قصة الحديث والمحدثون[2 ](بشرية المنهج)
02-03-2015, 07:27 PM
الحديث والمحدثون
(بشرية المنهج)
عيسى العلي
بعد أن عرفنا في المقالة السابقة تعريف الحديث, والفرق بينه وبين السنة, وذكرنا كيف تم تدوين الحديث, وكيف تطور إلى أن رسى على أسس معينة, كما أننا عرجنا على موقف الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة من التدوين, سنذكر في هذه المقالة من هم المحدثين؟ وما أبرز مهمة يقومون بها؟ وما المنهج الذي أقاموه لأنفسهم؟

°°المحدثون هم رجال اشتغلوا بالحديث حفظا وكتابة وتصنيفا وتنقيحا, فنشأ عن الحفظ ما يسمى بالحفّاظ. واشتهر بالكتابة ستة أشخاص هم: البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبو داوود وابن ماجه. والتصنيف كان يختلف بحسب التوجهات, فمنهم من صنف على أساس السنن والأحكام, ومنهم من كان على أساس الصحابة فيذكر أحاديث كل صحابي على حدة, وهكذا. أما التنقيح فقد كانت أبرز مهمة تميز بها المُحدثين عبر ما يسمى بعلم الرجال, أو الجرح والتعديل.

°°°الجرح والتعديل فن نسمع الافتخار به وبرصانته من رجالات الدين كثيرا, ونجدهم يرددون بأن هذا الفن صان الأحاديث من التدليس والزيادة أو النقصان, مما يظهر لنا أننا نملك منهجا قويا لا يقبل الشك, مبني على أسس رصينة وقوية, فهل هو فعلا بهذه القوة؟

قبل أن نبدأ في ذكر الأسس التي قام عليها الجرح والتعديل سنتحدث حول نقاط ننطلق منها في معرفة المعايير والحكم عليها:

°°°بداية سنسلم بأن علم الجرح والتعديل انطلق من فكرة إبداعية تهدف إلى صيانة الأحاديث من الزيادة أو النقصان, كما يجب أن نذكر جهد السابقين ونذكر فضلهم في نباهتهم إلى محاولة إنتاج منهج يسيرون عليه, ونضيف بأن الذي يظهر لنا منهم هو المحاولة الجادة في تحقيق ذلك, والشيء الأخير الذي يجب أن نسلم به أيضا أن ما قام به المحدثون وعملوا عليه هو جهد بشري خالص, ينطلق من معايير تقلل من الخطأ, لا من معايير يستحيل فيها الخطأ, خصوصا وأن كل المناهج هي إنتاج بشري محض, يحمل بين طياته القوة/الضعف, الصحة/الخطأ.

°°°إن المعايير التي انطلق منها المحدثون لمحاولة تنقيح الأحاديث والتقليل من ورود الخطأ أو الزيادة/النقصان فيها, هي معايير قد يبدو في ظاهرها أنها على مستوى عال من الدقة والقوة والاتفاق, غير أننا لو غصنا قليلا لوجدناها تحتوي على الكثير من الهلامية, وشيء من المزاجية والفردية التي قد تصل إلى تقديس الموافق فكريا, بل وتجعل رأيه وقوله يتساوى مع قوة ورصانة القرآن الكريم في بعض الحالات, هذا إذا تجاوزنا خلافهم واختلافهم الذي يجعلنا نجزم بأنه لا يوجد اثنين منهم يتفقون تماما على معايير محددة!

°°°تنطلق معايير التقييم في الجرح والتعديل من أصلين اثنين "الضبط - العدل", الضبط يكون إما بالحفظ أو التدوين, ولا نستطيع هنا أن نغوص كثيرا ونتعرف على دقة تقييمهم في ذلك, لأنها تشترط الملاقاة والمعرفة الذاتية أكثر, لكن المعيار الثاني "العدل" والحكم على أساسه هو ما سنحاول قراءة ما خلفه بحسب رأي ابن الصلاح, المرجع الأكثر اعتمادا لدى المتأخرين.

°°°لننظر إلى ابن الصلاح وهو يخبر كيف تتم معرفة عدالة الراوي فيقول: "تَارَةً تَثْبُتُ بِتَنْصِيصِ مُعَدِّلَيْنِ عَلَى عَدَالَتِهِ، وَتَارَةً تَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ، فَمَنِ اشْتَهَرَتْ عَدَالَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ أَوْ نَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَشَاعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ، اسْتُغْنِيَ فِيهِ بِذَلِكَ عَنْ بَيِّنَةٍ شَاهِدَةٍ بِعَدَالَتِهِ تَنْصِيصًا!"(1)إذا الطريقة الأولى مبنية على الذاتية والفردية, والحكم فيها على أمور لا يستطيع الشخص الجزم بحقيقتها من عدمها, خصوصا التعديل فإذا تم توثيق فلان من أهل الحديث سيجب على السامع أن يرضخ دون معرفة سبب التوثيق, يقول ابن الصلاح: "التَّعْدِيلُ مَقْبُولٌ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ",(2) وهو المعمول به!

°°°ولننظر إليه عندما يتحدث عن شروط الراوي بشكل أكثر تحديدا فيقول: " أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته: أن يكون عدلاً ضابطا لما يرويه، وتفصيله المسلم العاقل البالغ، سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة، وأن يكون مع ذلك متيقظاً غير مغفل".(3) التفصيل الذي ذكره يقودنا إلى الحديث حول أكثر المعايير هلامية, وأزعم أن ثلاثة أرباع عمليات الجرح والتعديل انبنت على أساسه, إنه "خوارم المروءة".

°°°إن مصطلح "خوارم المروءة" ينطبق عليه وبشكل دقيق قولنا "معيار هلامي" فهو يختلف بحسب الزمان والمكان, ويستحيل ضبطه! حتى المحدثين والفقهاء لم ولن يستطيعوا ضبطه وتحديده, بل إن القائل به يلزمه أن لا يقبل أي جرح في "الراوي" إلا من عارف عالم بعادات زمان ومكان ذلك الراوي, وهذا يقودنا إلى فهم بعض اختلاف المحدثين في الرواة, فما قد يكون تجريحا لدى الكوفيين ليس كذلك لدى الشاميين أو المدنيين وهكذا, ومن ذلك ما يروى عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: " لِمَ تَرَكْتَ حَدِيثَ فُلَانٍ؟ " فَقَالَ: " رَأَيْتُهُ يَرْكُضُ عَلَى بِرْذَوْنٍ [أي: خيل غير عربية] فَتَرَكْتُ حَدِيثَهُ".(4) لقد اعتبر من يركض على خيل غير عربية مخروم المروءة!

°°°اختلف المحدثون والفقهاء كثيرا في تحديد خوارم المروءة, سأذكر بعض أقوالهم بشكل سريع:
يقول الشافعي: "المروءة أربعة أركان: حسن الخلق والسخاء والتواضع والنسك", وقد سأل معاوية رجلا من عبد قيس: "ما تعدون المروءة فيكم؟ قال: الحرفة والعفة", وقيل لمعاوية: "ما المروءة؟ فقال: العفاف في الدين, والإصلاح في المعيشة", وسئل إياس بن معاوية عن المروءة فقال: "أما في بلدك وحيث تعرف فالتقوى وأما حيث لا تعرف فاللباس".(5) وقال الفضيل بن عياض: "كامل المروءة من بر والديه وأصلح ماله وأنفق من ماله وحسن خلقه وأكرم إخوانه ولزم بيته".(6) وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: "للسفر مروءة وللحضر مروءة فأما المروءة في السفر فبذل الزاد وقلة الخلاف على الأصحاب وكثرة المزاح في غير مساخط الله، وأما المروءة في الحضر فالإدمان إلى المساجد وتلاوة القرآن وكثرة الإخوان في الله عز وجل".(7)

°°°أما عند التطبيق العملي فنجد خلافهم وتطبيقهم يختلف أيضا, فبعضهم: يرى كثرة الكلام أو المزاح من خوارم المروءة, وآخر: يعتبر البول قائما خارما, وثالث: يجعل من الخوارم الأكل في الأسواق, وغيرها من التطبيقات العملية الغريبة.

°°°وحتى أصل بالقارئ إلى قناعة تامة في أن معايير الجرح والتعديل هلامية سأذكر رأي الباقلاني, الذي يعتبر من أقدم من تحدث في معايير التعديل, والذي يرويه لنا الجويني فيقول: "لَا نشترط تحقق الْعَدَالَة فِيهِ من كل وَجه لما قدمْنَاهُ. وَلَكِن إِجْمَاع القَوْل فِيهِ أَن يُقَال: الْعدْل المشتهر بأَدَاء الْفَرَائِض وامتثال الْأَوَامِر وتوقي المزاجر وَاجْتنَاب مَا / مرض الْقُلُوب وَيُورث التهم فِيمَا جلّ وَقل فَيخرج لنا من مَضْمُون ذَلِك عبارَة وحيدة وَهِي أَنا نشترط أَن لَا يقدم الرَّاوِي على مَا إِذا أقدم عَلَيْهِ أورث ذَلِك تُهْمَة ظَاهِرَة فِي رِوَايَته، وَلَا فرق بَين أَن يكون من الصَّغَائِر أَو من الْكَبَائِر",(8) بتأمل بسيط في الأوصاف السابقة سيتضح مدى الهلامية وعدم الانضباط, إن الصلاح الديني, بعيدا عن أنه يحتاج إلى معايير لتقييم الصلاح من عدمه, وبعيدا عن صدق هذا الصلاح من ريائه, الذي نريد التعليق عليه هو أن الاستشهاد بالصلاح الفردي غير منطقي؛ فالصلاح الحقيقي سيبقى بين العبد وربه, والتصريح به والتفاخر يبطل حقيقته, لذلك فإن ذكره والاستشهاد به سيتحول إلى دليل شاعري يذكر لتغييب حقيقة الأمر المنطقي, فمظهر الشخص لا يعني سلامة وصحة وصدق فعله وقوله, فكأن يقوم شخص ويستخير الله على صحة حديث من عدمه لا يعني بالضرورة أن تكون راحته من عدمها هي المعيار المنطقي, ولو كان الأمر كذلك, لاكتفى كل شخص منا باستخارته لكل حديث يسمعه, وعلى أساس ذلك يحكم عليه!

°°°إن أكبر مشكلة في الجرح والتعديل أنها ارتقت من منتج بشري قليل الأخطاء إلى عمل مقدس يستحيل الخطأ, بل وأصبح التقديس بحسب الأشخاص, فنجد بعض رجالات الدين يكفر من شك أو ضعف حديث من أحاديث البخاري ومسلم, وسأورد هنا حديثا ورد في صحيحي البخاري ومسلم, وسأدع القارئ ليفكر فيه, وأتمنى أن يجيب على نفسه, هل يعقل أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ذلك! يروي عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عند باب حفصة، فقال: بيده نحو المشرق (الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان) قالها مرتين أو ثلاثا . وقال عبيدالله بن سعيد في روايته : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عند باب عائشة.(9) وفي رواية البخاري: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا، فأشار نحو مسكن عائشة، فقال: (هنا الفتنة - ثلاثا - من حيث يطلع قرن الشيطان).(10)

----------------------------------------------
-------------------------------------------

المراجع:

(1) عثمان بن عبدالرحمن المشهور بتقي الدين ابن الصلاح, مقدمة ابن الصلاح, تحقيق: نور الدين عتر (بيروت: دار الفكر المعاصر, 1406), 105.

(2) نفس المصدر, 106.

(3) نفس المصدر, 104.

(4) نفس المصدر, 107.

(5) أحمد بن الحسين المشهور بأبي بكر البيهقي, السنن الكبرى, تحقيق: محمد عبدالقادر عطا (بيروت: دار الكتب العلمية, 1424), 10/ 329-330.

(6) أبي بكر البيهقي, الزهد الكبير, تحقيق: عامر أحمد حيدر (بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية, 1996), 100.

(7) أبو عمر يوسف بن عبدالله المشهور بابن عبدالبر, التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد, تحقيق: مصطفى العلوي (المعرب: وزارة الأوقاف, 1387), 23/ 178.

(8) عبدالملك بن عبدالله بن يوسف المشهور بالجويني, التلخيص في أصول الفقه, تحقيق: عبدالله جولم (بيروت: دار البشائر الإسلامية), 2/ 353. إيرادي لهذا القول من باب التنزل للبعض, وإلا علميا لايصح؛ فهذا رأي الفقهاء في العدل, وعدالة الشاهد ليست كعدالة الراوي.

(9) صحيح مسلم (رقم الحديث: 2905).

(10) صحيح البخاري (رقم الحديث: 3104).