جذور الحضارة الغربية
14-10-2024, 11:09 AM
إن ما يسمى بعصر النهضة في أوروبا ليس حركة ثقافية وحسب، بل نزعة أنجبت الرأسمالية والاستعمار وساهمت في تشويه حضارات أكثر عمقا في تاريخ الحضارة الإنسانية من حضارة الغرب من حيث علاقة الإنسان بالطبيعة وما وراء الطبيعة، إن منابع حضارة الغرب الإغريقية والرومانية والمسيحية تجد جذورها الأولى في الحضارات الأقدم في ما بين النهرين في آسيا والحضارة الفرعونية في شمال أفريقيا، ولم تقم في عزلة عن التاريخ كما يدعي البعض، إن مولد الحضارة الغربية المتميزة بإرادة السيطرة والنفوذ، تجد تعبيرها الأدبي في ملحمة (جلجامش) وقد سبقت إلياذة (هوميروس) الإغريقي بألف و خمسمئة عام. نجد في أناشيد ملحمة (جلجامش) التي وضعها كاتبها للملك (آشور بانيبال) جميع مقومات الفكر الاستعماري الذي صاحب نهضة الغرب، ففيها مغامرة عملاق خلقته الآلهة، ثلثه إنساني وثلثاه إلهيان، وقد استعبد البشر وسيطر على الأرض ومواردها، وهذا ما يسعى الغرب إليه اليوم بكل ما أوتي من قواه التقنية والفكرية والاستعمارية.
أما أثر الحضارة المصرية في نشأة الحضارة الغربية فيبدو واضحا في تهيئة الفيلسوف (أفلاطون)، الذي ترك مصير أستاذه المحزن سقراط، بعد تنفيذ حكم الإعدام فيه جرحا عميقا لديه، واصبح يخشى على نفسه من الزعماء الديمقراطيين الذين أخذتهم الريبة والشك في ولائه لهم بعد استيلائهم على السلطة، وهكذا سافر في عام 499 قبل الميلاد في رحلة طويلة يُعتقد أنها بدأت بمصر و فيها اجتمع بطبقة من الكهنة الذين كانوا يحكمون مصر، وسمع منهم يومئذ أن اليونان دولة وضيعة تنقصها التقاليد الثابتة والحضارة العميقة، و كان فلاسفة مصر لا يعيرون اليونان أهمية بالغة أو اهتماما جديا، ويبدو أن ذكريات هذه الفئة المثقفة المستنيرة التي كانت تحكم شعبا زراعيا ينعم بالاستقرار والازدهار بقيت حية في تفكير أفلاطون، ولعبت دورا في كتابه عن الجمهورية الفاضلة فيما بعد، وقد ذكر البعض أنه ذهب إلى فلسطين وتأثر بأفكار الأنبياء الاشتراكيين الذي يدعون إلى المحبة والعدالة والمساواة هناك، وشق بعد ذلك طريقه إلى ضفاف نهر الغانج في الهند وتعلم التفكير والتأمل من الهندوس.
لقد أُعجِب الفلاسفة والمؤرخون الإغريق بمصر أيما إعجاب ويدين أفلاطون للحضارة المصرية بالكثير، وإذا قارنا فن النحت الإغريقي بالنحت المصري الذي كان يسبقه بعدة قرون نجد كثيرا من التشابه، ونجد مثل هذا التشابه في السياسة وفي الفلسفة.
لوعدنا إلى أثينا عام (310 ق.م) سنجد التاجر الفينيقي زينون وقد جاء بالفلسفة الرواقية، ولم يكن ذلك سوى وجه واحد للتسرب الشرقي الواسع للفلسفة الذي دخل إلى ثقافة الإغريق، كذلك فقد ساعدت فتوحات الاسكندر المقدوني على تدفق سيل الفلسفات الشرقية على الأراضي الأوروبية، خاصة وأنّ هذه الفلسفات أكثر اتساعاً وأشد تأصلاً ووقارا. لقد تغلبت روح الشرق على الاسكندر نفسه في أوج ساعات انتصاره، فتزوج ابنة داريوس ملك الفرس، وتبنى التاج والكساء الفارسي في الدولة.
وعندما سقطت مقدونيا بيد روما بعد معركة كورينث (عام 146 ق.م)، وجد الرومان المنتصرون مذاهب فلسفية شتى تتنازع الميدان، وبما أن الرومان لم تكن لديهم المقدرة والفراغ على التأمل والتفكير أنفسهم، فقد عادوا بهذه الآراء الفلسفية مع جملة مغانمهم إلى روما، واتجه كبار المنظرين منهم إلى الأساليب الرواقية، فكانت الفلسفة السائدة في روما، فلسفة زينون الرواقية.
لقد بنى (زينون) فلسفته الجامدة على جبرية شرقية تقوم على أن الإنسان مخير وليس مسيراً في القيام بأعماله، وعندما كان (زينون) الذي لا يؤمن بنظام الرق يضرب عبداً له ارتكب ذنباً، توسّل العبد أن يخفف من ضربه قائلاً: أن فلسفته تقول إنه مسيّر لا مخيّر في ارتكاب الذنب، أجابه زينون بأنّه هو أيضا مسيّر لا مخيّر في ضربه له.
اعتقد الرواقيون أن عدم الاهتمام بالعالم هو النظرة الوحيدة المعقولة للحياة التي يتنازعها الصراع من أجل المعيشة، وأنّ سرّ السلام أن نخفّض رغباتنا وطموحاتنا إلى مستوى ما يمكن أن نحققه من أمور. يقول الرواقي (سينيكا) الروماني المتوفى عام (65ق.م):
"إذا كان ما لديك لا يكفيك، فستكون بائساً وفقيراً حتى لو ملكت العالم".
لقد نجم عن انفصام الغرب عن منابعه الشرقية إفقار الحضارة الغربية، وأصبح التباين واضحا بين حب الطبيعة والعدل تجاه الناس في الحضارة الشرقية، وبين النزعة الفردية الهدامة في البحث عن الإنسان الفرد المتفوق أو (السوبرمان) الذي يحل محل الإله كما ظهر في فلسفة (نيتشه)[1] بعد ذلك في العصور الحديثة.
إن سيطرة مفهوم مركزية الفرد وامتلاك العالم يلخصان جوهر الحضارة الغربية المعاصرة الذي أدى إلى ولادة الإنسان ذي البعد المادي الواحد، وذات يوم ظهر ملك من الملوك ليفرض نفسه على الناس قاطبة هو الإسكندر المقدوني ومنذ ذلك اليوم أصاب الغرور الغرب وأصبح توسعيا يفرض نفسه على العالم بقوة السلاح.
ورثت روما بعد الإسكندر الأهداف الاستعمارية الكبرى ونشرت تنظيمها وجيشها عبر العالم، لخمسة قرون، فاستعيض عن الإبداع بنهب ثروات الشعوب الأخرى وثقافتها، ثم دب في مفاصل الإمبراطورية الرومانية الوهن بتأثير من المركزية والبيروقراطية والثورات الداخلية والغزوات البربرية التي قطعت الطرق الكبرى، ثم بتأثير التوسع الإسلامي الذي قطع الطرق البحرية عنها، حتى عادت روما قرية إقطاعية ممزقة.
لم يتحلى الرومان إلا بخصلتين: القوة العسكرية التي أتاحت لهم نهب ثروات العالم، وحكوماتهم البيروقراطية، أما ما خلفوه من فن النحت فتقليد سمج للفن الإغريقي.
لقد انتقلت المسيحية إلى أوروبا من الشرق بتأثير تلامذة السيد المسيح خاصة بولس الرسول، لكن مسيحية المؤسسات التي حددت شكل الديانة المسيحية أفسدها الفكر الإغريقي والتنظيم الروماني.
لقـد تمخض العصر الوسيط أو القرون الوسطى أو عصر الظلام كما يحلو للبعض تسميته عن تزاوج مفهومين: " أوربا" و " الغرب "، وباندماج هذين المفهومين نتج ما يعرف الآن بأوروبا الغربية ... مع أن هذا المفهوم الجديد ذو الدلالات المتموجة لا يقصد منه الرقعة الجغرافية لأوروبا، وانما يدل على مجموعة من العناصر الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية التي قام الغرب بتثبيتها، إضافة إلى مجموعة من الصفات والخصائص العرقية والحضارية والدينية على أنها ركائز تشكل أسس هويته ... وأدى هذا بدوره إلى بروز مفهوم حديث هو المركزية الغربية فما الذي يعنيه إذن هذا المفهوم؟
قد يبدو هذا المفهوم مبهماً في بداية الأمر، لأن كلمة مركزية ((Egocentricity كثيرا ما نجدها في الدراسات النفسية متصلة بعالم الطفولة، فالطفل يعيش في مرحلة من مراحل نموه أنانية مفرطة تجعله يركز كل شيء حول ذاته، لأن وجدانه لا يتفتح على الآخرين إلا بالمقدار الذي يجعلهم فيه مجموعة من العناصر تقع في منطقة تملكه أو استملاكه ... و فعلا هذه هي حقيقة الغرب الذي يرى نفسه الجوهر الوحيد في العالم والمورد الذي لا ينضب لكل الثقافات الأخرى، فالمركزية الغربية قد قامت على افتراض وجود مسالك تطور خاصة لمختلف الشعوب لا يمكن إرجاعها إلى فعل قوانين عامة تنطبق على الجميع، وهي في الوقت الذي لا تهتم فيه بكشف القوانين التي تحكم تطور المجتمعات ، تقترح على الجميع محاكاة النمط الغربي بوصفه الأسلوب الفعال والوحيد لمواجهة تحديات العصر.
لقد جعل الغرب خصائصه العرقية والدينية والحضارية ركائز تشكل أسس هويته، و جذورا خاصة به، وجعلها المرجعية الأساسية لتحديد أهمية كل شيء وقيمته، ولا يدل ذلك إلا على تقوقعه الطفولي حول نفسه ونرجسيته، لقد انتبه إلى ذلك بعض المفكرين الغربيين أنفسهم، وراحوا يدعون إلى الاستفاقة من الحلم الوردي للغرب صانع الحضارة بزعمه، إذ يؤكد المفكر والفيلسوف الفرنسي (روجيه غارودي) في أكثر من مناسبة أن كلمة الغرب " كلمة رهيبة " ويفسر ذلك بقوله[2] : "الغرب عَرَض، وثقافته مشوهة ، إنها انعزلت عن أبعاد جوهرية، وهي تدَّعي ، منذ قرون تحديد ذاتها بتراث مزدوج : إغريقي – روماني ، ويهودي – نصراني وقد ظهرت أسطورة (المعجزة الإغريقية) في الغرب، لأنه اجتثّ عن عمد، جذور حضارته الشرقية. إن في التمركز الغربي انعزالا عن أصوله الحقيقية التي يجب البحث عنها في بلاد الرافدين ومصر، أي في آسيا وأفريقيا لأن هذه المراكز الحضارية هي التي غذت كل الحضارات اللاحقة بتصوراتها وأفكارها".
إن فكرة الأصل الإغريقي الخالص للحضارة الغربية، هذا الأصل ابتدعه الغرب من أجل احتكار أهمية كل شيء وقيمته لنفسه وإحالة الآخرين إلى مكوّن هامشي لا قيمة له إلا إذا نهل من فيض عطاء الغرب وكريم فضله، إن الغرب يعتبر خلال ألف سنة مضت أكبر مجرم في التاريخ، إنه اليوم وبالنظر إلى سيطرته الاقتصادية والسياسية والعسكرية – بلا مزاحم – يفرض على العالم كله نموذجه التنموي الذي يؤدي –في الوقت ذاته – إلى انتحار عالمي، لأنه يولد تفاوتا متصاعدا بين الشرق والغرب ويسلب المعوزين كل رجاء وينضج اليأس، في الوقت الذي يضع فيه ما يعادل خمسة أطنان من المتفجرات على رأس كل ساكن في هذا الكوكب، إن ما يهدف إليه الغرب ب "العولمة" هو جمع العالم الإنساني كله تحت مظلته، ومحاولة السيطرة على ثرواته وفرض ثقافته عليه.
لقد انقطع الحبل السرّي مع حضارة الغرب الإغريقية الرومانية المزعومة إبّان العصور الوسطى المظلمة في أوروبا عندما امتصت الكنيسة تدريجياً سلطة الملوك والأباطرة، ونمت نمواً كبيراً في عددها، وثروتها، ونفوذها، وأصبحت تمتلك ثلث الأرض في أوروبا بحلول القرن الثالث عشر، وناهضت المفكرين والعلماء واضطهدتهم بل وأحرقت عديدهم بتهم الكفر والهرطقة، في هذا الوقت بالذات كان التاريخ يسدل الستارة على الحضارة الغربية القديمة التي توقف امتدادها وتطورها عند أبواب الكنيسة البابوية في العصور الوسطى، ليشهد حدثا معجزا وولادة لحضارة ألقه جديدة من كبد الصحراء العربية، ستنقل ما حفل به التاريخ القديم من فكر وفن وعلم إلى الغرب لاحقا، الأمر الذي لم يكن ليخطر على بال أحد في يوم من الأيام، فكيف تحول رعاة الإبل الذين جاؤوا من صحراء العرب إلى رعاة للشعوب؟؟ هذا ما سنجده في مقالة أخرى بإذن الله.
أما أثر الحضارة المصرية في نشأة الحضارة الغربية فيبدو واضحا في تهيئة الفيلسوف (أفلاطون)، الذي ترك مصير أستاذه المحزن سقراط، بعد تنفيذ حكم الإعدام فيه جرحا عميقا لديه، واصبح يخشى على نفسه من الزعماء الديمقراطيين الذين أخذتهم الريبة والشك في ولائه لهم بعد استيلائهم على السلطة، وهكذا سافر في عام 499 قبل الميلاد في رحلة طويلة يُعتقد أنها بدأت بمصر و فيها اجتمع بطبقة من الكهنة الذين كانوا يحكمون مصر، وسمع منهم يومئذ أن اليونان دولة وضيعة تنقصها التقاليد الثابتة والحضارة العميقة، و كان فلاسفة مصر لا يعيرون اليونان أهمية بالغة أو اهتماما جديا، ويبدو أن ذكريات هذه الفئة المثقفة المستنيرة التي كانت تحكم شعبا زراعيا ينعم بالاستقرار والازدهار بقيت حية في تفكير أفلاطون، ولعبت دورا في كتابه عن الجمهورية الفاضلة فيما بعد، وقد ذكر البعض أنه ذهب إلى فلسطين وتأثر بأفكار الأنبياء الاشتراكيين الذي يدعون إلى المحبة والعدالة والمساواة هناك، وشق بعد ذلك طريقه إلى ضفاف نهر الغانج في الهند وتعلم التفكير والتأمل من الهندوس.
لقد أُعجِب الفلاسفة والمؤرخون الإغريق بمصر أيما إعجاب ويدين أفلاطون للحضارة المصرية بالكثير، وإذا قارنا فن النحت الإغريقي بالنحت المصري الذي كان يسبقه بعدة قرون نجد كثيرا من التشابه، ونجد مثل هذا التشابه في السياسة وفي الفلسفة.
لوعدنا إلى أثينا عام (310 ق.م) سنجد التاجر الفينيقي زينون وقد جاء بالفلسفة الرواقية، ولم يكن ذلك سوى وجه واحد للتسرب الشرقي الواسع للفلسفة الذي دخل إلى ثقافة الإغريق، كذلك فقد ساعدت فتوحات الاسكندر المقدوني على تدفق سيل الفلسفات الشرقية على الأراضي الأوروبية، خاصة وأنّ هذه الفلسفات أكثر اتساعاً وأشد تأصلاً ووقارا. لقد تغلبت روح الشرق على الاسكندر نفسه في أوج ساعات انتصاره، فتزوج ابنة داريوس ملك الفرس، وتبنى التاج والكساء الفارسي في الدولة.
وعندما سقطت مقدونيا بيد روما بعد معركة كورينث (عام 146 ق.م)، وجد الرومان المنتصرون مذاهب فلسفية شتى تتنازع الميدان، وبما أن الرومان لم تكن لديهم المقدرة والفراغ على التأمل والتفكير أنفسهم، فقد عادوا بهذه الآراء الفلسفية مع جملة مغانمهم إلى روما، واتجه كبار المنظرين منهم إلى الأساليب الرواقية، فكانت الفلسفة السائدة في روما، فلسفة زينون الرواقية.
لقد بنى (زينون) فلسفته الجامدة على جبرية شرقية تقوم على أن الإنسان مخير وليس مسيراً في القيام بأعماله، وعندما كان (زينون) الذي لا يؤمن بنظام الرق يضرب عبداً له ارتكب ذنباً، توسّل العبد أن يخفف من ضربه قائلاً: أن فلسفته تقول إنه مسيّر لا مخيّر في ارتكاب الذنب، أجابه زينون بأنّه هو أيضا مسيّر لا مخيّر في ضربه له.
اعتقد الرواقيون أن عدم الاهتمام بالعالم هو النظرة الوحيدة المعقولة للحياة التي يتنازعها الصراع من أجل المعيشة، وأنّ سرّ السلام أن نخفّض رغباتنا وطموحاتنا إلى مستوى ما يمكن أن نحققه من أمور. يقول الرواقي (سينيكا) الروماني المتوفى عام (65ق.م):
"إذا كان ما لديك لا يكفيك، فستكون بائساً وفقيراً حتى لو ملكت العالم".
لقد نجم عن انفصام الغرب عن منابعه الشرقية إفقار الحضارة الغربية، وأصبح التباين واضحا بين حب الطبيعة والعدل تجاه الناس في الحضارة الشرقية، وبين النزعة الفردية الهدامة في البحث عن الإنسان الفرد المتفوق أو (السوبرمان) الذي يحل محل الإله كما ظهر في فلسفة (نيتشه)[1] بعد ذلك في العصور الحديثة.
إن سيطرة مفهوم مركزية الفرد وامتلاك العالم يلخصان جوهر الحضارة الغربية المعاصرة الذي أدى إلى ولادة الإنسان ذي البعد المادي الواحد، وذات يوم ظهر ملك من الملوك ليفرض نفسه على الناس قاطبة هو الإسكندر المقدوني ومنذ ذلك اليوم أصاب الغرور الغرب وأصبح توسعيا يفرض نفسه على العالم بقوة السلاح.
ورثت روما بعد الإسكندر الأهداف الاستعمارية الكبرى ونشرت تنظيمها وجيشها عبر العالم، لخمسة قرون، فاستعيض عن الإبداع بنهب ثروات الشعوب الأخرى وثقافتها، ثم دب في مفاصل الإمبراطورية الرومانية الوهن بتأثير من المركزية والبيروقراطية والثورات الداخلية والغزوات البربرية التي قطعت الطرق الكبرى، ثم بتأثير التوسع الإسلامي الذي قطع الطرق البحرية عنها، حتى عادت روما قرية إقطاعية ممزقة.
لم يتحلى الرومان إلا بخصلتين: القوة العسكرية التي أتاحت لهم نهب ثروات العالم، وحكوماتهم البيروقراطية، أما ما خلفوه من فن النحت فتقليد سمج للفن الإغريقي.
لقد انتقلت المسيحية إلى أوروبا من الشرق بتأثير تلامذة السيد المسيح خاصة بولس الرسول، لكن مسيحية المؤسسات التي حددت شكل الديانة المسيحية أفسدها الفكر الإغريقي والتنظيم الروماني.
لقـد تمخض العصر الوسيط أو القرون الوسطى أو عصر الظلام كما يحلو للبعض تسميته عن تزاوج مفهومين: " أوربا" و " الغرب "، وباندماج هذين المفهومين نتج ما يعرف الآن بأوروبا الغربية ... مع أن هذا المفهوم الجديد ذو الدلالات المتموجة لا يقصد منه الرقعة الجغرافية لأوروبا، وانما يدل على مجموعة من العناصر الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية التي قام الغرب بتثبيتها، إضافة إلى مجموعة من الصفات والخصائص العرقية والحضارية والدينية على أنها ركائز تشكل أسس هويته ... وأدى هذا بدوره إلى بروز مفهوم حديث هو المركزية الغربية فما الذي يعنيه إذن هذا المفهوم؟
قد يبدو هذا المفهوم مبهماً في بداية الأمر، لأن كلمة مركزية ((Egocentricity كثيرا ما نجدها في الدراسات النفسية متصلة بعالم الطفولة، فالطفل يعيش في مرحلة من مراحل نموه أنانية مفرطة تجعله يركز كل شيء حول ذاته، لأن وجدانه لا يتفتح على الآخرين إلا بالمقدار الذي يجعلهم فيه مجموعة من العناصر تقع في منطقة تملكه أو استملاكه ... و فعلا هذه هي حقيقة الغرب الذي يرى نفسه الجوهر الوحيد في العالم والمورد الذي لا ينضب لكل الثقافات الأخرى، فالمركزية الغربية قد قامت على افتراض وجود مسالك تطور خاصة لمختلف الشعوب لا يمكن إرجاعها إلى فعل قوانين عامة تنطبق على الجميع، وهي في الوقت الذي لا تهتم فيه بكشف القوانين التي تحكم تطور المجتمعات ، تقترح على الجميع محاكاة النمط الغربي بوصفه الأسلوب الفعال والوحيد لمواجهة تحديات العصر.
لقد جعل الغرب خصائصه العرقية والدينية والحضارية ركائز تشكل أسس هويته، و جذورا خاصة به، وجعلها المرجعية الأساسية لتحديد أهمية كل شيء وقيمته، ولا يدل ذلك إلا على تقوقعه الطفولي حول نفسه ونرجسيته، لقد انتبه إلى ذلك بعض المفكرين الغربيين أنفسهم، وراحوا يدعون إلى الاستفاقة من الحلم الوردي للغرب صانع الحضارة بزعمه، إذ يؤكد المفكر والفيلسوف الفرنسي (روجيه غارودي) في أكثر من مناسبة أن كلمة الغرب " كلمة رهيبة " ويفسر ذلك بقوله[2] : "الغرب عَرَض، وثقافته مشوهة ، إنها انعزلت عن أبعاد جوهرية، وهي تدَّعي ، منذ قرون تحديد ذاتها بتراث مزدوج : إغريقي – روماني ، ويهودي – نصراني وقد ظهرت أسطورة (المعجزة الإغريقية) في الغرب، لأنه اجتثّ عن عمد، جذور حضارته الشرقية. إن في التمركز الغربي انعزالا عن أصوله الحقيقية التي يجب البحث عنها في بلاد الرافدين ومصر، أي في آسيا وأفريقيا لأن هذه المراكز الحضارية هي التي غذت كل الحضارات اللاحقة بتصوراتها وأفكارها".
إن فكرة الأصل الإغريقي الخالص للحضارة الغربية، هذا الأصل ابتدعه الغرب من أجل احتكار أهمية كل شيء وقيمته لنفسه وإحالة الآخرين إلى مكوّن هامشي لا قيمة له إلا إذا نهل من فيض عطاء الغرب وكريم فضله، إن الغرب يعتبر خلال ألف سنة مضت أكبر مجرم في التاريخ، إنه اليوم وبالنظر إلى سيطرته الاقتصادية والسياسية والعسكرية – بلا مزاحم – يفرض على العالم كله نموذجه التنموي الذي يؤدي –في الوقت ذاته – إلى انتحار عالمي، لأنه يولد تفاوتا متصاعدا بين الشرق والغرب ويسلب المعوزين كل رجاء وينضج اليأس، في الوقت الذي يضع فيه ما يعادل خمسة أطنان من المتفجرات على رأس كل ساكن في هذا الكوكب، إن ما يهدف إليه الغرب ب "العولمة" هو جمع العالم الإنساني كله تحت مظلته، ومحاولة السيطرة على ثرواته وفرض ثقافته عليه.
لقد انقطع الحبل السرّي مع حضارة الغرب الإغريقية الرومانية المزعومة إبّان العصور الوسطى المظلمة في أوروبا عندما امتصت الكنيسة تدريجياً سلطة الملوك والأباطرة، ونمت نمواً كبيراً في عددها، وثروتها، ونفوذها، وأصبحت تمتلك ثلث الأرض في أوروبا بحلول القرن الثالث عشر، وناهضت المفكرين والعلماء واضطهدتهم بل وأحرقت عديدهم بتهم الكفر والهرطقة، في هذا الوقت بالذات كان التاريخ يسدل الستارة على الحضارة الغربية القديمة التي توقف امتدادها وتطورها عند أبواب الكنيسة البابوية في العصور الوسطى، ليشهد حدثا معجزا وولادة لحضارة ألقه جديدة من كبد الصحراء العربية، ستنقل ما حفل به التاريخ القديم من فكر وفن وعلم إلى الغرب لاحقا، الأمر الذي لم يكن ليخطر على بال أحد في يوم من الأيام، فكيف تحول رعاة الإبل الذين جاؤوا من صحراء العرب إلى رعاة للشعوب؟؟ هذا ما سنجده في مقالة أخرى بإذن الله.