المنقذ المنتظر
18-10-2024, 02:53 PM
تعالَ يا غودو..

وخلّصنا من الطغاةِ والطغيانْ

فنحنُ محبوسونَ في محطّةِ التاريخِ كالخرفانْ

تعالَ يا- غودو ... وجفِّفْ دمعَنا

وأنقذِ الإنسانَ من مخالبِ الإنسانْ[1]

إنه المنقذ مخلص الإنسانية من آلامها، ولك أن تسميه (غودو) كما جاء اسمه في مسرحية الكاتب الأيرلندي (صموئيل بيكيت[2] أو مهدي آخر الزمان، أو المسيح المنتظر في بعثه الثاني ... وستجد أن لمختلف العقائد والحضارات صورًا متشابهة لشخصية منقذ مخلص؛ هو المعين الإنساني الذي نهلت منه جميع المجموعات المظلومة ملامح تراثها العقائدي في صراع الخير والشر، النور والظلمة، الحق والباطل ... وهذا ما نجده في أدبيات جميع فرق الأديان السماوية، وحتى لدى المذاهب والعقائد القديمة، التي احتاجت إلى بطل، إلى منقذ ينتشلها من الظلم والجور وفساد الحكام، فرسمت صورة غلب عليها الطابع الأسطوري لمنقذها، نسجها خيال أولئك المضطهدين في كل جماعة بشرية.

وحول هذه الشخصية المنتظرة تختلط كثير من الروايات والأساطير التي تضفي على هذا المنقذ صفات خارقة تتعاظم يومًا بعد يوم مع ازدياد الظلم الواقع على الطائفة أو الفرقة التي تنتظره، ثم إن الديانات السماوية والوضعية تخبرنا جميعًا بنهاية حتمية لهذا العالم، وان هذه النهاية ستكون مرتبطة بظهور المخلص المنتظر لإنقاذ الأخيار من البشر بعد أن يحل الدمار، ويصيب الفناء العالم كله، هذه الصورة البطولية النبيلة التي تحظى بها شخصية (المنقذ) في كافة المذاهب جعلت منه صورة مثالية، وطموحًا يمثل الشكل الأسمى للإنسان الأعلى، لذلك لا تتوقف المرويات عن أولئك الذين لا يكفون عن الحلم والطموح بأن تلتقطهم الظروف والأقدار ليكونوا هم الشخصية المنقذة المنتظرة التي تلتف حولها الفئات المقهورة المظلومة، والذي نلمسه بين جميع هذه العقائد هو ذلك الحس البشاري ليوم موعود ينتصر فيه المظلومون، وكيف جعل من انتظارهم رافدًا ومنهلاً للروح والأمل بغد مشرق.

نجد الصورة البطولية النبيلة التي تحظى بها شخصية (المنقذ المنتظر) في الفلسفة الحديثة أيضا عند الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) في كتابه: "هكذا تكلم زرادشت"[3]؛ لقد تأثر نيتشه بنظرية التطور التي تقول بأن كل نوع من الأحياء أوجد نوعاً جديداً متفوقاً عليه بالانتخاب الطبيعي، حتى وصلت حلقة التطور إلى نوع الإنسان، وتوقف التطور -بحسب نيتشه- عنده، ولا سبيل إلى إكمال مسيرة تطور الإنسان إلا بتطوره إلى نوع جديد هو (الإنسان المتفوق) الذي سينهض بالبشرية من مستنقع الضعف والعبودية الذين أوصلها إليهما الدين، بحسب ادعاء نيتشة والمسيحية خصوصا، إلى ذرى التقدم والإبداع.

وهكذا نجد الإنسان وقد دأب عبر العصور في البحث عن منقذ أو مخلص ينتشله من مآسيه؟

يمكن القول أن لظاهرة الانتظار ارتباطها المباشر بالواقع الاجتماعي وتحولاته الاقتصادية واستقراره الكلي، فحين يقع المجتمع في براثن الظلم والبؤس والشقاء والفقر، أوحين يقع فريسة الحروب والكوارث التي لا تُبقي ولا تذر وعندما تتخطى المصائب مقدرته المتواضعة على المواجهة والصمود والتحمل، يدفعه الأمل وغريزة حب البقاء إلى البحث عن غائب لا بد أن يأتي ولو بعد حين، له من الصفات البطولية والإعجازية ما يؤهله لإمكانية تغيير الواقع إلى أفضل حال، لقد ساعدت الأديان على ترسيخ عقيدة الانتظار، ربما لأن فيها عوامل تحفيزية منبّهة تجعل الكائن البشري مشدوداً بفاعلية لقوى تتجاوز حدود الطبيعة والزمان والمكان، وتجعله في حالة توقع وترقب وانتباه لموقعه في الوجود باستمرار منتظرين الوعد بحياة أخرى لا تشوبها منغصات الحياة الأولى .

لن نفاجأ بترويج الفكر السياسي الغربي المعاصر لعقيدة الانتظار، وما المحاولات الدؤوب التي يبذلها لنشر نظريات مثل نهاية العالم أو صدام الحضارات أو العولمة، ما هو الا اختصار الطريق نحو مفهوم مغلوط أحادي النظرة، وعنصري الشروح والتعليقات، للاندماج في بوتقة الغرب والعرق الأبيض المتفوق على أنه المنقذ المنتظر، أو كما تبشر الشيوعية الجدلية الشعوب بالخلاص من خلال شيوع الملكية، لكن تلك المحاولات السياسية لم تجد يوما ما يجمع الناس حولها، لأنها ابتعدت عن الفكر الإنساني المرتبط بالوحي الإلهي، فالخلاص له امتداد روحي وديني وعقلي في أدبيات الأديان ووجدان الشعوب وضميرها.

هكذا ... يُعَدُّ الفكر الانتظاري امتدادًا إنسانيًّا توارثته الأجيال، واختلفت مفاهيمه باختلاف العصور والحضارات، يتداخل فيه الديني والسياسي، واللاهوتي مع الإنساني ... فالديانة المسيحية مثلا تعلمنا أن ننتظر الظهور الثاني ليسوع المسيح إذا أردنا أن نحيا، وان نتخلى عن شرور العالم ونتبعه، مع أن الكنيسة بعيد استلامها السلطة في العصور الوسطى في أوروبا بدأت تشبه شبها غريبا الديانة التي حاربها المسيح والتي أدانته ودفعت به إلى الصليب. الغريب في الأمر أن الكنيسة قد اعتمدت من أجل فرض الإيمان على سلطتها الدنيوية بدلا من الاعتماد على هداية الرب.

أما نظرية الشعب المختار فقد عادت لتظهر كالتنين بحلل جديدة مرة من خلال الصهيونية العالمية التي تحاول السيطرة على العالم واستغلال موارده من خلال سيطرتها على مقدرات الولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر أقوى دولة في العالم اليوم، أومن خلال الادعاء الكاذب للغرب هذه المرة بأنه هو الشعب المختار المؤمّن الوحيد على الحضور الإلهي، أومن خلال الأصولية الدينية التي تدّعي الحق لنفسها في الشمولية والاستعلاء وفرض مبادئها وافكارها بالقوة على الآخرين.

وهكذا تحولت عقيدة الانتظار البشائرية إلى أفاعٍ شتى تحاول التحايل على الإنسانية وانتهاك حرمة مملكة الرب، والدخول إلى جنته لتغوي الجنس البشري بالفساد تحت عنوان الحكمة والخلود وأصبح ظهور منتظر يُحِق الحق ويزهق الباطل فرضا لازماً للعودة الحميدة إلى ينبوع الدين الصافي.

لقد أزفت الساعة لظهور منتظر للناس كافة من أجل إيقاظهم على حياة أفضل، عندها لن يكون الأمل الأخروي هو نداء الإنسان اليائس في الأرض، بل سيصبح خميرة مشروع يتوخى خلق سماوات جديدة واراض جديدة. إن الطريق إلى ما يُنتظر من مستقبل إنساني زاهر لن يشقه شعب مختار ولا غرب مؤتمن على دين متصهين يدعي الحق دون غيره في معرفة الله، ولا أصولية شمولية حمقاء، بل يُشقّ بالعالم الذي يحمل فيه كل إنسان روحا من الله.


[1] . عن: نزار قباني، (بانتظار غودو).

[2] . في انتظار غودو (بالإنجليزية: Waiting for Godot)‏ (بالفرنسية: En attendant Godot) مسرحية كتبها الكاتب الإيرلندي صمويل بيكيت. تدور أحداث المسرحية حول رجلين يدعيان «فلاديمير» و «استراغون» ينتظران شخصًا يدعى «غودو» لا يصل أبداً، وهي ملهاة مأساوية من فصلين، ألّف النسخة الفرنسية الأصلية ما بين 9 أكتوبر 1948 و29 يناير 1949 وكان افتتاح أول عرض في 5 يناير 1953 في مسرح بابلون من إخراج روجر بلين بباريس. عُرضت النسخة الإنجليزية لأول مرة في لندن عام 1955. في استطلاع للرأي، أجراه المسرح الوطني الملكي البريطاني عام 1990، جرى التصويت على أنها أهم مسرحية في القرن العشرين باللغة الإنجليزية.



[3] . هكذا تكلم زرادشت (بالألمانية: Also sprach Zarathustra) هي رواية فلسفية للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، تتألف من أربعة أجزاء صدرت بين الأعوام 1883 و1885. تتكون من سلسلة من المقالات والخطب تسلط الضوء على تأملات زرادشت، وهي شخصية مستوحاة من مؤسس الديانة الزرادشتية.
التعديل الأخير تم بواسطة طارق زينة ; 18-10-2024 الساعة 02:55 PM