أفول شمس الحضارة الإسلامية وصعود الغرب-آخر المقال:
28-10-2024, 09:38 AM
كانت الصورة بالغة الاختلاف في أوروبا فكانت الإيديولوجيات الشائعة علمانية لا دينية، كما انصب اهتمام الناس على هذا العالم لا على العالم الآخر.
وفي ألمانيا رأى كارل ماركس أن الدين من أعراض المجتمع المريض، وأنه أفيون يعين الناس على تحمل الظلم والجور الاجتماعي ويمنعهم من الثورة ضد الأنظمة الجائرة ويوجههم للتفكير بعالم آخر خيالي سيحصلون فيه على ما حرموا منه في هذا العالم.
وبدأت آراء الملحدين تحظى بمكانة معنوية رفيعة بعد صدور كتاب أصل الأنواع عام 1859 الذي وضعه العالم الانكليزي (تشارلز داروين 1809-1882) والذي أحدث هزة غيرت من نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى موقعه في العالم، فقد بين داروين بأسلوب علمي يستند إلى البحث والتدقيق أن الإنسان بوضعه الحالي هو نتيجة سلسلة طويلة ومعقدة من التطور بدأت من الأحياء الدقيقة وحيدة الخلية التي وجدت في البدء على الأرض ثم تطورت إلى أشكال الحياة المعقدة الأخرى لتُتَوّج سلسلة التطور هذه بظهور الإنسان العاقل الذي نعرفه اليوم.
وبالرغم من أن داروين لم يتناول في كتابه المذكور ولا في أبحاثه الأخرى ما ينفي نظرية الخلق بدءًا من آدم كما وردت في الكتب المقدسة، ورغم احترامه للكنيسة والدين، فإن عملية تطور الأنواع كما وصفها تشير إلى تصميم ذكي وعقل مبدع أدى إلى تطورها بشكل رائع يتلاءم مع البيئة حتى بلغت قمتها بظهور الإنسان. إلا أن الأوساط الدينية ثارت على داروين بقوة، مشابهةً ثورتها ضد كوبرنيكوس عندما بين أن الأرض ليست مركز الكون، أو غاليليو غاليلي الذي أكد دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس. في جميع الأحوال، أصبح الكتاب المذكور نقطة تحول تاريخية؛ فإذا كان كوبرنيكوس قد أزاح الإنسان عن مركز الكون، فإن داروين أثبت أن الإنسان ما هو إلا كائن بيولوجي في قمة سلسلة التطور. وقد استنتج الملحدون من ذلك أنه لا مكان لإله في عملية الخلق، وأن الحياة تسير بلا هدف أو غاية إلهية، متجاهلين أن عملية تطور الأنواع بحد ذاتها تُظهر دقة في التصميم لابد وأن يكون من ورائها قوة خلاقة مبدعة.
بدأ العلماء الألمان منذ أواخر القرن الثامن عشر في تطبيق مناهج العلم الحديث على الكتاب المقدس. وخلصوا إلى أن الأسفار الخمسة الأولى المنسوبة إلى موسى لم تُكتب إلا بعد وفاته بمدة طويلة وبأقلام مؤلفين متعددين. ومن المرجح أن داوود عليه السلام لم يكتب المزامير، وأن معظم المعجزات المذكورة في الكتاب المقدس لا يمكن قبولها حرفيًا، بل يمكن اعتبارها استعارات أو مجازات أدبية؛ فقصة الخلق ليست سردًا تاريخيًا لأصل الحياة، بل تأملات روحية للحياة ذاتها، حيث يقف الإنسان المتمثل بآدم بين مطرقة الشر الممثل بالشيطان وسندان الخير الممثل بالحكمة والتسامي فوق الشهوات والأهواء، التي ترمز إليها تفاحة آدم وهي التي قد تستسهل المرأة الانزلاق نحوها كما هو دور حواء في القصة التوراتية.
لقد آذنت نظرية أصل الأنواع لداروين في حرب شعواء بدأها علمانيون من أمثال (توماس هكسلي 1825-1895) راحوا يشيعون النظرية بين الناس محاولين إثبات التناقض بين العلم والدين، مؤكدين أن العقل لابد أن يكون المعيار الوحيد للحقيقة. وكان هكسلي يرى أن العقلانية العلمية دين جديد ويطلب من أتباعه اعتناقه والالتزام الكامل به، وكان يستند إلى تيار الثقافة الحديثة الذي أنجز من النتائج المبهرة ما جعله قادرا على الزعم بأنه وحده الحَكَم في حقيقة الأشياء. لكن هكسلي جهل أو تناسى في غمرة حماسه بأنه قد ضيق تعريف الحقيقة فأصبح يقتصر على ما تثبت صحته عن طريق العقل، وهو تعريف من شأنه، حتى لو نحينا الدين جانبا، استبعاد حقيقة الفن والموسيقى وحتى استبعاد الأخلاق المحافظة التي تربت لدى المجتمعات عبر ملايين السنين كالحفاظ على الأسرة وبر الوالدين والصدق والكرم وإغاثة الملهوف، فالعقل وحده لا يبرر كثيرا من مثل هذه النشاطات الإنسانية الإيجابية الفعالة.
لقد تناول العلماء والفلاسفة المحدثين الحقائق الدينية بمناهج البحث العلمي والتدقيق الصارم، مستبعدين الرموز والكنايات والاستعارات والتشابيه والقصص والأمثلة التي لابد منها لتقريبها من فهم العامة، فليس الناس جميعهم علماء و فلاسفة، ولا عجب أن يعلن (فريدريك نيتشه 1844-1900) أن الإله قد مات وهو يقص في كتابه (العلم المَرِح) قصة رجل مجنون يجري في السوق ذات صباح وهو يصيح ... لقد قتلناه، أنتم وانا قتلنا الإله، نحن جميعنا قتلة، و كان الذي يرمي إليه نيتشه هو أن الإحساس بالقداسة يذوي ويموت إذا فقد منطق الروح وأضحى بدون عقائد وطقوس وصلوات، أي أن أصحاب الحداثة حين حولوا الإله إلى حقيقة فكرية و عقلية خالصة وبذلوا جهدهم للتوصل إليه عن طريق العقل وحده، فإنهم قتلوا الإحساس به في أنفسهم. يقول مجنون نيتشه: إن موت الإله قد اقتلع الإنسانية من جذورها، وتسبب في انحراف الأرض عن مسارها، و جعلها تضرب على غير هدى في كون تسوده الفوضى فكل ما كان يحفظ للكون توازنه وللإنسانية هدفها قد اختفى، وكان يتساءل: أما زال هناك أعلى واسفل؟ ألسنا ضالين في شعاب التيه فلا نكاد نلتمس لنا طريقا إلى النجاة، وهكذا أصبح الرعب والإحساس بانعدام المعنى والفناء جزءا من تجربة الحداثة.
لم يقتصر تأثير الحداثة هذا على المسيحيين في الغرب بل امتد إلى اليهود والمسلمين في البلاد التي كانت آخذة بخطوات الحداثة وواجهوا الحيرة نفسها.
وهكذا تدحرج الغرب في طريق وعر ساحبا معه الشرق إلى حداثة عوراء عرجاء، بلغت ذرى التقدم المادي عبر التاريخ، وفقدت في الوقت نفسه الروح والأخلاق والضمير، بدليل الحروب الجائرة ومذابح التطهير العرقي والديني، واستعلاء الشعوب الغنية على الفقيرة، وهجرة الشعوب من أوطان الجوع والقهر والحرمان في الجنوب، إلى بلدان البطالة والتمييز العنصري في الشمال. الأمر الذي كان غريبا على الحضارة العربية الإسلامية التي سادت العالم في يوم من الأيام تحمل شعار الرحمة للعالمين، وأن الناس سواسية كأسنان المشط، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.