السعي نحو تجربة أصيلة للإيمان
15-10-2024, 12:08 PM
نعيش اليوم في عالم منشطر بين الشمال والجنوب، بين الذين يملكون والذين لا يملكون. إن الموارد الطبيعية في كوكبنا يشرف عليها ويستهلكها خمس سكانه وهؤلاء يمتلكون أكثر من 80% من الدخل العالمي في حين يقع الآخرون بين براثن الفقر والجهل والأمراض التي تدفعهم إلى الهجرة نحو الشمال وزيادة عدد العاطلين عن العمل هناك. والهجرة هي تلك الحركة التي لا سبيل إلى كبحها والتي تقود الذين لا يستطيعون العيش على أرض أجدادهم من مناطق الجوع إلى مناطق البطالة. إن زيادة الإنتاجية باستخدام وسائل التحكم والتقانة الحديثة لم يعد يخلق وظائف جديدة، لكنه على العكس يحذف منها فقد حلت الآلة محل جزء كبير من اليد العاملة الإنسانية، لكن المصيبة لا تقع على العلوم والتقنيات بل على سوء استخدامها عندما لا تتناقص ساعات العمل بل تتضاعف البطالة أضعافا مضاعفة، هذا يعني أن التقانة لم تخدم الإنسانية بل خدمت مالكي وسائل الإنتاج. إن زيادة أوقات الفراغ لو حصلت يجب ألا يستردها سوق أوقات الفراغ الذي يحوّل الوقت الحر إلى وقت فارغ من خلال أنواع التسلية الاستهلاكية التي تُقتَرح له والتي لا تؤدي إلى الصحة الجسدية والنمو الثقافي، بل بدلا من أن تساعد الإنسان على تحقيق إنسانيته تدفعه إلى العنف والإجرام من خلال ما تقدمه وسائل التواصل من أفلام الجنس الرخيص والعنف والدماء.

لا تمكن معالجة هذه المشكلات الاقتصادية والسياسية إلا إذا ارتبطت بغاية سامية لا تقدمها سوى الأديان التي تشحذ الفكر والضمير نحو السمو والتعالي. لكن وللأسف فقد وقعت البشرية الآن بين مطرقة مادية عمياء عرجاء لا ترى في الإنسان سوى آلة لتحقيق الكسب السريع، وسندان ديانات مؤسسية قائمة حالياً تمثل المسيحية والإسلام، وقد تحالف كل منهما مع السلطة والثروة بدلا من الإخلاص لما عاهدوا الله عليه، بل وأفرز كل منهما منذ قرون حقا مقدساً مزعوماً للملوك والسلاطين مدعياً أن من يعارضهم فإنما يعارض مشيئة الله؛ هذا ما كتبه بولس الرسول بعد بضع سنوات من موت المسيح الذي كانت حياته كلها وقوفا في وجه الظلم والطغيان.

كذلك كان الأمر بعد وفاة النبي محمد (ص) بسنوات قلائل عندما استخدم الأمويون السلطة والثروة في سبيل تثبيت ملكهم ورفاه عيشهم محتجين بأن وصولهم إليها كان بأمر من الله وأن على الرعية طاعتهم. ومازال التحالف بين السلطة واللاهوت قائما إلى يومنا هذا.

من الضروري إذا أن نفتح أنفسنا لتجربة الله الأصيلة التي تتجلى في الفعل المبدع للإنسان في الفنون وفي جميع أشكال التعبير التي بها يهب حياته وحياة المجتمع معنى من خلال سعيه نحو الله، وها هنا ينبعث المقدس الذي لا يرتبط بقشور الدين أو الشعائر، بل بكل ما يعطي الحياة سموا ومعنى.

نحن نعيش اليوم أشرس حروب الدين ليس بين الكاثوليك والبروتستانت ولا بين الإسلام والمسيحيين، بل بين دين لا يعلن عن هويته و يحكم بالفعل من جهة، وبين الفقراء والمهمشين، إنه دين متعدد الآلهة من المال إلى السلطة فالقوميات الشوفينية فالأصوليات، حرب على الإسلام ابتدعها الغرب دون أي مبرر ديني، بل بكثير من المبررات الاقتصادية المتعلقة بالسيطرة على موارد العالم الإسلامي و أهمها النفط، و مبررات سياسية و استراتيجية للسيطرة على جغرافيا المنطقة و تاريخها و ضمها تحت عباءة ما يسمونه بالعولمة.

في الوقت نفسه على الشعوب العربية والإسلامية الحذر من مخاطر البحث عن هويتها القومية والإنسانية المتحررة في سرديات تتنافى مع جذورها التاريخية، ومع واقعها وحاجاتها الحقيقية، وكذلك الحذر من الخلط بين الشريعة وهي الطريق الأخلاقية الأبدية الشاملة التي جاء بها جميع الأنبياء بوحي من الله، وبين التشريع أو (الفقه) الذي يمكن أن نستلهمه من الشريعة في كل عصر لحل مشكلات ذلك العصر وفقا لما يصلح الأحوال الاجتماعية والمعيشية ويتماشى مع كرامة الإنسان وروح العصر.

إن الخلط بين الشريعة الإلهية كما هي معرفة في القرآن وبين الفقه، أي التطبيقات البشرية التي جرِّبت عبر التاريخ ما يزال يشوه الحقيقة الإنسانية الرائعة للإسلام. إن الشريعة القرآنية تعطي المبادئ لوضع أسس لحداثة متميزة عن حداثة الغرب المصبوغة بالكذب والنفاق والكيل بمكيالين أحدهما للغني والآخر للفقير.

إن القرآن نفسه يعلمنا أن نميز الطريقة الإلهية الأبدية أو (الشريعة) من الأحكام التشريعية التاريخية أو الظرفية أي التي جاءت تلبية لظرف زماني ومكاني محدد تعبيرا عن شروط ذلك الظرف في ذاك العصر. لا يمكننا أن نضع تلك الأحكام والتشريعات الظرفية على صعيد واحد مع شرعة الله الخالدة بحجة أنها واردة في القرآن الكريم. إن ظرفية هذا الحكم أو ذاك لا ينفي أبدا تسامي مبادئ شرعة الله عبر الزمان والمكان، فظرفية التشريع أو الفقه قد تقع استجابة لأوضاع جديدة، وقد علمنا القرآن درسا من خلال نسخ بعض آياته أو استبدالها بأخرى استجابة لأوضاع جديدة: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" البقرة-106 ، والمثال على ذلك جاء من تغيير قبلة الصلاة، وهي أهم شعائر الدين، و في مسجد قباء أول مسجد بني في الإسلام عام 622 م، فقد كانت القبلة متجهة إلى القدس، فأمر الله تعالى بتغيير اتجاهها نحو الكعبة، نتيجة أوضاع تاريخية تتعلق بعداء اليهود للمسلمين واستنكارهم أن يتخذ هؤلاء قبلة اليهود قبلة لهم أيضا، وقد جاء التوضيح الإلهي فورا بأن معنى الصلاة وتوجهها يبقى ذاته لا يتغير: "وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة-115)، أما الإشارة والاتجاه فالمقصود بهما وحدة الدين الإبراهيمي، ووحدة الأمة والجماعة الإسلامية كل ذلك في آن واحد.

إن الله تعالى يقول لنا، خلافا لكل تزمت ولكل تمسك بالشكليات: "ليس البر أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب" (البقرة-177)، إنه يدعونا إلى إيمان نقي بعيدٍ عن الطقوس الشعائرية؛ إيمان يعبر عنه العمل تجاه الآخرين: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" (آل عمران-92).

لقد قدم فقهاء الإسلام في الماضي مثالا يُقتدى حين اجتهدوا لحل مشكلات زمانهم. وهذا ما هم المسلمون بأمس الحاجة إليه اليوم.