايير الرواية من حيث الإسناد جرحا و تعديلا ، هو قول غير صحيح ، و لا يوجد دليل عقلي و لا شرعي يخص الرواية الشرعية بذلك المعيار . و لا يوجد في علم مصطلح الحديث ما ينص على تخصيص نقد الرواية الشرعية بالإسناد فقط دون المتن ، بل الصحيح هو أن المحدثين المحققين نقدوا الأحاديث النبوية و الروايات البشرية بمنهج واحد ، جمع بين نقد الإسناد و المتن معا ، و سنذكر على ذلك أمثلة كثيرة في موضع لاحق من هذا الفصل إن شاء الله تعالى .
و ثالثها إنه لا يُوجد فيالسنة النبوية الصحيحةما يتناقض مع طبائع العمران و الطبيعة ، لأن دين الإسلام ما جاء ليُناقض ذلك ، و إنما جاء ليجمع بين العقل و الفطرة و قوانين العمران و الطبيعة ، على هدى من نور الوحي ، الذي يُنير الطريق و يُبدد ظلماته ، و عليه فإن افتراض التناقض بين تلك العناصر هو افتراض خاطئ من أساسه .
و رابعها إن قوله بأن السنة النبوية هي تكليف إنشائي ،و ليست إخبارا عن واقعة تاريخية ، هو قول غير صحيح ، لأن الأحاديث فيها الإنشاء و الأخبار ، و كثيرا ما اجتمع الأمران في حديث واحد ، و الإنشاء هو نفسه خبر و حادثة تاريخية ، فإذا وصلنا حديث يقول فيه الرسول-عليه الصلاة و السلام- : (( خذوا عني مناسككم )) ، يكون قد وصلنا قول هو نفسه خبر و حادثة تاريخية ، مفاده أن رسول الله أمرنا بذلك الفعل هذا فضلا على الرواية نفسها جاءت بصيغة الخبر التاريخي، و عليه فإن كل من الخبر و الإنشاء يدخل في دائرة الحادثة التاريخية .

و رابعا إن نظرة ابن خلدون لنقد الأخبار من خلال الإسناد كانت قاصرة ، تضمّنت أخطاء كثيرة ، أولها إنه نظر لمنهج النقد عند المحدثين من خلال الجرح و التعديل، بمعنى أنه نظر إليه من خلال نقد الإسناد فقط ، و هذه نظرة جزئية و هي خطأ ، لا تنطبق على منهج أهل الحديث الذين أقاموا منهجهم النقدي على الجمع بين نقد الإسناد و المتن معا ، و أبدعوا فيهما أيما إبداع . لكن العجب من ابن خلدون ، كيف غاب عنه ذلك ؟ ! فلا ندري أكان يجهل ذلك ، أم نسيه ، أم تجاهله ؟ .
و ثانيها إنه لم يدرك أهمية استخدام الإسناد في نقد الروايات التاريخية ، فاستبعده في نقدها ، و حصره في نقد الأحاديث النبوية ، و هذا موقف خطأ ، لأن نقد الإسناد مطلوب في كل الروايات ، فهو يُوصلنا إلى الرواة الذين نقلوها إلينا ،و يُعرفنا بأحوالهم و مراتبهم ، من حيث عدالتهم و ضبطهم في روايتهم للأخبار ، لذا وجدنا كثيرا من السلف يُركزون على الإسناد ،و يحثون على استخدامه ، فقال عنه صالح بن أحمد بن حنبل : (( الحديث بلا إسناد ليس بشيء )) ،و شبّه سفيان بن عُيينة الذي يُحدث بلا إسناد كالذي يصعد إلى سطح البيت بلا درجة ، بمعنى أن الإسناد هو السلم الذي يُوصل إلى المتن.
و لا يغيب عنا أن هناك روايات كثيرة مكذوبة ، يصعب و قد يستحيل تحقيقها من المتن إلا من طريق الإسناد ، لأنها من صنف الروايات التاريخية الممكنة الحدوث المتعلقة بأقوال و أحوال الناس العادية اليومية ، و هذا النوع موجود أيضا في الأحاديث النبوية ، فأحاديث كثيرة حكم عليها نقاد الحديث بالوضع أو بالضعف ، مع أن متونها معانيها صحيحة ، كحديث : (( من لم يهتم بأمر المسلمين ليس منهم )) ،و حديث (( جُبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، و بغض من أساء إليها )) ، الحديث الأول ضعّفوه ،و الثاني قالوا إنه باطل ، بالاعتماد على نقد الإسناد. .
و ثالثها إنه –أي ابن خلدون- لم يتخذ موقفا صحيحا من مسألة الإسناد و المتن ، فقد مال إلى التركيز على نقد المتن ، و ازدرى بالإسناد و حصره في نقد الحديث النبوي ، و أبعده عن نقد الروايات البشرية ، و هذا موقف غير صحيح ، فكان عليه أن يجمع بين نقد الإسناد و المتن معا في كل خبر ، دون تفضيل أحدهما عن الآخر ، لأنهما متكاملان لا متناقضان ، ثم تبقى بعد ذلك طبيعة الرواية هي التي تفرض على المحقق التركيز على أحدهما أو عليهما معا .
و رابعها إن نظرته للإسناد غير الصحيحة، هي التي ربما صرفته عن استخدامه في تاريخه العبر و ديوان المبتدأ و الخبر ، فجاء تاريخه ناقصا لخلوه من الأسانيد التي هي توثيق للمادة التاريخية التي أوردها في تاريخه ، فبسب عدم ذكره لها –أي للأسانيد- حرمنا من إمكانية تحقيق رواياته باستخدام الأسانيد . كما أن غياب الأسانيد من الأخبار التاريخية ، يُؤدي إلى اختلاط كلام الرواة بكلام المؤلفين ،و يصبح التفريق بينهما صعبا ، و تسهل أمام المؤلف غير الأمين عملية التزوير و التحريف ، و التصرّف في الروايات كما يحلو له ، لأننا في هذه الحالة يصعب التفريق بين كلامه و كلام الرواة من جهة ، و ليست لدينا أسانيد لمعرفة مصدر تلك الروايات من جهة أخرى .
و خامسا إنه-أي ابن خلدون- وقع في أخطاء كثيرة فيما قاله عن المؤرخين المسلمين ، أولها إنه قال إن فحول المؤرخين المسلمين لم يرفضوا تُرهات الأحاديث ولا دفعوها ، و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، فإن منهم من كان ناقدا بارعا محققا ، نقد الأخبار و الأحاديث ،و رد كثيرا من الخرافات و المستحيلات ، على رأسهم : المؤرخ الناقد شمس الدين الذهبي (ت748ه) ،و الحافظ المؤرخ أبو الفدا ابن كثير (ت774ه) ، و يلحق بهؤلاء الناقد المؤرخ الخطيب البغدادي (ت463ه) ، و الناقد عبد الرحمن بن الجوزي (ت597 ه) ، و سنذكر من انتقاداتهم و تحقيقاتهم أمثلة كثيرة في موضع لاحق إن شاء الله تعالى .
و ثانيها إنه زعم أن كبار المؤرخين الذين ذهبوا بفضل الشهرة و الإمامة المعتبرة ، هم قليل لا يكادون يُجاوزون عدد الأنامل ، و على رأسهم : محمد بن إسحاق (ت156ه) ، و سيف بن عمر التميمي(ت200ه) و محمد بن الكلبي (ت204ه) ،و محمد بن عمر الواقدي (ت207ه) ،و ابن جرير الطبري(ت310ه) ،و المسعودي(ت346ه). . و قوله بأن هؤلاء هم الذين ذهبوا بالفضل و الإمامة المعتبرة ، هو قول غير صحيح و لا يصدق إلا على الطبري ، و أما الباقي فهم و إن نالوا الشهرة ، فلم ينالوا الفضل و لا الإمامة المعتبرة عند العلماء النقاد المحققين من أهل الجرح و التعديل ، فقالوا عن محمد بن إسحاق إنه لم يكن في مستوى النقد و النقل و لا التحقيق ، فكان يُدلّس في الأخبار ،و يروي عن أي إنسان ،و لا يتورّع و لا يُبالي عمن يروي أخباره ، و فروى عن المجهولين الأباطيل ، و الواهيات ،و المناكير ، و الأخبار المنقطعة ، و اختلف النقاد في توثيقه ، فمنهم من جرّحه ، و منهم من وثّقه.
و قالوا عن سيف بن عمر التميمي إنه كان ضعيفا مُتهما بالزندقة ، و وضع الأحاديث ، و الرواية عن الكذابين و المجهولين ، و قال عنه يحيى بن معين : فِلس خير منه.
و قالوا عن محمد الكلبي أإنه كذاب ، له كتاب في التفسير ملأه بالأكاذيب ، رواه عن الكذاب أبي مسلم مولى أم هانئ ، وقال أحمد بن حنبل عن تفسيره : لا يحل النظر فيه.
و قالوا –أي النقاد المحققون- عن الواقدي إنه يروي المناكير عن المجهولين ، و لم يكن أمينا فيما يرويه ، و ليس بثقة و متهم بالكذب ، و كان حاطب ليل في مؤلفاته الكثيرة ، خلّط فيها الغث و السمين ، و الخرز بالدر الثمين ، لذا طرحه العلماء و لم يحتجوا به ، و قال الإمام الشافعي عن مؤلفاته : : كُتب الواقدي كذب . و قال الحافظ علي بن المديني : كُتب الواقدي كتبها عن الكذاب إبراهيم بن يحيى . و اتهمه كبار المحدثين بوضع الأحاديث و رواية المناكير عن المجهولين.
و أما المسعودي فقال ابن تيمية عن تاريخه : فيه أكاذيب كثيرة ، لا يحصيها إلا الله تعالى ، و كتابه هذا معروف بكثرة الكذب . و قال الحافظ الذهبي إن المسعودي كان معتزليا صاحب ملح و غرائب و عجائب.
و أما الطبري فهو الوحيد الذي وثّقه علماء الجرح و التعديل ، و مع ذلك فإن تاريخه مليء بالأكاذيب و الروايات الباطلة ، لأنه رواها كما وصلته عن الكذابين دون نقد و لا تمحيص لها.
فهل يصح بعد الذي ذكرناه عن هؤلاء ، أن يُقال إن هؤلاء نالوا الإمامة المعتبرة في رواية التاريخ الإسلامي و تدوينه ؟ ، و كيف ينالونها و هم كلهم-ما عدا الطبري- مجروحون و متهمون بالكذب و الرواية عن المجروحين و المجهولين ؟ ،و أليس ما قاله ابن خلدون في مدح هؤلاء هو خطأ ،و مجازفة لم يلق لها بالا ؟ .
و هو –أي ابن خلدون- قد اعترف بأن المسعودي و الواقدي قد طعن فيهما المحققون الحفاظ الثقات ، ثم زعم أنه رغم ذلك فإن الكافة قد اختصتهما بقبول أخبارهما . و هذا زعم باطل فيه قدح و طعن في علماء الحديث الثقات المحققين ، فكيف يُجرّحونهما ، و يُحذّرون منهما ، و يتهمونهما بالكذب ، ثم يقبلون أخبارهما بإجماع منهم ؟ ؟ أليس هذا هدم لعلم الجرح و التعديل ؟ ، و متى كان علماء الحديث يقبلون روايات الكذابين ؟ ، و هذه كتبهم شاهدة على أمانتهم و دقتهم و حرصهم على التحقيق ، و قد سبق أن ذكرنا بأن الذهبي قال صراحة إن العلماء طرحوا الواقدي، و قال الشافعي إن كتبه –أي الواقدي- كذب . و انتقده الذهبي في روايات كثيرة ، و قال عنه في إحداها : (( و الواقدي لا يعي ما يقول. .
و كيف يقبلون روايات المسعودي ، و هو معروف برواية الأكاذيب و الأباطيل بشهادة ابن خلدون نفسه؟ . و كيف يقبلون أخباره و قد كان معتزليا شيعيا رافضيا ؟ و المعروف في علم الجرح و التعديل عدم قبول روايات الكذابين من أهل البدع و الأهواء ، كالمعتزلة و الرافضة ، فقد قال الإمام مالك في الرافضة : لا تكلّموهم و لا ترووا عنهم ، فإنهم يكذبون . و قال عنهم الإمام الشافعي : لم أر أشهد بالزور من الرافضة .و قال شريك : أحمل العلم من كل من لقيت إلا الرافضة ، فإنهم يضعون الحديث و يتخذونه دينا . و قال يزيد بن هارون : يُكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية لها ، إلا الرافضة فإنهم يكذبون . و قال الذهبي : أكثر ما ترويه الرافضة كذب ، فإن دأبهم رواية الأباطيل ،و رد ما في الصحاح و الأسانيد ، و تكفير الصحابة و التدثر بالتقية و النفاق . و قال ابن قيم الجوزية : إن الرافضة أكذب خلق الله ،و أكذب الطوائف . و قال ابن حجر العسقلاني : الشيعة لا يُوثق بنقلهم.
فهل من كان هذا حاله ، يُقال إن الكافة اختصته بقبول أخباره ؟ أليس ما قاله ابن خلدون كلام باطل ، و افتراء على النقاد المحققين ؟ ، هذا فضلا على أنه في زعمه هذا لم يذكر أي دليل لدعم زعمه ، و لم ينقل لنا أي قول من أقوال علماء الجرح و التعديل لتأييد ما ادعاه .
و ثالثها –أي الأخطاء- إنه عندما ذكر كبار المؤرخين المسلمين أغفل طائفة من كبار النقاد المحققين المؤرخين المتأخرين ، منهم : الذهبي ، و ابن كثير ، و ابن الجوزي ، و ابن تيمية ، و ابن قيم.، و هؤلاء يمتازون بخصائصكثيرة لم تتوفر في المؤرخين الأوائل الذين سماهم ابن خلدون فحولا ، و لا ندري السبب الذي صرفه عن ذكر هؤلاء .
ثم إنه عندما ذكر كبار المؤرخين المتقدمين ، و من جاء بعدهم ، زعم أنه لم يأت بعد هؤلاء إلا (( مقلد و بليد الطبع و العقل ، أو متبلد ينسج على ذلك المنوال ، و يحتذى منه بالمثال ، و يذهل عما أحالته الأيام من الأحوال))، و هؤلاء جمعوا الروايات جمعا بلا تحقيق.و زعمه هذا ليس صحيحا على إطلاقه ، فإنه لا يصدق على كل المؤرخين المتأخرين ، و إنما يصدق على طائفة منهم . كما أن في قوله هذا ذم و قدح ، و وصف لطائفة من كبار محققينا و مؤرخينا ، بالتقليد و البلادة ،و الجمع دون تحقيق ، و وصفه لهؤلاء بتلك الأوصاف فيه ظلم و إجحاف و طمس للحقائق ، لأننا نعلم أن في المؤرخين المتأخرين طائفة من كبار المحققين ، كانت قمة في الذكاء و الاجتهاد و التحرر ، و التحقيق و النقد ، و الجرأة في الحق ، و الزهد في الدنيا ، على رأسها : عبد الرحمن بن الجوزي، و تقي الدين بن تيمية ، و محمد بن عبد الهادي، و الذهبي، ابن قيم الجوزية ، و ابو الحجاج المزي، و ابن كثير ، و هؤلاء كلهم كانوا محقيقين محدثين مؤرخين، ماتوا كلهم قبل أن يكتب ابن خلدون مقدمته ، و كانت لهم تحقيقات و تمحيصات رائدة في النقد التاريخي ، سبقوا بها ابن خلدون في مجال نقد الأخبار ، سنذكر منها طائفة بشيء من التفصيل في مبحث لاحق نخصصه لمنهج النقد التاريخي عند المؤرخين قبل ابن خلدون ، و نقارنه مع منهجه هو ، إن شاء الله تعالى .
و هنا نتساءل : لماذا أغفل ابن خلدون ذكر تلك الطائفة ؟ ، ثم إنه لم يكتف بذلك ، و إنما حمل عليها حملة شعواء ، فوصفها بالتقليد ، و بلادة الطبع و العقل ، و البعد عن التحقيق ، فهل نسيها أم تناساها ؟ ،و هل كان يجهلها أم تجاهلها ؟ ، و الأرجح إنه لم ينساها ، و لم يكن يجهلها ، لأنه ذكر بعضهم في تاريخه العبر و ديوان المبتدأ و الخبر، و هؤلاء أعلام مصنفاتهم مشهورة ، و كانت متداولة بين أهل العلم في عصر ابن خلدون ، و عليه فإنه يبدو لي إنه تناسهم و تجاهلهم ، و ألحقهم بالطائفة المقلدة البليدة عمدا ، ليُظهر لنا و ليوهمنا أن المؤرخين و المحدثين المسلمين الذين سبقوه ، كانوا بعيدين عن التحقيق التاريخي القائم على نقد المتن باستخدام قانون المطابقة و غيره . و أنهم حصروا نقدهم في الإسناد من جهة ، و أنه هو –أي ابن خلدون- صاحب المنهج النقدي التاريخي الجديد ، الذي اكتشفه و اهتدى إليه ، و أُلهم إياه إلهاما من جهة .
و سادسا إنه سبق أن ذكرنا إن ابن خلدون اتهم المؤرخين و المحدثين بعدم استخدامهم لقانون المطابقة في نقد المتون ، و أنهم ركزوا على نقد الأسانيد ، و رووا المستحيلات في مصنفاتهم ، لاعتمادهم على مجرد النقل ، و ابتعادهم عن النقد و التمحيص ، فأوقعهم ذلك و غيره ، في كثرة الأخطاء و رواية الخرافات ، فهل ما قاله يصدق على كل المؤرخين الذين سبقوه ؟ و هل صحيح أنه هو مكتشف منهج النقد التاريخي الذي عرضه في مقدمته ؟ .
و إجابة عن ذلك أورد الحقائق و الشواهد الآتية ، أولها أنه وُجدت في التاريخ الإسلامي طائفة من كبار الحفاظ المؤرخين المحققين ، لم يكن أفرادها عاجزين عن نقد الروايات التاريخية و تمحيصها ، لما كانوا يتمتعون به من علم غزير ، و قدرات علمية مبدعة ، منهم : الخطيب البغدادي، و ابن عساكر ، و ابن الجوزي ، و ابن تيمية ، و محمد بن عبد الهادي، و الذهبي، و ابن قيم الجوزية ، و أبو الحجاج المزي، و ابن كثير ، و هؤلاء لهم مصنفات تشهد لهم على مهارتهم في نقد الأخبار و تمحيصها ؛ منها: كتاب الموضوعات في الأحاديث المرفوعات ، و كتاب العلل المتناهية ، و هما لابن الجوزي ، و كتاب ميزان الاعتدال في نقد الرجال ، للذهبي نقد فيه كثيرا من الروايات إسنادا و متنا.
و منها أيضا كتاب المنار المنيف في الصحيح و الضعيف ، لابن قيم الجوزية (ت751ه) ، و يُعرف أيضا بعنوان آخر هو : نقد المنقول و المحك المميز بين المردود و المنقول ، و هو كتاب قيم للغاية ، خصصه مؤلفه لنقد الأحاديث و تمحيصها من خلال المتن فقط ، ردا على سؤال ورد إليه ، يقول : هل يمكن معرفة الحديث الموضوع-أي المكذوب- بضابط من غير أن يُنظر في سنده ؟ ، فأجاب ابن قيم : (( هذا سؤال عظيم القدر ، ... ثم شرع في الإجابة عليه ، و وضع ضوابط و قواعد لذلك ، نذكر بعضها في موضع لاحق إن شاء الله تعالى ، فجاء السؤال و الجواب ردا دامغا على اتهامات ابن خلدون ، فالسؤال فيه إشارة إلى أنه وُجد قبل أن يكتب ابن خلدون مقدمته ، من فكر في موضوع نقد الأخبار من متونها دون أسانيدها .و الكتاب هو رد علمي قاطع و مفصل ، لدور بعض المحدثين المحققين في الاهتمام بمنهج نقد المتون و التأليف فيه ، قبل أن يكتب ابن خلدون منهجه التاريخي .
و ثانيها أنه وُجد بين العلماء المسلمين طائفة من النقاد تميزت بالروح النقدية ، و كانت لها انتقادات لغيرها من الحفاظ و المؤرخين و الفقهاء و الكتابيين ، مما يدفع عنها اتهامات ابن خلدون التي كالها للحفاظ و المؤرخين المسلمين ، فمن هؤلاء النقاد : الإمام مالك بن أنس (ت179ه) ، قال عن المحدث عبد الملك بن جريج الأموي(ت149ه) : كان حاطب ليل ، قال عنه ذلك رغم أنه كان عدلا ثقة
و منهم المحقق المؤرخ ابن حزم الأندلسي (ت456ه) ، انتقد اليهود في روايتهم للخرافات و الأباطيل في كتبهم المحرفة ، منها انهم رووا أن لحية فرعون كان طولها 700 ذراع . و أن طائرا باض و هو في السماء ، فوقعت البيضة على 13 مدينة فهدمتها كلها
و منهم المؤرخ الحافظ الخطيب البغدادي (ت 463ه) ، انتقد طائفة من محدثي زمانه ، قال إنها جاهلة لا علم لها و لا فهم ، و تزعم أنها على منهاج علماء الحديث المحققين ، و هي قد خالفت مسلكهم في نقد الأحاديث و تحقيقها على مستوى الأسانيد و المتون ، و اكتفت بجمع المصنفات و تحمل المشاق ،و ركوب الأهوال في الأسفار ، و الأخذ عن كل من هب و دب.
و انتقد أيضا الكوفيين و الخُراسانيين بأنهم يكثرون رواية الأكاذيب ، و قال إن لديهم نسخا كثيرة في الأحاديث الموضوعة ، و الأسانيد المصنوعة ، و ذكر من الكوفيين راويا رافضيا كذابا يُسمى عيسى بن مهران المعروف بالمستعطف (ق: 4ه ) ، قال إنه صنف كتابا في الصحابة ، ملأه طعنا فيهم ، و تضليلا و تكفيرا لهم ،و أودع فيه كثيرا من الأحاديث الموضوعة ، و الأقاصيص المختلقة ،و الأنباء المفتعلة ، رواها بأسانيد مظلمة عن سقاط الكوفة ، من الكذابين و المجهولين.
و منهم أيضا المتكلم المؤرخ القاضي أبو بكر بن العربي المالكي( ت ق: 6ه) انتقد طائفة من المؤرخين بشدة في كتابه العواصم من القواصم ، و اتهمها برواية الأباطيل من الأخبار و قال إنها من سفهاء المؤرخين ، و دعا إلى ترك سخافاتها فيما ترويه من أخبار
و منهم الحافظ المؤرخ عبد الرحمن بن الجوزي ، انتقد بعض المؤرخين في أنهم يروون أخبارا مستهجنة عند ذوي العقول ، و أخرى تجري مجرى الخرافات ، و أخرى حوادث لا معنى لها و لا فائدة.و انتقد أيضا الحافظ أبا نعيم الأصفهاني في أنه ذكر في كتابه حلية الأولياء ، أحاديث كثيرة باطلة و سكت عنها ، و لم يذكر أنها موضوعة ، أراد بها تكثير حديثه ،و ترويج رواياته.
لكن ابن الجوزي نفسه تعرض للانتقاد على يد الحافظ المؤرخ ابن حجر العسقلاني، فقال إن ابن الجوزي روى أن المتكلم ثمامة بن أشرس المعتزلي قُتل سنة 213 ه ، و كان ممن سعى في قتل المحدث أحمد بن نصر الخزاعي البغدادي ؛ فعقّب عليه ابن حجر بقوله : هذا تناقض ، لأن أحمد بن نصر قتله الخليفة الواثق سنة بضع و عشرين و مائتين ، و ثمامة قُتل سنة 213ه ، فكيف يسعى لقتله ؟ ! ثم قال : (( و دلت هذه القصة على أن ابن الجوزي حاطب ليل ، لا ينقد ما يُحدث به.
و واضح إن ابن الجوزي أخطأ فيما رواه ، لكنه لا يدل بالضرورة على ما ذهب إليه ابن حجر ، من أنه لا ينقد ما يحدث به ، فقد يكون ذلك الخطأ من باب السهو و الغفلة و النسيان ، لأن الرواية التي رواها ظاهرة البطلان ، لا تغيب عن أصغر الناس علما إذا كان ملما بمعطياتها ، فكيف تغيب عن ابن الجوزي ؟ ، لكن قولنا هذا لا يعني أن ابن الجوزي لم يكن يروي الضعيف و الموضوع في مصنفاته ، و إنما المقصود من ذلك أن ابن الجوزي كان يتمتع بنزعة نقدية تمحيصية ، طبقها في روايات ، و عطّلها في روايات أخرى ، و سنذكر له قريبا طائفة من الروايات نقدها نقدا تاريخيا صحيحا .
و منهم أيضا شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية(ت728ه) ، انتقد بعض الحفاظ المؤرخين و قال إنهم يتعمدون ذكر أحاديث ضعيفة في مصنفاتهم ، كأبي نُعيم الأصفهاني، و الخطيب البغدادي، و ابن عساكر ، و ابن الجوزي . و انتقد الشيعة الرافضة في روايتهم للأكاذيب ،و قال إنهم من أكذب الناس في النقليات و من أجهلهم في العقليات ، يُصدقون من المنقول ما يعلم العلماء بالاضطرار أنه من الأباطيل ، و يُكذبون بالمعلوم من الاضطرار المتواتر عن الأمة جيلا بعد جيل ، و لا يُميزون في نقلة العلم و رواة الأحاديث و الأخبار ، بين المعروف بالكذب ، أو الغلط ، أو الجهل بما ينقل ، و بين العدل الحافظ الضابط المعروف بالعلم و الآثار.
و كان ابن تيمية في ردوده على الرافضي ابن المطهر الحلي و مناقشاته المطولة له ، يُطالبه في البداية بصحة النقل فيما يرويه من أحاديث و أخبار تاريخية ، قبل الانتقال إلى مسائل أخرى . لأنه لا فائدة من مناقشة قضايا شرعية و غيرها انطلاقا من أحاديث غير صحيحة . كما أن المطالبة بصحة النقل أولا ، تكشف الخصم و تعطل حجته و تقوّضها من أساسها ، إذا كان قد بنى دعواه على نقل غير صحيح ، أو هو الذي أخفاه ، أو لا علم له به .
و منهم المؤرخ الناقد شمس الدين الذهبي(ت748ه) ، هو من أكثر المؤرخين الحفاظ توسعا في نقد و تمحيص الأحاديث و الروايات التاريخية ، فقد طبق منهج النقد الحديثي التاريخي في كتابه سير أعلام النبلاء على كثير من الشخصيات التي ترجم لها ، و لم يحصره في المحدثين فقط ، و توسع في النقد توسعا كبيرا ، حتى أنه نقد و محّص مئات الروايات إسنادا و متنا.
و انتقد أيضا المحدثين و الفقهاء في روايتهم للموضوعات في مصنفاتهم و سكوتهم عنها ، كأبي نعيم الأصفهاني ، و الخطيب البغدادي، و عبد الرحمن بن مندة الأصفهاني (ت470ه) الذي وصفه بأنه كان حاطب ليل في مصنفاته ، يروي الغث و السمين ، و ينظم رديء الخرز مع الدر الثمين . و قال عن القاضي عياض ( ت ق :6ه ) إنه روى في كتابه الشفا أحاديث غير صحيحة ، و لم يكن له نقد في فن الحديث ، و لا له فيه ذوق ، ثم قال –أي الذهبي - : (( فلماذا يا قوم نتشبع بالموضوعات ، فيتطرق إلينا مقال ذوي الغل و الحسد .
و انتقد أيضا الحافظ علي بن يوسف الشطنوفي المصري (ت ق: 7ه ) ، في أنه جمع أخبار الشيخ عبد القادر الجيلاني في نحو ثلاثة مجلدات ، كتب فيها عمن أقبل و أدبر ، فراجت عليه حكايات كثيرة مكذوبة.و نقد أيضا محدثي زمانه ، فقال إنهم يُكثرون من رواية الغرائب و المناكير ،و في رواياتهم كثير من الوهم و الغلط ، حتى وصل بهم الأمر إلى رواية الموضوعات و الأباطيل و المستحيل في الأصول و الفروع ، و الملاحم و الزهد ، ثم حثّهم على التوبة عما يفعلونه ،و تنقية مروياتهم ، و من لم يفعل ذلك يُستتاب ، و إلا فهو فاسق ، لأنه ظلم نفسه و جنى على السنن و الآثار.
و آخرهم الحافظ ابن كثير (ت 774ه) ، تميز بروح نقدية تمحيصية عالية ، فمن ذلك انتقاده لأهل الأهواء من الشيعة و غيرهم ، فقال إن هؤلاء رووا أحاديث مختلقة ، و أخبارا موضوعة ، تناقلوها فيما بينهم ، و إذا دُعوا إلى الحق الواضح أعرضوا عنه ، و قالوا : لنا أخبارنا و لكم أخباركم . ثم قال : و نحن نقول لهم سلام عليكم لا نبتغي الحاهلين . و قال أيضا (( و للشيعة الرافضة في صفة مقتل الحسين كذب كثير ، و أخبار باطلة )) ، هم الذين وضعوها ،و لا يصح منها شيء.
و انتقد أيضا بعض كبار المحدثين و المفسرين في روايتهم للموضوعات و الأباطيل و سكوتهم عنها، فانتقد منهم أبا القاسم بن عساكر (ت571ه) في روايته للأحاديث الضعيفة ، و تعجّب منه كيف أنه مع حفظه و اطلاعه ، يرويها و يسكت عنها ،و لا يُنبّه على نكارتها ،و ضعف رجالها.و انتقد المفسرين في روايتهم لأخبار بني إسرائيل المعروفة بالإسرائيليات ، و قال إن في الكتاب المجيد غُنية عن ذلك ، و أن هؤلاء ليس بهم احتياج إلى تلك الأخبار . لذلك ضرب هو –أي ابن كثير- صفحا عن الإسرائيليات في تاريخه و تفسيره ، و قال إن غالبها مُبدل مُصحف ، مُحرّف مُختلق ، و لا حاجة لنا فيه ، مع خبر الله تعالى و رسوله –عليه الصلاة و السلام- و قد دخل منها على الناس شر كثير و فساد عريض.
و ثالثها- أي الحقائق و الشواهد- هي أنه وُجدت طائفة من الحفاظ المؤرخين أنكرت رواية الخرافات و المستحيلات ، و عليه فإنه لا يصدق عليها ما قاله ابن خلدون في انتقاده للمؤرخين المسلمين في روايتهم للمستحيلات . و يجب أن لا يغيب عنا أنه وُجدت في التاريخ الإسلامي طائفة من الزنادقة كانت تختلق الروايات الباطلة المستحيلة و تنسبها لأهل الحديث ، ليُشنّع بها عليهم بأنهم يروون المستحيلات في أخبارهم.
و من الذين رفضوا رواية المستحيلات الخطيب البغدادي ،فإنه انتقد أحد محدثي بغداد بأنه روى خبرا منكرا مستحيلا . و انتقد أيضا المقرئ الحسن بن غالب البغدادي(ت458ه) ، في أنه اختلق روايات و جعل لها أسانيد باطلة مستحيلة.

و الثاني هو الحافظ الذهبي انتقد كثيرا من الحفاظ لروايتهم للموضوعات و الخرافات و المستحيلات ، كأبي نعيم الأصفهاني ، و أبي القاسم إسماعيل التميمي المعروف بقوام السنة(ت535ه) ، و غيرهما من المحدثين . و أشار أيضا إلى أن الكتاب الذي أُلف في سيرة الأمير القائد أبي محمد البطال( ت112ه) ، هو كتاب مُختلق ، فيه أشياء مكذوبة مستحيلة.
و الثالث هو أبو الفدا بن كثير ، انتقد رواية مفادها أن نهر النيل ينبع من مكان مرتفع اطلع عليه بعض الناس فرأى فيه هولا عظيما ، و جوار حسانا ،و أشياء غريبة ، و أن الذي اطلع على ذلك لا يمكنه الكلام بعد ذلك ، فقال ابن كثير إن هذه الرواية هي من خرافات المؤرخين ، و هذايانات الأفاكين.و انتقد أيضا المفسرين في روايتهم للخرافات و المجازفات الكثيرة الباطلة ، منها أنهم رووا عن القصاص و الأخباريين أن ذا القرنين سار في الأرض مدة ،و الشمس تغرب من ورائه ، و هذه الرواية هي عند ابن كثير لا حقيقة لها ، و من خرافات أهل الكتاب اختلقها زنادقتهم.
و يلتحق بهؤلاء اثنان من كبار المؤرخين هما : ابن الجوزي، و ابن الأثير ، الأول انتقد بعض المؤرخين في روايتهم للخرافات.و الثاني روى أخبارا خُرافية عن الفرس ، ثم ذكر أنه كان قد عزم على تركها ، لأنها أخبار خُرافية تمجها الأسماع ، و تأباها العقول و الطباع ، و لكنه مع ذلك رواها و نبّه عليها ،و لم يذكرها اعتقادا لها..و هذان المؤرخان و إن لم يتوسعا في نقد ما ذكراه ، فقد كان لهما وعي تاريخي و حِس نقدي في تدوين التاريخ .
و رابعها هي أنه وجُدت طائفة من النقاد المحققين المسلمين كان لها وعي و إدراك و تصوّر لتعدد طرق-مناهج- النقد و التحقيق في مجال النقد التاريخي على مستوى المتون و الأسانيد ، مما يعنى أن ما زعمه ابن خلدون من أن المحدثين و المفسرين و المؤرخين المسلمين ، أهملوا نقد المتون و ركّزوا على الأسانيد هو زعم غير صحيح على إطلاقه ، و إنما هو يصدق على طائفة منهم ، و لا يصدق عليهم كلهم ، و منهم الفقيه أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني(ت403ه) ، كان يقول أن من دلائل الوضع في الحديث ، أن (( يكون مخالفا للعقل ، و بحيث لا يقبل التأويل ، و يلتحق به ما يدفعه من الحِس و المشاهدة ، أو يكون منافيا لدلالة الكتاب القطعية ، أو السنة المتواترة ، أو الإجماع القطعي ، و أما المعارضة مع امكان الجمع فلا )) . و قوله هذا غاية في الأهمية جمع فيه طائفة من طرق تحقيق الأحاديث و تمحيصها من خلال متونها لا من أسانيدها ، محتكما في ذلك إلى العقل و النقل ، و الحس و المشاهدة .
و الثاني هو عبد الرحمن بن الجوزي ، كان يقول : (( ما أحسن قول القائل : إذا رأيت الحديث يُباين المعقول ، أو يُخالف المنقول ، أو يناقض الأصول ، فاعلم أنه موضوع )) ، و معنى مناقضته للأصول أن يكون الحديث خارجا عن دواوين الإسلام ، من المسانيد و الكتب المشهورة . و قوله هذا غاية في الأهمية يُشبه كثيرا قول الباقلاني الآنف الذكر ، و هو-أي ابن الجوزي- و إن كان حكاه عن غيره ، فهو قد استحسنه ، و أيده ، مما يعنى أنه كان يقول به و يعتقده ، و مما يزيد ذلك تأكيدا بأنه –أي ابن الجوزي- انتقد بعض المؤرخين في أنهم يذكرون أخبارا مستهجنة عند ذوي العقول ، و أخرى تجري مجرى الخرافات ،و أخرى حوادث لا معنى لها و لا فائدة . و قوله هذا يستبطن منهجا نقديا متعدد الطرق ، قائما على نقد المتن .
و الثالث هو المؤرخ عز الدين بن الأثير (ت630ه) ، إنه عندما روى أخبارا عن الفرس ، قال إنها من الأشياء التي تمجها الأسماع ،و تأباها العقول و الطباع . و قوله هذا هو أيضا يستبطن منهجا نقديا متعدد الطرق ، يقوم على استخدام الأسماع و العقول و الطباع في نقد الروايات التاريخية و تمحيصها .
و الرابع هو الشيخ تقي الدين بن تيمية ، ذكر صراحة أن هناك طرقا متعددة يُعلم بها كذب الأخبار من غير طرق أهل الحديث ، فتارة تُعرف (( بالعقل ، و تارة بما علم بالقرآن ،و تارة بما علم بالتواتر ،و تارة بما أجمع الناس كلهم عليه ، و من المعلوم أن الأخبار المخالفة للقرآن ،و التواتر و الإجماع ، و المخالفة للعقل ، يعلم بطلانها )) . و قوله هذا هو أيضا غاية في الأهمية يُشبه قول الباقلاني ، و قولهما فيه رسم لمنهج تاريخي نقدي متعدد الطرق ، قائم على نقد المتون ، لكن في قوله-أي ابن تيمية- إن هناك طرقا يُعلم بها كذب الأخبار من غير طريق أهل الحديث ، فيه إشكال ، فهو إما أنه يقصد أن منهج أهل الحديث يقوم على نقد الأسانيد فقط دون المتون ، و هذا قول غير صحيح قطعا ، لأنه هو شخصيا يعلم أن منهج أهل الحديث يجمع بين نقد الإسناد و المتن معا ، و أن لأهله روايات كثيرة نقدوها من متونها ، و قد سبق أن ذكرنا كثيرا من أقوالهم في نقد المتون ،و سنذكر لهم شواهد أخرى كثيرة نقدوها من متونها .
و إما أنه -أي ابن تيمية- صدر عنه ذلك القول غفلة و سهوا و نسيانا . و إما أنه كان يقصد أن أغلب نقد المحدثين للأخبار إنما هو للأسانيد . و إما أنه كان يقصد أن طريق أهل الحديث يقوم على الجمع بين نقد الإسناد و المتن معا ، دون إلغاء لأحدهما ، و على الاحتمالين الأخيرين يكون قوله صحيحا .
و الخامس هو المحدث محمد بن جماعة الدمشقي (ت 733ه) ، ذكر في كتابه المنهل الروي أن مما يُعرف به الوضع في متن الحديث : ركاكة اللفظ و المعنى ، و مخالفته للمعلوم المقطوع به . و قوله : المقطوع به ، يندرج فيه المقطوع به في الشرع و العقل ،و الإجماع و المشاهدة ، و هو قول صريح في أن مؤلفه كان مدركا لتعدد طرق نقد الأحاديث إسنادا و متنا ، و قد خصّ نقد المتن بما نقلناه عنه.
و السادس هو الحافظ شمس الدين الذهبي ، انتقد محدثي زمانه بكثرة الغلط و الوهم ، و روايتهم للغرائب و المناكير ، و الموضوعات و الأباطيل ، و المستحيلات ، في الفروع و الأصول ،و الملاحم و الزه . و قوله هذا يستبطن هو أيضا منهجا نقديا متعدد الطرق ،قائما أساسا على نقد المتون و تمحيصها ، لأنه ما كان في مقدوره أن ينتقدهم في تلك الأمور ، لو لم يركز على نقد المتون بعرضها على صحيح المنقول ، و صريح المعقول ، و حقائق الطبيعة و العمران ، و سنذكر له على ذلك أمثلة كثيرة ، في موضع لاحق إن شاء الله تعالى .
و السابع هو المحقق ابن قيم الجوزية ، صنف كتابا في تمييز الأحاديث و نقدها من خلال المتون فقط ، ردا على سؤال ورد إليه ، فوضع أكثر من 13 معيارا ضابطا لتمييز صحيح الأحاديث من سقيمها ، منها احتواء الأحاديث على المجازفات ، و ركاكة الألفاظ و سماجتها ، و تكذيب الِحس و المشاهدة لها ، و مناقضتها للسنة الصحيحة ، و مخالفتها لصريح القرآن الكريم ، و بطلانها في ذاتها ، و عدم مشابهتها لكلام الأنبياء ، و مخالفتها للشواهد الصحيحة.و هذه المعايير الضابطة-و غيرها- هي أدلة قاطعة على أن ابن قيم الجوزية كان عالما بتعدد طرق النقد في الروايات الحديثية و التاريخية على مستوى الأسانيد و المتون ، و هي أيضا قواعد ذهبية أبدع فيها ابن قيم مستعينا بالذين سبقوه وبما حباه الله تعالى به من علم و روح نقدية عالية .
و آخرهم –أي الثامن- الحافظ المؤرخ عماد الدين بن كثير ، ردّ روايات كثيرة لأنها تخالف النقل و العقل. . و عندما تعرّض لموضوع الإسرائيليات رد معظمها ، و قال إنها من خرافات بني إسرائيل اختلقها بعض زنادقتهم ، و أشار إلى أن الذي يجوز روايته من أخبارهم هو ما يُجوّزه العقل ، فأما ما تُحيله العقول ،و يُحكم فيه بالبطلان ،و يُغلب على الظنون كذبه ، فليس من هذا القبيل الذي تجوز روايته .و كلامه هذا صريح في تبنيه لمنهج نقدي متعدد الطرق ، قائم على نقد المتن ، اعتمادا على صحيح المنقول و صريح المعقول .
و يتبين من أقوال هؤلاء النقاد المحققين أنهم ركزوا على نقد المتون انطلاقا من معرفتهم بتعدد طرق نقد الروايات الحديثية و التاريخية ، و عدم انحصارها في نقد الأسانيد . و واضح من أقوالهم أيضا أنها كانت غاية في الأهمية ، أقاموها أساسا على قانون المطابقة الذي جعله ابن خلدون أحسن المعايير و أهمها في النقد التاريخي ، فذكرنا أنهم حرصوا على ضرورة مطابقة الأخبار المروية للمنقولات ، و المعقولات ، و للمحسوسات ، و المشاهدات ، و للإجماعات ، و طبائع العمران، الأمر يثبت قطعا أنهم سبقوا ابن خلدون في تقرير و تقعيد منهج النقد التاريخي القائم على نقد المتون و الأسانيد معا ، و لم يكن هو مكتشفه .
و سابعا إننا في هذا الموضع نذكر نماذج كثيرة لطائفة من العلماء النقاد ، حققوا من خلالها روايات حديثية و تاريخية متنوعة ، نذكرها شواهد تطبيقية لممارستهم للنقد التاريخي إسنادا و متنا ، و إدراكهم لتعدد طرقه ، و لتكون أيضا ردا على ابن خلدون فيما زعمه من أن المحدثين و المؤرخين المسلمين أهملوا النقد التاريخي ،و اهتموا بنقد أسانيد الأحاديث على حساب متونها . و نذكرها-أي الشواهد – في النماذج الآنية :
أولها يخص نقد الأسانيد و المتون معا، و يتضمن طائفة من الأمثلة المتنوعة ، منها ما ذكره الإمام مسلم (ت261ه) من أنه كانت للمحدث ابن لُهيعة أوهام فاحشة ، منها إنه روى أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- احتجم في مسجده ، فعقّب عليه مسلم بقوله : (( و هذه رواية فاسدة من كل جهة ، فاحش خطؤها في المتن و الإسناد معا جميعا )) ، وذلك أن ابن لُهيعة مُصحّف في متنه و مُغفل في إسناده ، ثم بيُن أن معنى الحديث هو أن رسول الله احتجر في المسجد بخوصة أو حصير يصلي فيه ، و ليس معناه أنه احتجم فيه .
و المثال الثاني مفاده أن الحافظ أبا داود السجستاني (ت275ه) انتقد الواعظ غلام الخليل البغدادي(ت275ه) ، و وصفه بأنه دجال بغداد ، ثم قال إنه نقد 400 حديث رواها غلام الخليل فوجدها كلها كذب بمتونها و أسانيدها.
و المثال الثالث يخص ما قاله الحافظ عبد الله بن عدي الجرجاني (ت365ه) عن مرويات محمد بن سليمان بن مسمول، من أن عامتها لا يُتابع فيها ، من حيث أسانيدها و متونها. . و عندما نقد الراوي محمد بن عبد الرحمن القسري ، قال إنه مجهول ، روى أحاديث بأسانيده كلها مناكير ، و منها ما متنه منكر.
و المثال الرابع يتضمن نقد ابن الجوزي لرواية مفادها أن الصحابي أبا ذر الغفاريدخل على الخليفة عثمان بن عفان-رضي الله عنهما- و عنده كعب الأحبار، فقال الخليفة : يا كعب إن عبد الرحمان بن عوف مات و ترك مالا فما ترى فيه ؟ فقال : إن كان يصل فيه حق الله تعالى ، فلا بأس به . فرفع أبو ذر عصاه و ضرب بها كعبا ، و قال : سمعت رسول الله –صلى الله عليه و سلم- يقول : (( ما أحب لو أن لي هذا الجبل أنفقه و يتقبل مني ،و أذر منه ست أواقي )) ، ثم قال لعثمان : أنشدتك الله يا عثمان ، أسمعت هذا-قالها ثلاث مرات- قال: بلى . وهذا عند ابن الجوزي خبر لا يصح ، و ضعه الجهال ، لأن في إسناده المحدث عبد الله بن لهيعة(ت 174 ه/890م) و هو مطعون فيه و لا يحتج بحديثه . و لأن أبا ذر الغفاري توفي سنة خمس و عشرين للهجرة/645م قبل وفاة عبد الرحمن بن عوف(ت32 ه/625م) بسبع سنين ، فكيف يقال إن أبا ذر كان حيا عند وفاة ابن عوف ؟ ! ثم تساءل ابن الجوزي-عن سبب الخوف على ابن عوف- ألم يبح الشرع جمع الأموال عن طريق الحلال ؟ أليس من قلة الفقه و الفهم أن يقال : الشرع يأمر بجمع الأموال ثم يعاقب عليه ؟ ! و لماذا يخص ذلك عبد الرحمن بن عوف دون غيره ؟ ! ألم يسر سيرة إخوانه من الصحابة ؟ و أليس من المعروف أن كثيرا من الصحابة ، جمعوا أموالا معتبرة و تركوها بعدهم ، كطلحة ، و الزبير ،و ابن مسعود- رضي الله عنهم- و لم ينكر عليهم أحد ؟
فيتبين من ذلك أن ابن الجوزي جمع بين نقد الإسناد و المتن معا ، و أنه كان يتمتع بعقلية المؤرخ المحدث الناقد ، فبين أن في إسناده من لا يحتج به ،و أن متنه يتعارض مع الثابت من التاريخ ،و مع الشرع الحكيم و العقل الصريح ، مما يثبت أنه كان صاحب منهج نقدي تاريخي متعدد الطرق ، لكنه أخطأ في سنة وفاة أبي ذر فإنه توفي سنة 32 هـ و ليس سنة 25ه ، و هذا خطأ في معلومة تاريخية ، و ليس خطأ منهجيا .
و المثال الخامس يتضمن أحاديث نقدها الحافظ عبد العظيم المنذري (ت656ه) ، قال في أحدها : (( في إسناده من لا يُعرف حاله ، و في متنه غرابة كثيرة ، بل نكارة ظاهرة )) . و قال في آخر : (( إسناده حسن و في متنه غرابة )) .و قال في آخر : (( و إسناده حسن و في متنه نكارة.

و المثال السادس يتضمن نقد الشيخ تقي الدين ابن تيمية لحديث : (( أنا مدينة العلم و علي بابها )) ، قال فيه إن هذا حديث غير صحيح ، يُعد من الموضوعات المكذوبات ، و أن جميع طرقه لا تصح ، ثم قال : (( و الكذب يُعرف من نفس متنه ، لا يُحتاج إلى النظر في إسناده )؛ ثم توسع في نقد متنه ، مبينا أن مما يدل على بطلانه أنه يسد كل طرق العلم إلا طريق علي ، ولا يجوز- باتفاق المسلمين- أن يكون مبلغ العلم عن الرسول واحد ، بل يجب أن يكون المبلغون عنه أهل التواتر الذين يحصل بهم العلم بخبرهم للغائب ،و خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن . كما أن الثابت من التاريخ ينقض الدعوى من أساسها ، إذ من المعروف أن المسلمين في جميع الأقطار بلغهم العلم عن الرسول-عليه الصلاة و السلام- من غير علي بن أبي طالب ، وإنما بلغهم على يد صحابة آخرين ، كما في المدينة و مكة و الشام ،و البصرة ، و حتى في الكوفة التي كثر فيها علمه ، فإن أهلها تعلموا القرآن و السنة في عهد الصديق و عمر و عثمانرضي الله عنهم- فبل أن يأتيهم علي-رضي الله عنه.
و المثال السابع يتضمن ثلاث روايات نقدها الحافظ الذهبي ، أولها حديث مفاده أن صحابيا اسمه عُيينة دخل على رسول الله –عليه الصلاة و السلام- و معه عائشة –رضي الله عنها- قبل ضرب الحجاب ، فقال : من هذه الحُميراء يا رسول الله ... إلخ فنقد الذهبي هذا الحديث و بيّن إن إسناده لا يصح ، لأنه مرسل ،و من رجاله يزيد بن عياض ، و هو متروك ، و أما متنه فهو أيضا لا يصح ، لأن عُيينة لم يسلم إلا بعد فرض الحجاب على زوجات الرسول-صلى الله عليه وسلم-.
و الرواية الثانية مفادها أن زين العابدين علي بن الحسين اقترض مالا من الخليفة الأموي مروان بن الحكم ، فلما احتضر مروان أوصى بأن لا يُؤخذ منه –أي زين العابدين- ذلك المال . فقال الذهبي أن هذه الرواية لا تصح ، لأن إسنادها منقطع ، و متنها مردود ، لأن مروان بن الحكم لم يحتضر عندما مات ، لأن امرأته غمته بوسادة هي و جواريها فمات ، لأنها أضمرت له الشر عندما صرف الخلافة عن ابنها خالد بن يزيد إلى غيره من بني أمية. و الرواية الثالثة مفادها أن الإمام أبا حنيفة النعمان –لما كان صغيرا- تخيّر العلوم التي يطلبها ، و سأل عن عواقبها ، فقيل له : إن تعلمت القرآن و حفظته ، أقرأت الصبيان في المسجد ، ثم لم يلبث أن يخرج منهم من هو أحفظ منك أو مساويك ، فتذهب رئاستك . و إن سمعت الحديث و حفظته ، اجتمع عليك الأحداث و الصبيان ، و لم تأمن الغلط فيرمونك بالكذب ، و يصير ذلك عارا عليك في عقبك . ثم اقترحوا عليه النحو و الشعر ، فلم يعجباه ، و اقترحوا عليه أيضا علم الكلام و حذّروه منه . ثم سألهم عن الفقه فقالوا له : يسألك الناس و تفتيهم ، و تطلب القضاء ، فاختار الفقه و لزمه و تعلمه .
هذه الرواية حكم عليها الذهبي بالوضع و الاختلاق ، لأن في إسنادها من ليس بثقة ، و متنها شاهد على بطلانها لأنه لا يتطابق-لاحظ قانون المطابقة- مع الثوابت التاريخية المعروفة ، و ذلك أن الرواية زعمت أنه قيل لأبي حنيفة : إن تعلمت الحديث علمّت الصبيان ، و هذا غير صحيح ، لأن السنة التي طلب فيها أبو حنيفة الحديث هي سنة 100ه ، و لم يكن الصبيان يسمعون الحديث في هذا الزمن، فهو أمر متأخر ظهر بعد 300 سنة ، و إنما كان يطلبه زمن أبي حنيفة كبار العلماء . و كذلك علم الفقه فعندما طلبه أبو حنيفة لم تكن كتبه قد دُونت أصلا ، و لم يكن للفقهاء في ذلك الزمن علم إلا القرآن الكريم . و اقتراحهم عليه طلب علم الكلام هو دليل آخر على أن الرواية خرافة ، لأن علم الكلام في ذلك الوقت ( سنة100ه ) لم يكن ظهر أصلا .
و المثال الأخير-أي الثامن- يتضمن ثلاثة أحاديث نقدها المؤرخ ابن كثير إسنادا و متنا ، قال عن الأول : (( في إسناده ضعف ،و في متنه نكارة )) ، و قال عن الثاني : (( ضعيف الإسناد ، و متنه فيه نكارة )) ، و الثالث قال فيه : (( في إسناده غرابة ، و في متنه نكارة شديدة )) .
و زيادة على ما ذكرناه من الأمثلة التطبيقية لنقد الأسانيد و المتون ، هناك أقوال لبعض نقاد الحديث نصت على نقد الإسناد و المتن ضمن علم مصطلح الحديث ، فمن ذلك أن الخطيب البغدادي نص على أن المحدثين المتقدمين كانوا ينظرون في حال الراوي و المروي –أي الإسناد و المتن- ، و يميزون بين المرضي و المرذول . و كذلك الحافظ أبو عمر بن الصلاح فإنه نص على أن النقد لمعرفة الحديث الموضوع ينصب على قرائن من الإسناد و المتن معا.
و منها قول للحافظ محي الدين النووي (ق: 7ه) في نقد الإسناد و المتن و الاهتمام بهما ، و هو في غاية الأهمية ، يقول فيه : (( إن المراد من علم الحديث تحقيق معاني المتون ،و تحقيق علم الإسناد و المعلل ، و العلة عبارة عن معنى في الحديث خفي ، يقتضي ضعف الحديث ، مع أن ظاهره السلامة ، و تكون العلة تارة في المتن ،و تارة في الإسناد) .
و يتبين مما ذكرناه أن طائفة من كبار الحفاظ و المؤرخين و النقاد قد مارست النقد و التحقيق و طبقته على الروايات الحديثية و التاريخية على حد سواء ، معتمدة على نقد الأسانيد و المتون معا ، و هو نقد متكامل نتائجه صحيحة في غالب الأحيان .
و النموذج الثانييخص نقد المتون لوحدها ، و يتضمن شواهد تاريخية كثيرة و متنوعة ، نذكرها ردا على ابن خلدون في اتهامه للحفاظ و المؤرخين و المفسرين المسلمين بإهمالهم نقد المتون ، أولها –أي الشواهد- ما قاله الحافظ أبو جعفر العقيلي (ت322ه) عن الأحاديث التي رواها سعيد بن دهشم المقدسي ، قال إنها غير محفوظة ،و لا يصح في متنها شيء.
و الشاهد الثاني يتضمن روايات نقدها الخطيب البغدادي ، الأولى مفادها أن الخليفة العباسي المعتضد بالله ( 279-289ه) هو الذي طلب من بوران بنت الحسن بن سهل أن تُسلّمه دار الخلافة التي ورثتها عن أبيها ، فتنازلت له عنها و سلمتها له ، لكن الخطيب يرى أن هذا الخبر غير صحيح ، لأن بوران لم تعش إلى وقت الخليفة المعتضد ، الذي تولى الخلافة سنة 279ه ، و هي قد تُوفيت سنة 271ه ، غير أنه ربما كانت قد سلمت الدار للخليفة المعتمد الذي تولى الخلافة ما بين : 265-279ه ، و ليس للمعتضد.
و الرواية الثانية مفادها أنه عندما ادعى اليهود ببغداد ( سنة 447ه) أن معهم كتابا من الرسول-صلى الله عليه وسلم-فيه أمر بإسقاط الجزية عن يهود خيبر ، بشهادة بعض الصحابة ؛ ثم حملوه إلى الوزير العباسي أبي القاسم علي(ت463 ه/1070م، فسلمه هو بدوره للخطيب البغدادي فتأمله و قال : هذا مزوّر ، لأن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان(ت60 ه ) و هو لم يسلم إلا في عام الفتح (سنة8ه ) ، وفتح خيبر كان في سنة 7ه .و فيه شهادة سعد بن معاذ ، وهو قد مات يوم بني قريضة قبل فتح خيبر بعامين ، فكشف بذلك تزوير اليهود للكتاب و فضحهم أمام الوزير.فبنقده للمتن و اعتماده على قانون المطابقةحسب التسلسل الزمني- تمكن الخطيب من كشف تزوير اليهود للكتاب.
و الرواية الثالثة تتضمن نقد الخطيب البغدادي للأحاديث التي رواها المحدث أبو القاسم برية بن محمد البغدادي ، قال إنها أحاديث موضوعة –أي مكذوبة- منكرة المتون جدا.
و الشاهد الثالث مفاده أن الوزير عون الدين بن هبيرة (ت560ه) ، كان قد قرأ الحديث بالروايات على المحدث مسعود بن الحسين الحنبلي البغدادي (ت664 ه ) مدعيا أنه قرأها على المحدث ابن سوار البغدادي(ت496 ه ) فأسند الوزير القراءات عنه عن ابن سوار في كتابه الإفصاح .و في أحد مجالس قراءة هذا الكتاب توجه القارئ إلى الوزير و قال له: وأما رواية عاصمفإنك قرأت بها على مسعود بن الحسين-و كان حاضرا- فقال مسعود : قرأت بها على ابن سوار ؛ فقام المقرئ على بن عساكر البطائحي الضرير(ت572 ه) و قال بصوت مرتفع : هذا كذب و خرج ؛ فبلغ خبره الوزير فطلبه و أحضر مسعود بن الحسين ،و حاققه و تبين له كذبه ، لأنه لم يدخل إلى بغداد إلا في سنة 506 ،و ابن سوار كان قد توفي في سنة 496 ه . ثم أحضر البطائحي نسخة من كتاب المستنير بخط مؤلفه ابن سوار ،و قابله مع الخط الذي عند مسعود فبان الفرق بينهما ؛ وتبين أن الخط الذي معه ليس لابن سوار ،و إنما هو مزور بخط الكاتب أبي رويحالذي يشبه خط ابن سوار.فهذا التزوير تم اكتشافه بالاحتكام إلى قانون المطابقة باستخدام الزمن و التحقق من الخط .

و الشاهد الرابع مضمونه أن الصوفي أبا عبد الله بن أبي الخير الهمذاني(ت626ه) ادعى أنه عندما دخل اليمن حضر عند المسند أبي الوقت بن عيسى السجزي ثم الهروي(ت 553 ه) ،و سمع منه شيئا من صحيح البخاري و أجاز له ، و عندما سُئل عن مولده قال: إنه كان مترعرا في سنة 569هأي قرب سن البلوغ- و هذا يعني أنه ولد ما بين سنتي :551-554ه ، فتبين للمحدثين كذبه ، لأن سنه لا يسمح له بالسماع و لا بالإجازة ، من أبي الوقت المتوفى في عام 553ه، مستخدمين في ذلك قانون المطابقة .
و الشاهد الخامس يتضمن ثلاث روايات نقدها ابن الجوزي بالاحتكام إلى قانون المطابقة ، أولها أنه روي أن أحد الفقهاء قال : اجتمع الشبلي و القاضي شريك ،و هذا عند ابن الجوزي غريب صدوره من هذا الفقيه ، فكيف لا يدري بُعد ما بين الرجلين من الفارق الزمني و اجتماعهما من المستحيل لأن القاضي شريك بن عبد الله الكوفي توفي سنة 177ه ،و الصوفي أبو بكر الشبلي ولد في سنة 227 ه ،فبينهما سبعون سنة فكيف يلتقيان ؟!
و الرواية الثانية مفادها أن الفقيه أبا المعالي الجويني ( ت478 ه )روى في كتابه الشامل في الأصول أن طائفة من الثقات المعنيين بالبحث عن البواطن ذكروا خبر اجتماع الصوفي أبي منصور الحلاج البغدادي (ت 309 ه )بأبي سعيد الجبائي القرمطي (ت 301 ه ) بالأديب عبد الله بن المقفع ،و تواصوا على قلب الدول و إفسادها ، و استعطاف قلوب الناس ،فاتجه كل منهم إلى قطر فحل الجبائي بالأحساء ببلاد البحرين ،و توغل ابن المقفع في بلاد الترك ،وسكن الحلاج بغداد.و هذا الخبر عند ابن الجوزي لا يصح، لأن الحلاج لم يدرك ابن المقفع و بينهما فارق زمني كبير ،فابن المقفع مات في سنة 144ه ، و الحلاج قتل في سنة 309ه ،و أما الجبائي فقد كان معاصرا للحلاج، و واضح من نقده أنه استخدم قانون المطابقة ، الذي لم ينطبق على هذه الرواية من الناحية الزمنية .
و الرواية الثالثة مضمونها أن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- قال : (( عبدت الله عز و جل ، مع رسول الله –صلى الله عليه و سلم-قبل أن يعبده رجل من هذه الأمة خمس سنين أو سبع )) ،و هذا الرواية عند ابن الجوزي باطلة ، لأن إسلام خديجة ،و أبي بكر الصديق ،و زيد بن حارثة-رضي الله عنهم- كان منذ الأيام الأولى للدعوة الإسلامية.
و الشاهد السادس يتضمن رواية نقدها الشيخ تقي الدين بن تيمية ، مفادها أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- عندما هاجر إلى المدينة تآخى مع علي بن أبي طالب ، و آخى بين أبي بكر و عمر – رضي الله عنهما- لكن ابن تيمية أنكر هذا الخبر ، و قال إنه من الأكاذيب ، لأن الثابت هو أن رسول الله لم يُؤاخ عليا و لا غيره ، و إنما آخى بين المهاجرين و الأنصار، و لم يُؤاخ بين مهاجر و مهاجر.
و الشاهد السابع يتضمن روايتين نقدهما الحافظ الذهبي ، الأولى مفادها أن العباس بن عبد المطلب أسلم قبل غزوة بدر ، و أن الرسول-صلى الله عليه و سلم- طلب منه البقاء في مكة ، فأقام بها بأمره ، لكن الذهبي أنكر هذه الخبر ، لأنه لو حدث ما طُلب الفداء من العباس يوم بدر.بمعنى أنه يخالف الثابت من التاريخ ، و لا يتطابق معه .

و الرواية الثانية مضمونها أن معاوية بن أبي سفيان أسلم عام الحديبية سنة 6ه ، و أخفى إسلامه حتى أظهره يوم فتح مكة سنة 8ه ، و شهد مع رسول الله –عليه الصلاة و السلام- غزوة حنين ، و أعطاه من الغنائم 100 من الإبل ، و أربعين أوقية . لكن الذهبي كذّبها-أي الرواية –لأنه لو كان معاوية أسلم قديما ما جعله رسول الله من المؤلفة قلوبهم حديثي العهد بالإسلام ،و ما أعطاه ذلك العطاء الجزيل حسب هذه تلك الرواية . و الدليل الثاني على بطلانها ، هو أن لو كان الرسول-عليه الصلاة و السلام- أعطى ذلك المال لمعاوية ، لما قال عنه –عندما خطب فاطمة بنت قيس- : ( و أما معاوية فصعلوك لا مال له).
و الشاهد الثامن مفاده أن المحدث عفير بن معدان الكلاعي (ق: 2ه) روى أن المحدث عمر بن موسى قدم إلى مدينة حمص و حدث الناس في المسجد ، فكان يقول : حدثنا شيخكم الصالح ، فلما أكثر من ذلك ، قال له عفير : من هذا الشيخ الصالح ؟ فقال له : خالد بن معدان ، فقال له عفير : في أي سنة لقيته ؟ قال : في غزوة أرمينية ، فقال له عفير : اتق الله ياشيخ و لا تكذب ! فقد مات خالد بن معدان سنة 104ه ، و أنت تزعم أنك لقيته بعد موته بأربع سنين ! ، و أزيدك أنه لم يغز أرمينية قط ، و إنما كان يغزو الروم.
و هذا نموذج رائع للغاية في نقد الروايات و تمحيصها ، قام على أساس قانون المطابقة بالاحتكام إلى الثابت من التاريخ ، زمانا و مكانا و أفعالا ، و هو أيضا نموذج مبكر للنقد التاريخي عند المحدثين في القرن الثاني الهجري .


بلادي و إن جارتْ علي عزيزة ٌ** و قومي و إن ضنوا علي كِرامُ
التعديل الأخير تم بواسطة بلحاج بن الشريف ; 09-08-2017 الساعة 01:33 PM
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية ** رشاد كريم **
** رشاد كريم **
عضو متميز
  • تاريخ التسجيل : 08-06-2015
  • المشاركات : 1,000
  • معدل تقييم المستوى :

    10

  • ** رشاد كريم ** is on a distinguished road
الصورة الرمزية ** رشاد كريم **
** رشاد كريم **
عضو متميز
رد: أخطاء ابن خلدون في كتابه المقدمة للدكتور خالد كبيرعلال
09-08-2017, 09:37 AM
أشكر الأخ ( بلحاج بن الشريف ) عـلى تعـريفنا بكتاب
[ أخطاء ابن خلدون في كتابه المقـدمة ] للدكتور خالد كبير عـلال .
أردتُ فقط في هذا التعـقيب السريع أن أقول إنّ نفوس القـراء
تنشرح وتستشعـر الثقة ، حينما تقـرأ نقدا يَنقد فيه أهـلُ الاختصاص بعـضهم بعـضا .
وبخصوص نقد مقدّمة ابن خلدون ، هناك كُتُبٌ كُتبت في نقدها ،
ولا شك أنّ هناك الموضوعـية ، وهناك السطحية ، وهناك المتحاملة المتهجّمة ..
لذلك ألفتُ النظر إلى أنّ كثيرا من المؤرخين ينقدون ( أو ينتقدون ) ابن خلدون بمقاييس هذا العـصر الذي تقدمت فيه كل العـلوم ، ومنها عِـلم الاجتماع .. أي أنهم لا يَزنون أفكاره ونظرياته بمقياس القرن الرابع عـشر الذي عـاش فيه الرَّجل ، حين كان العِـلم الذي خاض فيه ، ما زال يحبو في طفولته .
وأعـلام التاريخ والاجتماع الثقات ، يعـترفون أنّ ابن خلدون كان قامة فارعة في النقد الحضاري والتاريخي ،
وقد سبق عـصـره بمراحل .. ولكنه مع ذلك ، كانت له هـفوات وأخطاء ، لأنه بشر يُصيب ويُخطئ .
و ( لكلّ عالِم هَـفْـوة ولكلّ جَـوَاد كَـبوة ) ، وتمهيد طريق مجهولة ، واستكشاف أرض بعـيدة ، ليس أمرًا
يستطيعه كُلّ أحد ..
ولذلك قالوا أيضا :( الفَـضلُ للمبتدئ وإنْ أحـسنَ المُقـتدي ) .
« رَبِّ اغْـفِـرْ لِي وَلأَِخِي وَأَدْخِلْـنَا فِي رَحْمَتِـكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ »

  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية بلحاج بن الشريف
بلحاج بن الشريف
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 31-07-2015
  • الدولة : الجزائر
  • المشاركات : 345
  • معدل تقييم المستوى :

    9

  • بلحاج بن الشريف is on a distinguished road
الصورة الرمزية بلحاج بن الشريف
بلحاج بن الشريف
عضو فعال
رد: أخطاء ابن خلدون في كتابه المقدمة للدكتور خالد كبيرعلال
09-08-2017, 10:22 AM
شكرا على مرورك العطر و على تعقيبك القيِّم المفيد أستاذي الفاضل رشاد كريم ، و كما قلتَ كل يخطئ و يصيب كمجتهد ، و كان لابن خلدون العلامة النحرير قصب السبق في هذا العلم ، و ما هذا الاهتمام به إلا لمنزلته العلمية العالية .
بلادي و إن جارتْ علي عزيزة ٌ** و قومي و إن ضنوا علي كِرامُ
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية aziz87
aziz87
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 07-08-2015
  • المشاركات : 1,719
  • معدل تقييم المستوى :

    10

  • aziz87 will become famous soon enough
الصورة الرمزية aziz87
aziz87
شروقي
رد: أخطاء ابن خلدون في كتابه المقدمة للدكتور خالد كبيرعلال
09-08-2017, 04:15 PM
كتب الدكتور خالد كبير علال من أحسن الكتب النقدية فهو يتميز بأسلوب علمي رصين في النقد .
وللأسف فالكثير من الجزائريين لا يعرفة.
وَفِي الأَرْضِ مَنْأًى لِلكَرِيِم عَنِ الأَذَى*** وَفِيهَا لِمَـن خَافَ القِلَى مُتَعَزَّلُ.
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية بلحاج بن الشريف
بلحاج بن الشريف
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 31-07-2015
  • الدولة : الجزائر
  • المشاركات : 345
  • معدل تقييم المستوى :

    9

  • بلحاج بن الشريف is on a distinguished road
الصورة الرمزية بلحاج بن الشريف
بلحاج بن الشريف
عضو فعال
رد: أخطاء ابن خلدون في كتابه المقدمة للدكتور خالد كبيرعلال
09-08-2017, 10:33 PM
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة aziz87 مشاهدة المشاركة
كتب الدكتور خالد كبير علال من أحسن الكتب النقدية فهو يتميز بأسلوب علمي رصين في النقد .
وللأسف فالكثير من الجزائريين لا يعرفة.
صدقت استاذي الكريم عزيز ، الدكتور خالد كبير علال استاذ أكاديمي ، دقيق المعلومات ، عميق التحليل و ذو منهجية علمية متميزة . و التعريف به ، كان هو قصدي من خلال رفع هذا الكتاب على موقع منتديات الشروق
شكرا على مرورك الكريم و بارك الله فيك .

بلادي و إن جارتْ علي عزيزة ٌ** و قومي و إن ضنوا علي كِرامُ
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع


الساعة الآن 12:35 PM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى