أفول شمس الحضارة الإسلامية وصعود الغرب-4:
28-10-2024, 08:58 AM
كان قادة الثورة الأميركية للتحرر من إنكلترا مثل (جورج واشنطن) و (جون صمويل أدامز) و (توماس جيفرسون) و (بنيامين فرانكلين) عقلانيين من رجال التنوير يستلهمون مُثل الحداثة العليا التي وضعها (جون لوك)،و كانوا إلهيين أي يؤمنون بالله فقط كخالق ومدبر للكون لا نستطيع أن نتخيل شكله بل ندرك آثاره في كل شيء من حولنا، ولا يؤمنون بالديانات السماوية ولا الوضعية، و كانت أهدافهم خلال حرب الاستقلال عن انكلترا عملية ومحدودة وهي أن تكون المستعمرات دولا حرة مستقلة، و كان إعلان الاستقلال وثيقة تنويرية أساسها المثل العليا لحقوق الإنسان التي كان (لوك) يدعو اليها وينادي بها، وهي الحق في الحياة والحرية والسعي لتحقيق سعادة الإنسان، والمساواة باسم الله، ويضع الخطوط العريضة لبرنامج عمل طويل المدى دون الدخول في تفاصيل السياسة. لكن الواقع أنه كان من العسير الفصل بين الخطاب الديني والخطاب السياسي بل إن التوافق بين الفكرين أتاحت للمستوطنين أن يوحدوا صفوفهم بعيدا عن الخلافات المذهبية والطائفية لمحاربة القوة الاستعمارية لإنكلترا، بالرغم من أن معظم المستوطنين كانوا يستمدون إلهامهم من النبوءات المسيحية التي كانوا في حاجة إليها ليدخلوا في فضاءات الاستقلال السياسي الحديث بتركيبة فكرية متكاملة تقوم على منطق الروح الذي يتيح لهم القوة النفسية لتحقيق ذلك الانتقال العسير، فكان الدين السمح هو الوسيلة التي تساعد الناس على مجالدة مشقات الطريق الوعر إلى الحداثة.
لقد تعاون الآباء المؤسسون و رجال الدين على مختلف طوائفهم على إنشاء جمهورية علمانية حديثة هي الولايات المتحدة الأميركية، لكن كلا الجانبين كان ينتمي من عدة زوايا مهمة إلى النخبة من العالم المحافظ القديم، و كانوا يعتقدون أن مهمتهم أن يقودوا الأمة من مكانهم في القمة ولم يتصوروا أن التغير يمكن أن يبدأ من القاعدة أي من الشعب، واهملوا دور القاعدة الاجتماعية أو الشعبية والقوى البيئية والاقتصادية في إحداث التغيرات المجتمعية الكبرى، و دارت في نهايات القرن الثامن عشر مناقشات مستفيضة حول طبيعة الديمقراطية التي ستحكم في الولايات، وعن مدى السلطة التي يمكن السماح بها للشعب، فكان (جون أدامز) الرئيس الثاني للولايات المتحدة يستريب بأي نظام يمكن أن يؤدي إلى حكم الغوغاء من الشعب وافقار الأغنياء، لكن الثوريين من أنصار (جيفرسون) كانوا ينكرون أن تتكلم الصفوة الحاكمة من الأقلية باسم الأكثرية من الشعب، وان الناس العاديين يجب أن يتمتعوا هم أيضا بالحرية والاستقلال الذين نادت بهما الثورة الفرنسية، فظهرت حركة إحياء جديدة تزعمها بعض من المتخصصين مثل (جوناثان إدواردز) و (جورج هوايتفيلد) و كانا من خريجي جامعتي ييل واكسفورد وبالرغم من ذلك كانا يكرهان العالم الأكاديمي ويؤكدون على أن من حق كل مسيحي أن يفسر الكتاب المقدس بنفسه، دون الخضوع لخبراء اللاهوت، و كانوا يستخدمون في خطبهم اللغة والفكاهات الفظة والتعابير الدارجة التي تفهمها عامة الشعب، و كانوا يعيدون تشكيل صورة المسيحية وتقديمها بطريقة مبتذلة للناس بعيدا عن طقوس القداسة التي تحيط بمثل هذه الشعائر عادة، معتقدين أنه لا ينبغي للناس الالتزام بالتراث الديني للسلف فهم يتمتعون بحرية أبناء الرب ولديهم منطق الفطرة السليمة.
هذا التمرد المسيحي الشعبي على العقلانية العلمية التي أتى بها التنوير كان له أكبر الأثر في أن ينصرف كثير من الأمريكيين عن المذهب الجمهوري التقليدي للمؤسسين ليدخلوا ساحة الديمقراطية السوقية والنزعة الفردية الغليظة التي تميز الثقافة الأميركية اليوم.
لقد نجح أنبياء الصحوة الكبرى الثانية الذين بدؤوا حركتهم من القاعدة الشعبية، مثلهم مثل كثير من الحركات الدينية اليوم في تمكين الناس الذين كانوا يشعرون أنهم مقيدون ومستغلون من توصيل آرائهم واسماع أصواتهم للنخبة ذات الامتيازات الكثيرة، أي أنها مكنت الناس من الإحساس بأهميتهم، فكانت تعقد العزم على إحياء الدين من منابعه الصافية الأولى، وتعتمد في أيديولوجيتها على النصوص المقدسة وتفسرها تفسيرا حرفيا، و كانت تميل جميعها إلى الديكتاتورية.
تكشف لنا مثل هذه الحركات الاجتماعية عن أنواع الحلول التي يجدها الكثيرون جذابة عندما تتعرض مجتمعاتهم لهزات التحديث ومستجداته فيظهر أنبياء (صحوة) يقومون بثورة على عقلانية العلم ويصرون على التميز بهوية ذات طابع ديني تقليدي وينجزون بذلك صيغة فكرية محدثة في متناول أيدي الذين لم تتح لهم فرصة التعلم والوصول إلى منابع الثقافة الدينية والاجتماعية الأصيلة فعلا.
أعلنت الولايات بعد الثورة استقلالها عن الدين، وساد الاعتقاد بأنه من الأفضل إتاحة الدين في الكنائس والمدارس وجمعيات الإصلاح التي تكاثرت في الولايات الشمالية في عشرينيات القرن التاسع عشر، وبدأ المسيحيون البروتستانت حملة لبناء عالم أفضل من خلال مناهضة الرق ومعاقرة الخمر ورفع الظلم عن الجماعات المهمشة ونصرة قضايا المرأة. وكان تدفق المهاجرين الكاثوليك مصدر قلق للمهاجرين الأول الذين كانوا يمثلون 99% من السكان، ولكن بحلول أربعينيات القرن التاسع عشر كان عدد الكاثوليك يزيد عن 2.5 مليون وكان هذا التطور مصدر فزع لأمة طالما اعتبرت أن البابا هو المسيخ الدجال. مع ذلك فقد كانت حركات الإصلاح الإنجيلية المذكورة حركات تحديثية بتأكيدها على قيمة الإنسان مهما كان جنسه وعرقه ولونه خاصة في الولايات الشمالية التي انتشرت فيها موجة الحداثة كما لم تنتشر في الولايات الجنوبية، وانتهى الأمر بالمسيحيين الإنجيليين إلى أن أصبحوا العمود الفقري لحزب الأحرار الذي خلفه الحزب الجمهوري الحالي في حين كان خصومهم ومنهم المحافظين والكاثوليك يفضلون الحزب الديمقراطي. لقد حققت البروتستانتية نصرا باهرا لأميركا ومنحت الناس قوة الوقوف في وجه النظام العلماني للدولة، ولا نكاد نجد اليوم حركة شعبية في أميركا لا ترتبط بالدين بصورة ما.