بيان الشيخ الألباني لمكر المستشرقين بالأمة الإسلامية والرد عليهم من وجوه عدة
02-07-2017, 05:25 PM
بيان الشيخ الألباني لمكر المستشرقين بالأمة الإسلامية والرد عليهم من وجوه عدة


الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:


قال الشيخ العلامة المحدث: الألباني -رحمه الله- في:( سلسلة الهدى والنور: شريط رقم 757):
" لمَّا علم المستشرقون بأن من أقوى أسباب الخلاف الذي نشب بين الفرق الإسلامية هو: ما يتعلق بالحديث، وبشيء من هذا التفصيل الذي ذكرته آنفاً؛ أرادوا أن يُشككوا المسلمين في هذا الأصل الثاني، ألا وهو: الحديث النبوي، فكيف يشككون!!؟.
الأمر كما يقال في بعض الأمثال:( الغريق يتعلَّق ولو بخيوط القمر، ولو بقشة!!؟) كما يقولون في بعض البلاد، وهؤلاء المستشرقون هكذا يفعلون، يتمسكون ببعض النصوص، ويوحون فيها بأسلوب منهم ومكرٍ خبيث إلى المسلمين أنَّ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نهى عن كتابة الحديث، فإذن لابد للمسلمين أن يستجيبوا لهذا النهي لأنَّ نبيهم نهاهم؛ وهم بلا شك مأمورون باتباعه؛ إذن المسلمون لم يكتبوا الحديث، فإذن بهذا الطرح لهذا الحديث، ألقوا شبهة وهي قولهم: ما دام أن الحديث لم يُكتب في عهد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وإنما كُتب فيما بعد، فهنا يمكن أن يدخل في الحديث ما ليس منه!؟.
نحن معاشر المسلمين: أولاً لنا أصول لابد لنا من اتِّباعها والرجوع إليها حينما يشتدُّ الخلاف بسبب بعض الإشكالات أو الشبهات من ذوي الأهواء أو الفتن -كهؤلاء المستشرقين وأذنابهم من المستغربين-.
من هذه الأصول: ما ذكره الله تبارك وتعالى في قوله عزَّ وجلَّ:(( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )).
إذن؛ سبيل المؤمنين من المراجع والمصادر التي يُؤخذ العلم الشرعي منها. سبيل المؤمنين، أي: ما سار عليه المسلمون من هدي وطريق وسبيل، فلابد لهؤلاء المسلمين أن يسلكوا سبيل الأوَّلين منهم، ومن هنا استدل الإمام الشافعي -رحمه الله- بهذه الآية الكريمة على الإجماع؛ والإجماع له أقسام كثيرة؛ منه ما هو حُجة، ومنه ما ليس بحُجة، وأيضاً نُعرض عن الكلام في هذه النقطة حتى أيضاً لا نبعد كثيراً عن جواب السؤال المطروح آنفاً.
إذا كان من الواجب علينا: أن نسلك سبيل المؤمنين، فنحن يجب أن ننظر ماذا فعل المسلمون الأوَّلون؛ هل كتبوا الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أم أهملوا الكتابة!!؟.
وإذا كانوا أهملوا الكتابة؛ فمتى بدؤوا الكتابة!!؟.
جوابنا على هذا: أنَّ كتابة الحديث ليس كما يقول المُستشرقون؛ أنَّه كُتب في العهد إيش يقولون!!؟.
السائل: في بداية القرن الثاني.
الشيخ الألباني: ليس الأمر كما يزعم هؤلاء المُستشرقون، لأن كتابة الحديث بدأ ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بين ظَهراني أصحابه، كتب الحديث في قيد حياته -عليه الصلاة والسلام-، ومن هنا: يبدو أن المُستشرقين ليسوا كما يتظاهرون أو يَدَّعون؛ بأنَّهم حينما يبحثون: يبحثون للعلم متجرِّدين للعلم، ليس تعصباً لمذهبٍ أو دينٍ أو ما شابه ذلك، فهم في الواقع غير صادقين في هذا.
لماذا!!؟، لأننا نراهم حينما يجدون حديثاً وأيُّ حديثٍ في زعمهم لم يُسجل في عهد الرسول -عليه السَّلام- إذن هم يحتجون به، فهذا الاحتجاج بهذا الحديث: إمَّا أن يكون قد ثبتت صحته بطريقة عِلميَّة هم يؤمنون بها، أو لا يؤمنون بها، فإن كانت الطريقة الأولى: أنَّهم يُثبتون هذا الحديث ويحتجون به على المسلمين أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نهى عن كتابة الحديث، إذا كان هذا الحديث ثبت لديهم بالسَّند، كما هو طريق علماء الحديث؛ إذن دندنتهم حول تلك الشبهة: أنَّ الحديث لم يُكتب في عهد الرسول لا يَضر؛ لأنهم وصلوا إلى معرفة هذا الحديث الصحيح باتفاقهم مع علماء الحديث بطريق إيش السَّند، وإن كانوا لا يعترفون بالأسانيد ويزعمون -وهذه حقيقة دعواهم- أنَّه قد دخل ودُسَّ في الحديث ما بين نطق الرسول به، وما بين عهد كتابته، قد فُعِل بالحديث ما فُعِل بتوراتهم وبإنجيلهم من الزيادة والنَّقص، إن كانوا يَتَبَنَونَ هذا المذهب حينئذٍ لا يصلح لهم أن يَحتجُّوا على المسلمين الذين يخالفونهم في نهجهم العلمي هذا، فهذا أول رد عليهم: كسَدِ طريق إلقاء الشُبهة في السُّنة من طريق التَّشكيك فيها أنها لم تُدوَّن في عهد الرسول -عليه السَّلام- هذا: أولاً.
وثانياً: نحن نقول أنَّ الحديث النبوي بُدِئ كما ذكرتُ آنفاً تسجيله وكتابته في عهد الرسول -عليه الصلاة والسَّلام- طبعاً نحن ندَّعي هذه الدَّعوة بناءً على الخطِّ والطريق العلمي الذي سلكه أئمة الحديث سابقاً ولاحقاً في معرفة الأحاديث الصحيحة ضاربين عُرض الحائط بتشكيكهم في هذا الأسلوب في رواية الحديث، أو إثبات الحديث كما ذكرت آنفاً.
على هذا نحن نقول: إنَّ الحديث النبوي بُدِئ بتدوينه وتَسجيله في عهد الرسول -عليه السَّلام- وعندنا إثباتات كثيرة غير حديث واحد، أو روايَة واحدة، أولَّ ذلك -مثلاً- و أعتقد أنَّ بعض هؤلاء المُستشرقين يريدون قصة كتابة الرسول -عليه الصلاة والسَّلام- إلى هرقل ملك الروم، وإلى المقوقس مقوقس مصر، وإلى ملوك آخرين كسرى -مثلاً- إلى آخره، ومن هذه الكتب المعروف صحتها عند علماء الحديث، وفي ظنِّي: أنهم لا ينكرون ذلك أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كتب إلى هرقل؛ كتب إليه من محمد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى هرقل عظيم الروم بعد البسملة طبعاً، قال له: ( أَسلم تسلم، و إلا فإنَّما عليك إثم الأريسيين )، هذا كتاب أرسل إليه مع يحيى الكلبي، فإطلاق القول: أن الحديث لم يُكتب: باطل؛ لأن هذا كتاب كتبه الرسول إلى هرقل ثم إلى الملوك آخرين، ثم ورد في صحيح البخاري: أصَحِّ الكتب بعد كتاب الله، ثم عندنا في صحيح البخاري شهادةٌ من صحابيٍ جليل ابن صحابي أيضاً عظيم، ألا وهو: عبد الله بن عمرو بن العاص، عبد الله بن عمرو يشهد بأن أبا هريرة كان أكثر حديثاً منه؛ لأنه كان.. عفواً على العكس على العكس أبو هريرة يشهد لعبد الله بن عمرو بأنه كان أكثر حديثاً منه، قال لأنه كان يكتُب ولا أكتب، فإذن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب الحديث في عهد الرسول -عليه السَّلام- وهذه الكتابة جعلت أبا هريرة؛ وهو: أحفظ أصحاب الرسول -عليه السَّلام- قاطبة لا اختلاف بين علماء الحديث في هذه الحقيقة العلمية: أن أبا هريرة كان أحفظ أصحاب الرسول -عليه السَّلام- والسبب في ذلك يعود إلى أمرين اثنين:
الأمر الأول: أنَّه كان رجلاً قنوعاً يكتفي بلقيمات يُقمن صلبه، ثم كان ديدنه أن يتابع الرسول -عليه السَّلام- ويسمع الأحاديث منه، ثم يدور على سائر الصحابة، ويلتقط الأحاديث منهم التي كان قد فاته سماعها مباشرةً من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم، لهذا وللسبب الآخر، ألا وهو: أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- دعا له حينما بسط له البِساط: أن يكون حافظاً لحديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيقول:" ما نسيتُ شيئاً حفظتُه بعد ذلك"، قصدي من هذا الحديث، وهو في صحيح البخاري كما ذكرتُه: أنَّ عبدالله بن عمرو بن العاص كان يَكتُب الحديث في عهد الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، ففيه ردٌ أيضاً على المستشرقين، ثم هناك أحاديث أخرى تشهد بأن ابن عمرو هذا كان يكتب حديث الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومن ذلك ما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره من كتب السُّنة بالسَّند القويِّ: أنَّ ابن عمرو هذا جمعه مجلسٌ مع المشركين، فشككوه فيما يكتبه عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من حديث، قالوا له: أنت تكتب الحديث -هنا الشاهد- أنت تكتب الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- و هو بَشرٌ كيف تكتب!!؟، يشككونه، فجاء عبد الله إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لينقل إليه هذه الشبهة التي طرحها المشركون عليه فما كان منه -عليه الصلاة والسَّلام- إلا أن قال له:" اكتب فوالذي نفس محمد بيده ما يخرج منه إلا حق".
إذن: هنا جاء الأمر بالكتابة، فنحن نقول بعد أن نورد الحديث الأخير فيما يتعلق بهذا الموضوع لنعود إلى حديث النَّهي عن الكتابة، أما الحديث الأخير، ففيه دلالة قويَّة أنَّه لم يكن ابن عمرو هو الذي كان يكتب الحديث فقط؛ وإنَّما كان يكتبه أيضاً أصحابٌ آخرون معه، ثم في هذا الحديث الأخير فيه بشارة عظيمة جداً للمسلمين في العصر الحاضر الذي يكاد بعضهم ييئس من روح الله، وييئس من نصر الله -ألا إن نصر الله قريب- ذلك الحديث كما يرويه ابن أبي شيبة في مصنفه والحاكم في مستدركه من طريقه -وغيره أيضاً- بالسَّند الصحيح عن عبد الله بن عمرو هذا قال:" بينما نحن جلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- نكتب الحديث عنه إذ قال له رجل: يا رسول الله أقسطنطينية نفتحها أولاً أم روميَّة؟".
-قسطنطينية معروف عندكم هي: إسطنبول عاصمة تركيا، أمَّا روميَّة فهي "روما" عاصمة البابا اليوم وقبل اليوم-.
سأل السَّائل أقسطنطينية نفتحها أولاً أم روميَّة، هذا السُّؤال يُلقي معنى في البال: من أين تَلقَى هذا السَّائل أنَّ هناك فتحين؛ فتح لقسطنطينية، وفتح لروميَّة؟، من أين تَلقى هذين الفتحين حتى اندفع ليسأل أيُّ الفتحين يكون أولاً ؟.
لاشك أنَّه تلقى ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لأن هذا الفتح وذاك من الأمور الغيبيَّة التي ليست في طوقِ البشر إطلاقاً أن يعرفوها إلا من طريق الوحي الذي ينزل على قلب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن هنا لابُد من لفت النَّظر إلى هذه الحقيقة العقديَّة الإسلاميَّة، وهي كما قال تعالى: ((قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)) حتى رسول الله المصطفى، والذي هو: سيد الرسل والأنبياء يقول: (( وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ))، وهذا بحث له مجال آخر أيضاً، وإنَّما هي: الذِّكرى لكي تنتبهوا: أنَّ العلم بالغيبيات أمر مستحيل مغلقٌ بابه، لا يعرفه أحد من الرسل المصطفين الأخيار إلا بوحي السَّماء، فإذا عَلِمَ مسلم ما أنَّ هناك فتحين، فلا يمكن أن يكون قد عرفه إلا ممن ينزل الوحي عليه؛ وهو رسولنا -صلوات الله وسلامه عليه- من هنا كان انطلاق السَّائل بذاك السُّؤال: أقسطنطينية نفتحها أولاً أم روميَّة ؟، قال عليه السَّلام: ( بل قسطنطينية ).
وفتح القسطنطينية معروف لديكم، وصار من التاريخ حيث فتحها ذلك الملك العثماني المعروف:" عثمان الفاتح"، إذن بقي أمام المسلمين فتحٌ آخر، وهو الفتح الأكبر، وهو: فتح عاصمة النصارى عاصمة إيطاليا، وهي: روما اليوم، ولابد أن يكون هذا الفتح، ولكن آسف أن أقول ليس بأيدينا، لعله يكون بأيدي أجيال أو جيل يأتي من بعدنا، هذا الجيل لابُد أن يكون قد اتصف بصفتين اثنتين، ديننا الحاضر دخل في طريق إحدى الصفتين، أمَّا الصفة الأخرى، فهو مع الأسف الشَّديد بعيد عنها، أمَّا الصفة الأولى فهي ما يعرف اليوم بالصحوة الإسلامية؛ نحن لا نشُك بأن المسلمين اليوم هم خير من ناحية الصحوة مما كانوا عليه من قبل ربع قرن من الزمان، فأنتم تعلمون أنه أصبح معروفاً لدى كثير من عامة الناس -فضلاً عن طلاب العلم- أن هناك كتاب وسنة، وأنَّ العلم هو: ما جاء في الكتاب والسُّنة، وليس أن يقول: قال الشيخ فلان أو العالم فلان أو الدكتور فلان، هذا أصبح في خبر كان، ومن ذلك قول الإمام ابن قَيِّم الجوزيَّة -رحمه الله- الذي يعود إليه بعد شيخه ابن تيميَّة فضل هذه الصحوة الحقيقية؛ لأنه كان يعيش في جو جاهلي محض حينما دعا من حوله علماء وطلاب علم وعوام إلى أن يعودوا إلى الكتاب والسُّنة، كما تعلمون، فالآن نحن نعيش في بدء هذه الصحوة، أقول بدء؛ لأن الجمهور من المسلمين لا يزالون في تقليدهم القديم، لا يزالون يقولون إذا قلت لهم: يا أخي هذا ما يجوز هذا خلاف الحديث؛ يجابهونك بأنَّه هذا مذهبي، هذا مذهب إمامي إلى آخره، لكن الحمد لله: التَّفتُّح الآن موجود في كثير من المسلمين؛ لا أعني العلماء -أي بعض العلماء- ولا أعني طلاب العلم، بل حتى العامَّة منهم، صار أحدهم يقول فيه دليل على هذا؟، مع أنَّه لا يفهم الدليل، لكن صار عنده وعي وانتباه، أمَّا الشيء الثاني: وهو الذي أقول لابد من التَّصفية والتَّربية، نحن الآن في دور التصفية، أمَّا التَّربية، فمع الأسف الشديد نحن بعيدون كل البعد، وهذا ظاهر حتى في بعض طلاب العلم الذين يتهافتون لتأليف رسائل ونشرها: ليظهروا أمام الناس بأنَّهم مؤلفون، وهذا بحث أيضاً طويل، وطويل جداً.
إذن هذا الحديث يُبشرنا بأن أمام المسلمين فتحاً عظيماً جداً؛ وهو: فتح روما عاصمة إيطاليا، من يفتح روما؟، المسلمون الذين جمعوا بين التَّصفية والتَّربية، ويعودون كما قال -عليه الصلاة والسَّلام- في الحديث المعروف صحته:( مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم؛ كمثل الجسد الواحد ) إلى آخر الحديث، يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، إذا عرفنا هذه النُّصوص وهي تدلُّ دلالة قاطعة على أنَّ الحديث النبوي قد بُدِئ بتسجيله في عهده -عليه الصلاة والسَّلام- و ليس كما يزعم المُستشرقون وأذنابهم، حينئذٍ نعود لنقول حقيقة لا تضرنا وهي؛" هل كُتبَ الحديث كله في عهد الرسول -عليه الصلاة السَّلام-؟".
الجواب: لا، ولا يضرنا ذلك، إنَّما أردتُ أن أُبطل دعوى باطلة لأولئك المُستشرقين حينما يتكئون فيها على قوله عليه السَّلام: ( لا تكتبوا الحديث عني )، لنقول: إنَّ هذا الحديث صحيح، وأنَّه فعلاً كما جاء في سؤال السَّائل رُوي موقوفاً ورُوي مرفوعاً، وكل من الموقوف والمرفوع صحيح، ولا يضرُّ الوقف في الرفع؛ ذلك لأن العبرة في نهاية المطاف: هل صح المرفوع أم شذَّ رافعه؟، فإن كان لم يشذَّ رافعه، وإنَّما حفظه، حينئذ يقول فقهاء الحديث في الحديث: لا ضَير أن يُروى الحديث موقوفاً ومرفوعاً، وأنَّه يصح موقوفاً ومرفوعاً؛ فإنَّ الرَّاوي تارةً يَنشط لرفع الحديث، وتارةً لا يَنشط، تارة يَقنَع بأن يذكر الحديث لا لأنَّه لم يَنشط لرفعه، وإنَّما يكون في جوٍ يُغنيه عن التَّصريح برفعه؛ أي جوُّ علمٍ وطلاب علم، فيقول جاء -مثلاً- عن أبي سعيد الخُدري الذي هو راوي هذا الحديث أنَّه قال: (لا تكتبوا الحديث عني).
ثانياً: مما يؤكد أنَّ الحديث لفظه يشعر برفعه، وإذا كان ولابد من القول بخطأ الرافع أو الموقف له، فالأرجح أن نقول: إنَّ الذي أوقفه أخطأ، لأن من الذي يقول لا تكتبوا الحديث عني زيد وبكر وعمر، أم الذي يجب على المسلمين أجمعين أن يَتقبَّلوا حديثه بقبول حسن؟.
خلاصة القول:
أنَّ هذا الحديث رفعه صحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولكن لا يعني هذا الحديث: أنَّ النَّهي استمر إلى ما بعد وفاته -صلى الله عليه وآله وسلم- وأنَّ المَحوَ المأمور به في الحديث استمر عليه المسلمون إلى ما بعد و فاته -عليه الصلاة والسَّلام- لماذا؟
لأننا أولاً قد عرفنا أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر بكتابة الحديث في حديث:( اكتب فوالذي نفس محمد بيده ما يخرج منه إلا حقاً )، فإذن الأمر بالشيء المنهي عنه من قَبل: يرفع هذا النَّهي ويَنسخُه ويُلغيه، كما هو معلوم في كثيرٍ من الأحكام الشرعية -مثلاً-: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ )) حرم البيع إذا نُودي للصَّلاة من يوم الجمعة ، لكنَّه قال بعد ذلك: (( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله ))، كذلك -مثلاً- قوله تعالى: (( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)) أي: المُحرم كان محرَّماً عليه أن يصطاد، فأُمر بالصيد، فأُلغيَ الأمرُ الذي استلزم تحريم الصيد بالنسبة للمحرم هكذا ...
هكذا في حديث أبي سعيد الخدري: فيه النَّهيُ عن كتابة الحديث، فرُفع بأمره -صلى الله عليه وآله وسلم- وبالتَّالي: رَفعَ الأمر بمحوه كذلك، لأننا كما قَدَّمنا في أول الجواب عن هذا السُّؤال: أنَّ المُستشرقين إنَّما حاولوا التَّشكيك في الحديث، لأنهم يعلمون أنَّ القرآن لا يُفسَّر تَفسيراً كما أراده الله إلا بطريق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ] .اهـ.
انتهى كلام الشيخ العلامة المحدث: الألباني رحمه الله، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.