أفول شمس الحضارة الإسلامية وصعود الغرب-2:
24-10-2024, 09:39 AM
كان عصر النهضة في أوروبا عصر تحول جذري في الغرب المحافظ، فَقِد الناس فيه الإيمان بالكنيسة الرسمية، بعد أن دفعت تصرفات الكنيسة العنيفة ضد العلم والعلماء وحرقهم أو نفيهم واتهام الكثيرين منهم بدون مبرر معقول بالهرطقة وإحالتهم إلى محاكم التفتيش قبل ذلك في القرون الوسطى، وكان الناس يستشعرون خوفا غامضا ويدركون أنهم لن يستطيعوا أن يمارسوا الدين بالأسلوب القديم، ومع ذلك فقد كانت تلك الفترة فترة اكتشافات وبعث جديد في أوروبا، فقد أسفرت الاكتشافات المتكررة عن بَدْء الاستعمار الأوروبي للأمريكيتين، ففي 3 أغسطس (آب) 1492م أبحر (كريستوفر كولومبوس) في المحيط الأطلسي بثلاث سفن، تحمل العلم الإسباني وبـ (120) بحاراً بعد أن أقنع الملكين فرناندو وإيزابيلا بمشروعه للوصول إلى الهند بالإبحار غربا، وبالفعل فقد وصل في العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) من السنة نفسها إلى جزر الأنتيل في أمريكا الوسطى معتقداً أنه دخل بعض الجزر الآسيوية القريبة من الهند، لذلك أسموها في البداية بجزر الهند الغربية؛ إلى أن سافر إليها فيما بعد البحار الإيطالي (أمريكو فسبوشي) ليعلن لأوربا أن كولومبوس إنما اكتشف "عالماً جديداً" أُطلق عليه اسم "أمريكا" نسبة إلى اسمه. و كان الفلكيون يفتحون مغاليق السموات ويحددون موقع الأرض والشمس في الكون مخالفين بذلك ما جاء به أرسطو وأيدته الكنيسة في العصور المظلمة السابقة، و كانت وسائل التقنية الجديدة توضع في خدمة الناس تباعا لتحسن الاقتصاد وتزيد رفاه المجتمع، فقد شهدت تلك الفترة ظهور مخترعات متخصصة مثل البوصلة والتلسكوب والعدسة المكبرة التي ساهمت في تحسين الخرائط والأساليب البحرية و رصد البكتريا وغيرها من الكائنات الصغرى لأول مرة، ولم تقتصر الأساليب العلمية الجديدة على تجميع العلوم والمعارف بل تعدتها إلى تفريغ أحداث الحياة من محتواها الأسطوري الذي كان سائدا، وازداد الاهتمام بالمرافق الصحية، واستطاع الأطباء التعرف على كثير من الأمراض ووصف العلاج لها، كما تطورت علوم الأرض وامكن تفسير بعض الظواهر كالزلازل والبراكين بالاعتماد على الدراسة والعلم بدلا من الأسطورة، وتحسنت الآلات الميكانيكية كالساعات الكبيرة وساعة اليد، واصبح ينظر إلى الزمن نظرة علمية، وبشكل عام فقد ازدادت الثقة بالمستقبل وما يخبئه للإنسان من رفاه وازدهار، و في أوائل القرن لثامن عشر بدأ الناس في أوروبا يمارسون التأمين على الحياة كدليل على ثقتهم بالمستقبل. وقد أثبتت الثقافة الجديدة للعالم المسيحي الغربي أنهم يستطيعون الخروج عن حدود المألوف دون أن يتعرضوا لمحاكم التفتيش، طالما أن في هذا الخروج ازدهار لهم، وأن ازدهار المجتمع وتقدمه لا يمكن أن يكون عن طريق الروحانيات وحسب بل من خلال الإبداع والعمل، وأن مال قيصر لقيصر وما لله لله، فلا يجوز الخلط بين المملكتين، وبالرغم من كل ذلك فقد كان الكثيرون من المستكشفين والعلماء والمفكرين يبحثون في لحظات التحول الحاسمة عن طرائق جديدة للتدين لا لإلغاء الدين.
لقد أدى تراكم المكتشفات العلمية إلى تهديم منطق الروح القديم بالتدريج، وهيأ الكثيرين لتقبل أفكار جديدة عن الله والدين والدولة والفرد والمجتمع، لكن عملية التحديث هذه مرت بكثير من أعمال العنف والحروب المدمرة والصراعات الدينية الكريهة، مثلها في ذلك مثل الأحداث الدامية التي نشهدها في بعض البلدان النامية التي تمر بمرحلة التحديث اليوم.
استعان الغرب بالاقتصاد الرأسمالي الناشئ على إبدال وتجديد موارده بلا نهاية، وأصبح حصينا آمنا من التأثر بالحدود والقيود التي تعيش في ظلها المجتمعات القائمة على الزراعة فقط.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلم تقتصر الموارد المادية التي اعتمدتها المجتمعات الأوروبية على الموارد الزراعية كما حصل في الشرق، بل تعدتها إلى الموارد التجارية والصناعية التي ترافقت مع كثير من الإبداع والاختراعات شجع على ظهورها حرية الرأي وتشجيع العلم والعلماء ...
إن السير في هذا الطريق تطلب توفير التعليم التقني لعدد أكبر من الناس، وتمكنت أعداد متزايدة من العمال من القراءة والكتابة وبالتالي من المشاركة في إدارة الدولة والمجتمع وانتقلت بذلك من هامش المجتمع إلى المساهمة في صنع الديمقراطية، وأصبحت المثل العليا للديمقراطية وحقوق الإنسان من ثمار الحداثة التي اقتضتها ضرورات التغيير الاقتصادي، فبدونها لا يمكن السير إلى الأمام.
لقد كانت فترة البعث هذه مثيرة ساحرة ولكنها كانت فترة تغيرات جذرية في الوقت نفسه حاول الناس استيعابها عن طريق الدين، لكن أشكال القرون أوسطية القديمة للدين لم تعد تتماشى مع الظروف التي كانت آخذة في التغير دون هوادة، و كان المطلوب تحقيق المزيد من المرونة والانسيابية في الخطاب الديني ليتماشى مع المستجدات، فكان المصلحون من البروتستانت شأنهم في ذلك شأن المصلحين المسلمين الذين سبقوهم في ذلك، يحاولون إيجاد حلول جديدة بالعودة إلى الماضي، فكان كل من مارتن لوثر (1483-1556) و جون كالفن (1509-1564) وهالدريتش زفنجلي (1484-1531) ينظرون إلى الخلف باسم العودة إلى المنبع الصافي للتقاليد المسيحية، وكما حاول ابن تيمية العودة بالإسلام إلى صورته النقية في القرآن والسنة فقد قام لوثر بمهاجمة اللاهوتيين المدرسيين من القرون الوسطى وحاول أن يرجع إلى المسيحية النقية في الكتاب المقدس والى آباء الكنيسة الأولى، فكان المصلحون البروتستانت مثل المصلحين المسلمين المحافظين، لا يمكن وصفهم بأنهم ينتمون إلى عالم الحداثة المقبل بل يمكن وصفهم بأنهم مبشرين بعهد جديد تنتمي جذوره الراسخة إلى العهد القديم، على سبيل المثال فإن فرنسيس بيكون (1561-1626) الذي ارتكزت النهضة العلمية في أوروبا إلى أفكاره كان من جهة يؤكد أن جميع الحقائق حتى أقدس الحقائق الدينية، يجب أن تخضع للأساليب النقدية الصارمة للعلم التجريبي، فإذا ظهر تناقض بين الحقائق التي ثبتت صحتها مع غيرها، فيجب نبذ الأفكار الأخرى بغض النظر عن قدسيتها، ومن جهة أخرى نجده لا يرى أي تناقض بين الكتاب المقدس والعلم، و كان يطالب بالحرية الكاملة لرجال العلم قائلا: إن أهمية عملهم للجنس البشري أكبر من أن يعيقها السذج من تجار الدين، و كان كتابه الموسوم بتقدم المعرفة (1605) بمثابة إعلان استقلال من جانب العقلانية العلمية التي كانت تسعى للتحرر من منطق الروح وتعلن أنها الوحيدة القادرة على فتح باب الحقيقة أمام البشر، لذلك نجد أن ديكارت لم يكن على استعداد لقبول الأفكار الشائعة، و كان يقول أن على العالم أن يجعل ذهنه خاليا من كل الأفكار التي انتهت إليه عن طريق المجتمع، وان لا يطمئن إلا إلى المعرفة الفطرية، فالمعرفة الفطرية التي تقول أن زيدا لا يمكن أن يكون عبيدا مثلا في الوقت نفسه ، حقيقة لا يمكن نقضها أو الجدل حولها.
ولديكارت مقولته الشهيرة: "أنا أفكر فأنا موجود" التي يعتبرها من البديهيات، الأمر الذي اجتذب كنط لاحقا لاختبار إمكانيات العقل وحدود احتماله.