بحث في وحدة الأديان - 1
07-11-2024, 02:00 PM
"توقفنا بين خرائب القصر القديم قرب عمود مربع من الجص المصقول على قمته نقشت الفأس ذات الحدين وهي العلامة المقدسة لإحدى الحضارات القديمة: ضم الأب كفيه وحنى ركبتيه لحظة ثم حرك شفتيه وكأنه يصلي، استغربت وسألته: ماذا، أتصلي؟ فقال: طبعا يا صديقي الشاب كل شعب وكل عصر يمنحه الله قِناعاً خاصاً به، ولكن وراء الأقنعة كلها في كل عصر وفي كل عرق يبقى الله هو ذاته، الله الدائم الذي لا يتغير. لدينا الصليب شارة مقدسة لنا، واجدادك الأقدمون في كريت كان لهم الفأس ذات الحدين، لكنني استبعد هذه الرموز الفانية واتحسس الله وراء الصليب ووراء الفأس ذات الحدين، أتحسسه وانحني له احتراما".[1]
كتب غاندي: "إذا جاءني مسيحي وقال لي بأنه تحمس عند قراءة (البهاغافاد غيتا) [2] وانه يريد أن يعتنق الهندوسية أجبت: إن التوراة تستطيع أن تمدك تماما بما يمدك به (البهاغافاد غيتا) ولكنك لم تحاول أن تكتشف ذلك حقا، قم بهذا الجهد وكن مسيحيا حقا"
وفي القرآن الكريم: (42: 13-14)
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب* ومَا تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب.
إن الاعتقاد بوجود إله واحد خلق الإنسان ليكون خليفته على الأرض يقتضي أن يمد الله هذا الإنسان بالتعاليم والإرشادات، أو بالدين الذي يؤهله ليكون جديرًا بهذه الخلافة وليتحمل مسؤولية هذه الأمانة المقدسة. من البديهي أن يكون هذا الدين موحدًا في مفاهيمه ورسالته العامة عبر العصور.
قد تختلف الأديان في الأحكام والشرائع بين عصر وآخر أو بيئة وأخرى بما يتناسب مع ظروف تلك البيئة أو العصر، لكن لا يمكن أن يقع الخلاف في الرسالة العامة التي تدور حول محور واحد: الإنسان وعلاقته بأصل وجوده، أو بالله، من جهة، وعلاقته بالكون والمجتمع من حوله من جهة أخرى. بذلك، يصبح الإنسان وسيطًا بين عالمي الغيب والشهادة.
هل هناك ما يشير إلى وجود أصل واحد لجميع الأديان التي نعرفها اليوم، وأن هذا الأصل جاء من قبل ذات علية مقدسة، خبيرة بالكون وتفاصيل الخلق؟
في السطور التالية، سنستعرض تقاطعات وتشابهات ملفتة للنظر بين الأديان المعروفة. إن دلت هذه التقاطعات على شيء، فإنما تدل على أن الأديان كما نعرفها اليوم تستمد جذورها من أصل واحد، وأن التباين بينها ما هو إلا نتيجة تدخل البشر في الخطاب الديني وربما تحريفه أحيانا لينسجم مع الأهواء السياسية والنفعية إرضاء للفراعنة بمختلف أشكالهم والسلاطين.
لقد استعملت الأديان جميعا القصة والرمز للتعريف بالعالم الموضوعي، وقصة الخلق، وكيف يدور الصراع بين قوى الخير والشر في حراك جدلي مستمر وسعي نحو الكمال المطلق.
ليس المقصود بالقصص والمرويات الدينية حرفيتها بقدر مضمونها وعبرتها، وان كنا نلمس تشابها كبيرا بين المرويات الدينية والاكتشافات العلمية الحديثة، فجميع الأديان ترى مثلا أن الماء هو أصل الحياة، وهذا ما يراه العلم في القرن الحادي والعشرين أيضا إذ ما فتئت مركبات الفضاء والمراصد والمسابر تبحث عن الماء على الكواكب البعيدة لتستدل من خلاله، على وجود الحياة.
وقد جاء في القرآن الكريم:
"وَهُو الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا"-هود-7. و: "أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون" الأنبياء - 30
وفي التوراة - سفر التكوين:
"في البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه"- تكوين 1
وفي إحدى الأحافير البابلية:
"في تلك الأيام لم يكن سوى المياه"
نجد أن جميع ما وصلنا عن بداية الخلق يتفق على أن البداية كانت حالة يسود فيها الغمر المائي ويرفرف فوقها عرش الله أو روحه أو قدرته، ثم وفي لحظة بدأت الحياة بأمر من الله بالتشكل لتظهر من العماء إلى الوجود.
بعد أن أخذ الكون شكله واستقرت الأرض في موضعها وانتظمت دورة الليل والنهار وحركة الفصول، وبعد أن أخرجت الأرض زرعها وشجرها وتفجرت ينابيعها وظهرت الحيوانات بأنواعها وامتلأت البحار بأسماكها، بعد ذلك صار المسرح مهيئا لظهور الإنسان.
وقد خطت الحكاية السومرية فكرة خلق الإنسان من طين وتصويره في أحسن تقويم ليكون خليفة الآلهة على الأرض. [3]
تظهر عناصر القصة السومرية هذه لدى الشعوب اللاحقة أيضاً، ففي قصص البابليين يتم خلق الإنسان من طين. وفي سفر التكوين العبراني، يقوم الإله يهوه بخلق الإنسان من طين بعد انتهائه من خلق العالم ويجعله على شاكلته:
"وجبل الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة الحياة، فصار آدم نفسا حية"[4] ،
ثم نجد الفكرة نفسها تتكرر في مصر الفرعونية ولدى الإغريق.
لا يقتصر تكرار فكرة خلق الإنسان من طين على شعوب الشرق الأوسط بل نجدها في حكايات الشعوب البدائية، تقول إحدى قصص الخلق الإفريقية:[5]
"إن الإله الخالق قد أخذ حفنة من طين شكلها على هيئة إنسان، ثم تركها في بركة مليئة بماء البحر مدة سبعة أيام، وفي اليوم الثامن رفعها فكانت بشرا سويا"
وفي أسطورة من الفيليبين[6] يقوم الإله الخالق بجبل حفنة من الطين على هيئة إنسان ويضعها في الفرن، ولكنه يسهو عنها فتسوَد، وهذا أصل الإنسان الأسود، ثم يصنع أخرى ويخرجها قبل أوانها، فهذا هو أصل الإنسان الأبيض، وفي المرة الثالثة يأخذ الطين كفايته من النار، فيخرج الإنسان الفيليبيني ذو اللون البرونزي. وحتى في قصة الخلق الهندية في القارة الأميركية التي تقبع في العالم القديم وراء البحار نجد أيضا التكوين الطيني ونفخة الحياة التي تهب الشكل الجامد روحه وحركته.
الملفت للنظر حقا أن العلم الحديث يثبت تكوين جسم الإنسان من ماء بنسبة غالبة و كمية من معادن أو تراب الأرض (أي الطين)، فقد أثبت العلماء أنّ الماء يشكّل ما بين 65-90% من وزن جسم الإنسان، ويحوي جسم الإنسان أيضاً على نسب عالية من عناصر أخرى وهي الكربون الذي تتكوّن منه جميع المواد العضويّة، والنّيتروجين، والكالسيوم، والفسفور، ويمكننا تخيّل وفرة العناصر السّابقة في جسم الإنسان إذا علمنا أنّها تشكّل 99% من كتلة جسم الإنسان، أما الـ 1% الباقيّة فهي تتكوّن من العناصر التي توجد بنسب قليلة في قشرة الأرض، ومنها البوتاسيوم، والصّوديوم، والكلور، والمغنيسيوم، والكبريت، والحديد[7].
كذلك تتفق جميع الأديان قديمها وحديثها على أن السلالة البشرية بدأت من ذكر وانثى نفخت فيهما الذات العلية (أو الله) الروح التي تحمل في مضمونها معاني العلم والمسؤولية والإرادة المستقلة التي تميز السلالة البشرية عن بقية الأحياء؛ فقد عُثر على نص محفور على لوح شبه تالف في أنقاض مكتبة آشور بانيبال في نينوى[8]، وأثارت السطور القليلة المتبقية من النص اهتماما كبيرا لإشارتها إلى خلق الزوجين البشريين الأولين، فقد ورد فيها ما يلي:
"قام (أيا) بخلق زوجين شابين وأعلى من شأنهما فوق جميع المخلوقات".
قبل اكتشاف التراث البابلي بأجيال طويلة عرف العالم شيئا عن حكاية الخلق البابلية من خلال نصين كُتبا باللغة اليونانية، الأول لآخر فلاسفة الأفلاطونية الحديثة وهو (داماسكيوس) وتعني الدمشقي، وقد ولد في دمشق حوالي عام 480 بعد الميلاد، وتحدث عن بعض الأساطير البابلية في كتابه الرئيسي: (صعوبات وحلول المبادئ الأولى)[9] ، والنص اليوناني الثاني هو نص بيروسوس وقد عاش خلال النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد وقام بكتابة تاريخ مملكة بابل استنادا إلى الوثائق التي وصلت إليه من العصور القديمة والتي تظهر تطابقا حرفيا أحيانا مع ما جاء في العهد القديم،[10]، كبداية الخلق من الماء، وحالة السكون الأزلية، التي كانت تسود العالم والصراع الكوني الذي انتهى بإحلال النظام الشامل و خلق السماوات والأرض والكواكب والنجوم ثم خلق الحيوانات وتتويج كل ذلك بخلق الإنسان من طين كزوجين أولين ذكر وانثى تفرع عنهما الجنس البشري بالكامل، وتذكرنا الجملة التالية من كتابات بيروسوس: "ولكن الأرض كانت خربة و خالية" بما ورد في سفر التكوين من العهد القديم: "و كانت الأرض خربة و خالية ..."[11]
سكن الكنعانيون سورية الشرقية والشريط الساحلي منذ مطلع التاريخ المكتوب واشادوا مراكز حضارية حتى الفترات المتأخرة من ما قبل التاريخ، و كان للثقافة الكنعانية أثرها على الثقافات السامية المجاورة و على الثقافة المصرية، بل لقد امتد أثرها إلى أساس الثقافة اليونانية اللاحقة، يظهر ذلك في الأساطير اليونانية التي تشير إلى التأثير الشرقي، كأسطورة قدموس، الإله الذي جاء من فينيقيا و علم اليونانيين الكتابة، وأسطورة خطف زيوس، كبير الآلهة في الأساطير اليونانية، الأميرة السورية (يوروبا)، التي أعطت اسمها للقارة الأوروبية الجديدة، وقد أطلق اليونان على الكنعانيين اسم الفينيقيين.[12]
لقد وصلتنا الألواح الفخارية التي تم العثور عليها في أنقاض معبد بعل بالثقافة الكنعانية دون وسيط، واثبتت بالدليل القاطع أن الكتابة المسمارية على تلك الألواح كتابة أبجدية وأنها أول أبجدية كتبها الإنسان وتشكل أساس اللغات السامية.
أما اليهود الساميون، فقد عاشوا في مصر عيشة العبيد، وفروا منها استجابة لدعوة موسى الذي تضاربت الآراء حوله، واكثر ما يلفت النظر من هذه الآراء أن موسى كان مصري الأصل وليس عبرانيا[13]، وأنه قائد عسكري من أتباع ديانة أتون وهي أول ديانة توحيدية معروفة تاريخيا، اتبعها الفرعون أخناتون، ولما هلك أخناتون، ودمّر كهنة الديانات الفرعونية الأخرى كل ما بناه، تفرق أتباعه وأهله، لكن موسى تابع رسالة التوحيد بعد ابتعاثه نبيا، واتبعه اليهود مَثَله في ذلك مثل الأنبياء التوحيديين الذين اتبعتهم الفئات المضطهدة فكانوا وقود الدعوة إلى العدل والمساواة التي تنادي بها الأديان جميعا.
لو تفحصنا ديانة أخناتون لوجدناها لا تختلف في جوهرها عن الديانات السماوية المتداولة بين أيدينا اليوم، فصلاة أخناتون ترسم صورة لمعتقد على درجة عالية من التجريد عندما تصف الله بأنه قوة غير مشخصة وطاقة صافية تأبى التشكل في ملامح محددة وشخصية مرسومة بل تتجلى في عالم الظواهر بقرص الشمس؛ إنها القدرة التي صدر عنها الكون بكل أجزائه وتفاصيله وأشكال الحياة المنبثة فيه، يقوم معتقد أخناتون على الإيمان بإله واحد للبشرية جمعاء. من هنا، فإن الشعوب والأمم تتساوى جميعا أمام آتون. تتميز الديانة الأخناتونية بغياب الإشارات الميتولوجية وجميع الأساطير التي تصاحب معظم الديانات القديمة الأخرى، يتضح ذلك من الصلوات الأخناتونية التي وصلتنا ومن قراءتنا لنصوص القبور التي تركها الأتباع المقربون لأخناتون.
تقوم العلاقة بين آتون ومخلوقاته على الحب المتبادل للخالق الذي أظهرها إلى الوجود ويسر لها رزقها. تقول الترتيلة مخاطبة الرب الأعلى:
"كل قلب يخفق لمرآك، لأنك ترتفع سيداً للجميع، كل أيدي البشر ترتفع لتسبح ظهورك". وهذا يسري على كل الشعوب في كل أقطار المعمورة:
"أنت آتون النهار مبجل في كل قطر بعيد".
وتشترك في محبة آتون كل أشكال الحياة على الأرض، وكل يسبح بحمده على طريقته الخاصة:
"كل مخلوق صنعته يثب إليك ..."
"كل الحيوانات تثب على قوائمها، وكل ذوات الريش تنهض من أعشاشها وتصفق أجنحتها بفرح، وتدور وتسبح بحمد آتون".
ويشترك في هذا الحب والتسبيح عالم النباتات أيضاً:
"النباتات تتفتح أزهارا، والنباتات في الأراضي القاحلة تطلع وريقاتها لمرآك".
وبذلك توحد الأتونية بين جميع أشكال الحياة على الأرض، وبين خالقها بالحب. الأمر الذي توّج فيما بعد بأبهى صورة في القرآن الكريم:
"تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" الإسراء 44
لم يُصوَّر الإله أتون بتاتا في هيئة مشخصة إنما اكتفى النحات بإظهار رمزه التشكيلي وهو عبارة عن قرص الشمس الملتهب وقد انبعثت أشعته في كل اتجاه، وكل شعاع ينتهي بكف توزع الخير والبركة. وفيما عدا ذلك فإن الرسوم والمنحوتات خلت من المشاهد الدينية ذات الخلفية الأسطورية، واقتصرت على تصوير المشاهد الدنيوية، وهي في ذلك تشبه الفن الإغريقي الذي تلاها لاحقا وجعل من الإنسان وجمال الطبيعة بؤرة اهتمامه. ولعل غياب الأسطورة في الديانة الأتونية أمر تستدعيه طبيعة معتقدها، فالوظيفة الدينية للأسطورة هي توضيح صورة الآلهة وعلاقاتها ببعضها وبالإنسان، أما إله أخناتون الذي ليس كمثله شيء فإنه لا يتطلب التشخيص والتمثيل والتشبيه.
نستطيع أن نلمح أوجه التشابه بوضوح بين الديانة الأتونية والديانات الإبراهيمية مثلا، في التقاطعات التالية:
أولاً: الديانتان الأتونية والإسلامية تعتقدان بإله واحد لجميع الأمم، يتجلى في السلم وفي جميع أشكال الحياة والنماء والازدهار.
ثانيا: تمنع الديانتان الأتونية والإسلامية أي نوع من أنواع التصوير أو النحت للإله الواحد، لذلك فقد حُطّمت كل التماثيل في عهد حكم أخناتون ومسحت عن جدران المعابد كل صور وأسماء الآلهة القديمة، وكانت الإشارة الوحيدة المسموح بها كرمز للإله هي أشعة الشمس التي ترمز للقدرة الإلهية، بالمقابل؛ نقرأ في التوراة مثلا: "لا تصنع لك تمثالا، صورة مما في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في الماء تحت الأرض"[14]. كما يرى بعض العلماء المسلمين أن الصور والنحت يمكن أن تُعتبر محرّمة لأنها قد تُشرك الخالق فيما يُصوّر، ويمكن أن تُعتبر مسموحة إذا كانت تُستخدم ولأغراض تعليمية أو فنية.
ثالثا: حاربت الأتونية السحر والسحرة، كذلك الأمر بالنسبة لبقية الديانات الإبراهيمية.
رابعا: لقد استمرت بعض الصلوات الأتونية حية في التوراة، من ذلك مثلا إحدى صلوات أخناتون في تسبيح الله التي نجد بعض نصوصها تكاد تكون حرفية مع ما جاء في المزمور 104 من سفر المزامير في التوراة:
صلاة أخناتون[15]:
- العالم في ظلام كأنه الموت، الأسود تخرج من عرينها والحيات من جحورها، والظلام يسود
- وعندما تشرق الشمس في الأفق يتلاشى
الظلام ويذهب كل إلى عمله
المزمور 104 [16]:
20- تجعل ظلمة فيصير ليل، فيه يدب كل حيوان الوعر
22- تشرق الشمس فتجتمع، وفي مآويها تربض
23- الإنسان يخرج إلى عمله، وإلى شغله إلى المساء
إن الانتقام والمحو الشامل الذي تعرضت له ديانة أخناتون بعد وفاته لم يترك لنا من آثارها سوى النذر اليسير، ومع ذلك نجد تطابقا حرفيا بين بعض نصوصها وبين نصوص تشكل أساس العقيدة في الديانات الإبراهيمية الأخرى، انظر كيف يصف أخناتون الله في صلاته بأنه نور العالم:
"أنت جميل وعظيم ومشرق الآن فوق جميع البلدان،
وأشعتك تملك كل البلاد حتى آخر ما خلقت."
وفي المزمور 104:
1 باركي يا نفسي الرب. يا رب إلهي، قد عظمت جدا. مجدا وجلالا لبست.
2 اللابس النور كثوب، الباسط السماوات كشقة
ثم انظر قول السيد المسيح على لسان الرب:
ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا قَائِلًا: "أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة". يوحنا12:8
وفي القرآن الكريم:
"اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَولمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ على نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" النور-35
وانظر إلى تكرار الإشارة إلى خلق الإنسان من تراب الأرض الذي سيعود إليه بعد وفاته، ففي التوراة:
" بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها. لأنك تراب، وإلى تراب تعود" [17]
وفي القرآن الكريم:
"منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرىٰ" 20:55
يرى واليس بودج في كتابه المعروف عن الديانة المصرية القديمة أنها ديانة توحيدية لا تختلف في ذلك عن الديانات السماوية الأخرى إذ يقول:
"حين يدرس القارئ نصوص الديانة المصرية تحصل لديه القناعة بأن المصريين كانوا قوماً يؤمنون بإله واحد، موجود بذاته، خالد، غير مرئي، أبدي، قدير، لا يحيط به عقل، خالق السماوات والأرض والعالم الأسفل، خالق الرجال والنساء والحيوان والطير والسمك والزواحف والشجر والزرع والكائنات الروحانية، كان رسله ينفذون مشيئته ويحققون كلمته ... وأننا مهما عدنا بالزمن إلى الوراء، فربما لن نقترب أبدا من زمان كان فيه المصري بدون هذا الإيمان الرائع".[18]
إن ما يصفه بودج هنا ليس في واقع الأمر إلها مشخصا، بل مجال قدسي وقوة كونية مطلقة، هذه الألوهية التي استمر الإيمان بها من العصر الحجري إلى نهاية التاريخ المصري، لم ترسم أو تنحت في هيئة شخصية أبدا، بل بقيت في القلوب قدرة كونية لا يحدها وصف أو قول، و كما يقول بودج فقد كان يرمز لهذه الألوهية بفأس ذي رأس حجري ومقبض خشبي، وتحيط بالرأس أربطة جلدية أو قماشية لتثبيتها على المقبض الخشبي لأن الحجر كان عرضةً للتشقق بالاستعمال الطويل، و عندما حل الرأس المعدني محل الرأس الحجري، غابت الأربطة الجلدية عن رأس الفأس الذي لم يعد بحاجة إلى تدعيم. يبدو أن اختيار الإنسان الحجري لرمز الفأس دلالة على الألوهية، هو للتوكيد على جانب القوة الكامنة فيه.
أما قصة طوفان نوح فنجد لها تكراراً في الأديان جميعها، قديمها وحديثها بطريقة تكاد تكون حرفية:
"وقلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين واهلك، إلا من سبق عليه القول، ومن آمن، وما آمن معه إلا قليل"
قرآن كريم: هود-7
"وقال الرب لنوح ادخل السفينة أنت وجميع أهلك، فإني إياك رأيت بارا أمامي في هذا الجيل"
العهد القديم: سفر التكوين، الإصحاح السابع-1
"قوض بيتك وابن سفينة، اهجر ممتلكاتك، وانج بنفسك، اترك متاعك وأنقذ حياتك، واحمل فيها بذرة كل ذي حياة"
من الأحافير البابلية.
أما قصة الطوفان نفسها فتتحدث بطريقة رمزية عن الكارثة التي يمكن أن تحل بالجنس البشري عندما ينسى الغاية التي خلق من أجلها في أن يعبد الله لا يشرك به أحداً، ويتحول بدلا من ذلك ليعيث في الأرض جورا و فسادا وتخريبا، عندئذٍ يذهب الله بالفاسدين ويأتي بآخرين صالحين يملؤون الأرض عدلا وازدهارا، وهذا ما حصل لقوم نوح الذين عاثوا في الأرض فسادا ولم يقبلوا بالنصح والإرشاد من نبي الله المختار نوح، وبعد أن يئس نوح من قومه أمره الله ببناء سفينة ضخمة يحمل فيها البشر الصالحين ومن الحيوانات ما يجعله قادرا على بدء حياة يرضى الله عنها من جديد، ثم أغرق الله الأرض وما عليها، لتبدأ الإنسانية عهدا جديدا مع الله بعد انحسار الطوفان.
تتكرر القصة مع اختلافات بسيطة كل مرة بين السومريين والبابليين والعبرانيين وتظهر في الأسطورة الإغريقية مع بعض التغيير في الظروف والأسماء، إذ تقول: أن كبير آلهة الأوليمب "زيوس" قرر تدمير الحياة على الأرض، فأرسل طوفانا عارما استمر تسعة أيام قضى على الناس جميعا إلا رجلا وامرأة هما "ديكليون" وزوجته "فرحه" الذين لجآ إلى سفينة استقرت بهما على قمة جبل البرناس، وقد رأى زيوس بعد ذلك أن يعيد الحياة إلى الأرض فأمر الزوجين أن يرميا حجارة صغيرة خلفهما لتتحول هذه الحجارة إلى مخلوقات حية.
ما يلفت النظر أن سردية الدمار الشامل الذي ألم بالأرض تتكرر في ثقافات كثير من الشعوب بالرغم من التباعد الجغرافي بينها؛ فتحليل المعلومات التي تم جمعها عن حياة المجتمعات الأسترالية ومعتقداتها وطقوسها الدينية منذ أواسط القرن التاسع عشر، يشير إلى أن ما يقدسه السكان الأصليون بالدرجة الأولى هو قوة كونية شاملة غير مشخصة خالدة وقد عمد الأسترالي إلى تجسيد هذه القوة من خلال موضوع مرئي مأخوذ من عالم النبات أو الحيوان، أو ما يسمى بالطوطم. أما المجتمعات الطوطمية التي نواجهها في أميركا الشمالية فقد سارت بمفهوم المبدأ الطوطمي نحو شكل أكثر شمولية ونقاء، فبالرغم من وجود عدد من الكائنات العلوية التي تتركز حولها الطقوس الدينية لهذه المجتمعات إلا أنه هناك قوة شمولية فوق هذه الكائنات تستمد منها وجودها وفعاليتها وتسمى (واكان- (Wakan، وهي السر المحرك للكون بكل ما فيه وهي سبب حفظه واستمراره. ونجد الاعتقاد نفسه لدى جماعات الهنود الحمر الأخرى مع اختلاف التسميات.
لا يقتصر هذا الشكل من المعتقد الديني الأولي على المجتمعات الطوطمية بل يتجاوزها إلى معظم المجتمعات البدائية التي عاشت على هامش تطور الحضارة العالمية، فنواجه مفهوم القوة الكونية الشاملة في أساس معتقدات ثقافات جزر المحيط الهادي الجنوبية الغربية (البولينيزية منها والميلانيزية). يقول الفيلسوف والأنثروبولوجي البريطاني ماريت R. Marett في كتابه عتبة الدين The threshold of religion الصادر في لندن عام 1909:
"إن الميلانيزي يحس بحضور عالم فوق الطبيعة يتجلى كشيء خارق وغير مفهوم، يستثير الإحساس، ويجد الإنسان نفسه معه في علاقة غير اختيارية لا يمكن دفعها. وهو يميز بين حالتين للمواجهة مع هذا العالم؛ حال إيجابي وحال سلبي، فيدعو الأول بالمانا وهو الإحساس بفعالية ذلك العالم واثاره في الإنسان ومظاهر الطبيعة، ويدعو الثاني بالتابو، وهو الإحساس بالجوانب الخطرة لتلك الفعالية واحتمالات الأذى الكامن فيها وضرورة مراقبتها بحذر"[19].
فإذا انتقلنا من جزر المحيط الهادي إلى أفريقيا السوداء، وجدنا أن الديانات الأفريقية وبالرغم من احتكاكها المبكر بديانات الحضارات الكبرى منذ عهد الفراعنة وتلقيها لمؤثرات غريبة كثيرة فقد حافظت على الملامح الأساسية للمعتقد الديني الأولي الذي يتميز بالقداسة والقدرة المطلقة.
يقول أحد حكماء قبائل الهنود الحمر في (داكوتا) في معرض شرحه لمعتقدهم حول القدرة الكونية المطلقة أو ما يسمونه (واكان):
"إن كل متحرك لا بد له من التوقف هنا أوهناك؛ فالطائر يتوقف ليصنع له عشاً، والإنسان يتوقف أينما أراد، وكذلك الواكان كان له توقفات؛ فالشمس البهية المضيئة نجمت عن مكان توقف عنده الواكان، وكذلك الأشياء الأخرى من حيوانات واشجار وما إليها، كلها نجمت عن مكان توقف عنده الواكان، وإن الهندي عندما يرسل صلاته يفكر في هذه الأمكنة التي توقف عندها الواكان ليحصل على العون والبركة"[20]
لو استبدلنا كلمة الله بكلمة الواكان بلغة الهنود الحمر وكل من الكلمات التالية: الشمس والقمر والشجر التي يذكرها الحكيم في وصفه لصلاة الهندي بكلمة آيات الله في خلقه لوجدنا تطابقا كبيراً بين ما جاءت به الديانات الحديثة مع ديانات الإنسان الأول.
تبين هذه الأمثلة التي تنتمي لأربع قارات أوجه التقارب والتشابه بين المعتقد الحديث في الألوهية ومعتقد العصر الحجري. لقد اعتقد الباحثون طويلا أن الإنسان القديم كان محكوما بحواسه وبنوا على هذا أن تصور الإنسان لله قد بدء مع ابتكار آلهة مشخصة، لكن يتضح مما سبق أن معرفة الله كانت تدور حول مفاهيم عالية التجريد وشديدة الاتصال بالواقع في الوقت نفسه، الأمر الذي يشير إلى جذر واحد استقت منه هذه الديانات جميعا مفهوم الألوهية والتوحيد، ثم اندثر بفعل القدم وضياع الأحافير واللقى التي قد تشير إليه. وما الاختلافات التي باعدت بين الأديان التي ظهرت لاحقاً إلا اختلافات ظرفية تتعلق بالبيئة والعصر الذي مورست فيه هذه الديانات، أو خلافات ناشئة عن البغي المتمثل في تسييس الدين واتخاذه وسيلة للوصول إلى الجاه والسلطة واستعباد الناس بادعاء حق المُلك الإلهي المقدس.
كتب غاندي: "إذا جاءني مسيحي وقال لي بأنه تحمس عند قراءة (البهاغافاد غيتا) [2] وانه يريد أن يعتنق الهندوسية أجبت: إن التوراة تستطيع أن تمدك تماما بما يمدك به (البهاغافاد غيتا) ولكنك لم تحاول أن تكتشف ذلك حقا، قم بهذا الجهد وكن مسيحيا حقا"
وفي القرآن الكريم: (42: 13-14)
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب* ومَا تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب.
إن الاعتقاد بوجود إله واحد خلق الإنسان ليكون خليفته على الأرض يقتضي أن يمد الله هذا الإنسان بالتعاليم والإرشادات، أو بالدين الذي يؤهله ليكون جديرًا بهذه الخلافة وليتحمل مسؤولية هذه الأمانة المقدسة. من البديهي أن يكون هذا الدين موحدًا في مفاهيمه ورسالته العامة عبر العصور.
قد تختلف الأديان في الأحكام والشرائع بين عصر وآخر أو بيئة وأخرى بما يتناسب مع ظروف تلك البيئة أو العصر، لكن لا يمكن أن يقع الخلاف في الرسالة العامة التي تدور حول محور واحد: الإنسان وعلاقته بأصل وجوده، أو بالله، من جهة، وعلاقته بالكون والمجتمع من حوله من جهة أخرى. بذلك، يصبح الإنسان وسيطًا بين عالمي الغيب والشهادة.
هل هناك ما يشير إلى وجود أصل واحد لجميع الأديان التي نعرفها اليوم، وأن هذا الأصل جاء من قبل ذات علية مقدسة، خبيرة بالكون وتفاصيل الخلق؟
في السطور التالية، سنستعرض تقاطعات وتشابهات ملفتة للنظر بين الأديان المعروفة. إن دلت هذه التقاطعات على شيء، فإنما تدل على أن الأديان كما نعرفها اليوم تستمد جذورها من أصل واحد، وأن التباين بينها ما هو إلا نتيجة تدخل البشر في الخطاب الديني وربما تحريفه أحيانا لينسجم مع الأهواء السياسية والنفعية إرضاء للفراعنة بمختلف أشكالهم والسلاطين.
لقد استعملت الأديان جميعا القصة والرمز للتعريف بالعالم الموضوعي، وقصة الخلق، وكيف يدور الصراع بين قوى الخير والشر في حراك جدلي مستمر وسعي نحو الكمال المطلق.
ليس المقصود بالقصص والمرويات الدينية حرفيتها بقدر مضمونها وعبرتها، وان كنا نلمس تشابها كبيرا بين المرويات الدينية والاكتشافات العلمية الحديثة، فجميع الأديان ترى مثلا أن الماء هو أصل الحياة، وهذا ما يراه العلم في القرن الحادي والعشرين أيضا إذ ما فتئت مركبات الفضاء والمراصد والمسابر تبحث عن الماء على الكواكب البعيدة لتستدل من خلاله، على وجود الحياة.
وقد جاء في القرآن الكريم:
"وَهُو الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا"-هود-7. و: "أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون" الأنبياء - 30
وفي التوراة - سفر التكوين:
"في البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه"- تكوين 1
وفي إحدى الأحافير البابلية:
"في تلك الأيام لم يكن سوى المياه"
نجد أن جميع ما وصلنا عن بداية الخلق يتفق على أن البداية كانت حالة يسود فيها الغمر المائي ويرفرف فوقها عرش الله أو روحه أو قدرته، ثم وفي لحظة بدأت الحياة بأمر من الله بالتشكل لتظهر من العماء إلى الوجود.
بعد أن أخذ الكون شكله واستقرت الأرض في موضعها وانتظمت دورة الليل والنهار وحركة الفصول، وبعد أن أخرجت الأرض زرعها وشجرها وتفجرت ينابيعها وظهرت الحيوانات بأنواعها وامتلأت البحار بأسماكها، بعد ذلك صار المسرح مهيئا لظهور الإنسان.
وقد خطت الحكاية السومرية فكرة خلق الإنسان من طين وتصويره في أحسن تقويم ليكون خليفة الآلهة على الأرض. [3]
تظهر عناصر القصة السومرية هذه لدى الشعوب اللاحقة أيضاً، ففي قصص البابليين يتم خلق الإنسان من طين. وفي سفر التكوين العبراني، يقوم الإله يهوه بخلق الإنسان من طين بعد انتهائه من خلق العالم ويجعله على شاكلته:
"وجبل الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة الحياة، فصار آدم نفسا حية"[4] ،
ثم نجد الفكرة نفسها تتكرر في مصر الفرعونية ولدى الإغريق.
لا يقتصر تكرار فكرة خلق الإنسان من طين على شعوب الشرق الأوسط بل نجدها في حكايات الشعوب البدائية، تقول إحدى قصص الخلق الإفريقية:[5]
"إن الإله الخالق قد أخذ حفنة من طين شكلها على هيئة إنسان، ثم تركها في بركة مليئة بماء البحر مدة سبعة أيام، وفي اليوم الثامن رفعها فكانت بشرا سويا"
وفي أسطورة من الفيليبين[6] يقوم الإله الخالق بجبل حفنة من الطين على هيئة إنسان ويضعها في الفرن، ولكنه يسهو عنها فتسوَد، وهذا أصل الإنسان الأسود، ثم يصنع أخرى ويخرجها قبل أوانها، فهذا هو أصل الإنسان الأبيض، وفي المرة الثالثة يأخذ الطين كفايته من النار، فيخرج الإنسان الفيليبيني ذو اللون البرونزي. وحتى في قصة الخلق الهندية في القارة الأميركية التي تقبع في العالم القديم وراء البحار نجد أيضا التكوين الطيني ونفخة الحياة التي تهب الشكل الجامد روحه وحركته.
الملفت للنظر حقا أن العلم الحديث يثبت تكوين جسم الإنسان من ماء بنسبة غالبة و كمية من معادن أو تراب الأرض (أي الطين)، فقد أثبت العلماء أنّ الماء يشكّل ما بين 65-90% من وزن جسم الإنسان، ويحوي جسم الإنسان أيضاً على نسب عالية من عناصر أخرى وهي الكربون الذي تتكوّن منه جميع المواد العضويّة، والنّيتروجين، والكالسيوم، والفسفور، ويمكننا تخيّل وفرة العناصر السّابقة في جسم الإنسان إذا علمنا أنّها تشكّل 99% من كتلة جسم الإنسان، أما الـ 1% الباقيّة فهي تتكوّن من العناصر التي توجد بنسب قليلة في قشرة الأرض، ومنها البوتاسيوم، والصّوديوم، والكلور، والمغنيسيوم، والكبريت، والحديد[7].
كذلك تتفق جميع الأديان قديمها وحديثها على أن السلالة البشرية بدأت من ذكر وانثى نفخت فيهما الذات العلية (أو الله) الروح التي تحمل في مضمونها معاني العلم والمسؤولية والإرادة المستقلة التي تميز السلالة البشرية عن بقية الأحياء؛ فقد عُثر على نص محفور على لوح شبه تالف في أنقاض مكتبة آشور بانيبال في نينوى[8]، وأثارت السطور القليلة المتبقية من النص اهتماما كبيرا لإشارتها إلى خلق الزوجين البشريين الأولين، فقد ورد فيها ما يلي:
"قام (أيا) بخلق زوجين شابين وأعلى من شأنهما فوق جميع المخلوقات".
قبل اكتشاف التراث البابلي بأجيال طويلة عرف العالم شيئا عن حكاية الخلق البابلية من خلال نصين كُتبا باللغة اليونانية، الأول لآخر فلاسفة الأفلاطونية الحديثة وهو (داماسكيوس) وتعني الدمشقي، وقد ولد في دمشق حوالي عام 480 بعد الميلاد، وتحدث عن بعض الأساطير البابلية في كتابه الرئيسي: (صعوبات وحلول المبادئ الأولى)[9] ، والنص اليوناني الثاني هو نص بيروسوس وقد عاش خلال النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد وقام بكتابة تاريخ مملكة بابل استنادا إلى الوثائق التي وصلت إليه من العصور القديمة والتي تظهر تطابقا حرفيا أحيانا مع ما جاء في العهد القديم،[10]، كبداية الخلق من الماء، وحالة السكون الأزلية، التي كانت تسود العالم والصراع الكوني الذي انتهى بإحلال النظام الشامل و خلق السماوات والأرض والكواكب والنجوم ثم خلق الحيوانات وتتويج كل ذلك بخلق الإنسان من طين كزوجين أولين ذكر وانثى تفرع عنهما الجنس البشري بالكامل، وتذكرنا الجملة التالية من كتابات بيروسوس: "ولكن الأرض كانت خربة و خالية" بما ورد في سفر التكوين من العهد القديم: "و كانت الأرض خربة و خالية ..."[11]
سكن الكنعانيون سورية الشرقية والشريط الساحلي منذ مطلع التاريخ المكتوب واشادوا مراكز حضارية حتى الفترات المتأخرة من ما قبل التاريخ، و كان للثقافة الكنعانية أثرها على الثقافات السامية المجاورة و على الثقافة المصرية، بل لقد امتد أثرها إلى أساس الثقافة اليونانية اللاحقة، يظهر ذلك في الأساطير اليونانية التي تشير إلى التأثير الشرقي، كأسطورة قدموس، الإله الذي جاء من فينيقيا و علم اليونانيين الكتابة، وأسطورة خطف زيوس، كبير الآلهة في الأساطير اليونانية، الأميرة السورية (يوروبا)، التي أعطت اسمها للقارة الأوروبية الجديدة، وقد أطلق اليونان على الكنعانيين اسم الفينيقيين.[12]
لقد وصلتنا الألواح الفخارية التي تم العثور عليها في أنقاض معبد بعل بالثقافة الكنعانية دون وسيط، واثبتت بالدليل القاطع أن الكتابة المسمارية على تلك الألواح كتابة أبجدية وأنها أول أبجدية كتبها الإنسان وتشكل أساس اللغات السامية.
أما اليهود الساميون، فقد عاشوا في مصر عيشة العبيد، وفروا منها استجابة لدعوة موسى الذي تضاربت الآراء حوله، واكثر ما يلفت النظر من هذه الآراء أن موسى كان مصري الأصل وليس عبرانيا[13]، وأنه قائد عسكري من أتباع ديانة أتون وهي أول ديانة توحيدية معروفة تاريخيا، اتبعها الفرعون أخناتون، ولما هلك أخناتون، ودمّر كهنة الديانات الفرعونية الأخرى كل ما بناه، تفرق أتباعه وأهله، لكن موسى تابع رسالة التوحيد بعد ابتعاثه نبيا، واتبعه اليهود مَثَله في ذلك مثل الأنبياء التوحيديين الذين اتبعتهم الفئات المضطهدة فكانوا وقود الدعوة إلى العدل والمساواة التي تنادي بها الأديان جميعا.
لو تفحصنا ديانة أخناتون لوجدناها لا تختلف في جوهرها عن الديانات السماوية المتداولة بين أيدينا اليوم، فصلاة أخناتون ترسم صورة لمعتقد على درجة عالية من التجريد عندما تصف الله بأنه قوة غير مشخصة وطاقة صافية تأبى التشكل في ملامح محددة وشخصية مرسومة بل تتجلى في عالم الظواهر بقرص الشمس؛ إنها القدرة التي صدر عنها الكون بكل أجزائه وتفاصيله وأشكال الحياة المنبثة فيه، يقوم معتقد أخناتون على الإيمان بإله واحد للبشرية جمعاء. من هنا، فإن الشعوب والأمم تتساوى جميعا أمام آتون. تتميز الديانة الأخناتونية بغياب الإشارات الميتولوجية وجميع الأساطير التي تصاحب معظم الديانات القديمة الأخرى، يتضح ذلك من الصلوات الأخناتونية التي وصلتنا ومن قراءتنا لنصوص القبور التي تركها الأتباع المقربون لأخناتون.
تقوم العلاقة بين آتون ومخلوقاته على الحب المتبادل للخالق الذي أظهرها إلى الوجود ويسر لها رزقها. تقول الترتيلة مخاطبة الرب الأعلى:
"كل قلب يخفق لمرآك، لأنك ترتفع سيداً للجميع، كل أيدي البشر ترتفع لتسبح ظهورك". وهذا يسري على كل الشعوب في كل أقطار المعمورة:
"أنت آتون النهار مبجل في كل قطر بعيد".
وتشترك في محبة آتون كل أشكال الحياة على الأرض، وكل يسبح بحمده على طريقته الخاصة:
"كل مخلوق صنعته يثب إليك ..."
"كل الحيوانات تثب على قوائمها، وكل ذوات الريش تنهض من أعشاشها وتصفق أجنحتها بفرح، وتدور وتسبح بحمد آتون".
ويشترك في هذا الحب والتسبيح عالم النباتات أيضاً:
"النباتات تتفتح أزهارا، والنباتات في الأراضي القاحلة تطلع وريقاتها لمرآك".
وبذلك توحد الأتونية بين جميع أشكال الحياة على الأرض، وبين خالقها بالحب. الأمر الذي توّج فيما بعد بأبهى صورة في القرآن الكريم:
"تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" الإسراء 44
لم يُصوَّر الإله أتون بتاتا في هيئة مشخصة إنما اكتفى النحات بإظهار رمزه التشكيلي وهو عبارة عن قرص الشمس الملتهب وقد انبعثت أشعته في كل اتجاه، وكل شعاع ينتهي بكف توزع الخير والبركة. وفيما عدا ذلك فإن الرسوم والمنحوتات خلت من المشاهد الدينية ذات الخلفية الأسطورية، واقتصرت على تصوير المشاهد الدنيوية، وهي في ذلك تشبه الفن الإغريقي الذي تلاها لاحقا وجعل من الإنسان وجمال الطبيعة بؤرة اهتمامه. ولعل غياب الأسطورة في الديانة الأتونية أمر تستدعيه طبيعة معتقدها، فالوظيفة الدينية للأسطورة هي توضيح صورة الآلهة وعلاقاتها ببعضها وبالإنسان، أما إله أخناتون الذي ليس كمثله شيء فإنه لا يتطلب التشخيص والتمثيل والتشبيه.
نستطيع أن نلمح أوجه التشابه بوضوح بين الديانة الأتونية والديانات الإبراهيمية مثلا، في التقاطعات التالية:
أولاً: الديانتان الأتونية والإسلامية تعتقدان بإله واحد لجميع الأمم، يتجلى في السلم وفي جميع أشكال الحياة والنماء والازدهار.
ثانيا: تمنع الديانتان الأتونية والإسلامية أي نوع من أنواع التصوير أو النحت للإله الواحد، لذلك فقد حُطّمت كل التماثيل في عهد حكم أخناتون ومسحت عن جدران المعابد كل صور وأسماء الآلهة القديمة، وكانت الإشارة الوحيدة المسموح بها كرمز للإله هي أشعة الشمس التي ترمز للقدرة الإلهية، بالمقابل؛ نقرأ في التوراة مثلا: "لا تصنع لك تمثالا، صورة مما في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في الماء تحت الأرض"[14]. كما يرى بعض العلماء المسلمين أن الصور والنحت يمكن أن تُعتبر محرّمة لأنها قد تُشرك الخالق فيما يُصوّر، ويمكن أن تُعتبر مسموحة إذا كانت تُستخدم ولأغراض تعليمية أو فنية.
ثالثا: حاربت الأتونية السحر والسحرة، كذلك الأمر بالنسبة لبقية الديانات الإبراهيمية.
رابعا: لقد استمرت بعض الصلوات الأتونية حية في التوراة، من ذلك مثلا إحدى صلوات أخناتون في تسبيح الله التي نجد بعض نصوصها تكاد تكون حرفية مع ما جاء في المزمور 104 من سفر المزامير في التوراة:
صلاة أخناتون[15]:
- العالم في ظلام كأنه الموت، الأسود تخرج من عرينها والحيات من جحورها، والظلام يسود
- وعندما تشرق الشمس في الأفق يتلاشى
الظلام ويذهب كل إلى عمله
المزمور 104 [16]:
20- تجعل ظلمة فيصير ليل، فيه يدب كل حيوان الوعر
22- تشرق الشمس فتجتمع، وفي مآويها تربض
23- الإنسان يخرج إلى عمله، وإلى شغله إلى المساء
إن الانتقام والمحو الشامل الذي تعرضت له ديانة أخناتون بعد وفاته لم يترك لنا من آثارها سوى النذر اليسير، ومع ذلك نجد تطابقا حرفيا بين بعض نصوصها وبين نصوص تشكل أساس العقيدة في الديانات الإبراهيمية الأخرى، انظر كيف يصف أخناتون الله في صلاته بأنه نور العالم:
"أنت جميل وعظيم ومشرق الآن فوق جميع البلدان،
وأشعتك تملك كل البلاد حتى آخر ما خلقت."
وفي المزمور 104:
1 باركي يا نفسي الرب. يا رب إلهي، قد عظمت جدا. مجدا وجلالا لبست.
2 اللابس النور كثوب، الباسط السماوات كشقة
ثم انظر قول السيد المسيح على لسان الرب:
ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا قَائِلًا: "أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة". يوحنا12:8
وفي القرآن الكريم:
"اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَولمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ على نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" النور-35
وانظر إلى تكرار الإشارة إلى خلق الإنسان من تراب الأرض الذي سيعود إليه بعد وفاته، ففي التوراة:
" بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها. لأنك تراب، وإلى تراب تعود" [17]
وفي القرآن الكريم:
"منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرىٰ" 20:55
يرى واليس بودج في كتابه المعروف عن الديانة المصرية القديمة أنها ديانة توحيدية لا تختلف في ذلك عن الديانات السماوية الأخرى إذ يقول:
"حين يدرس القارئ نصوص الديانة المصرية تحصل لديه القناعة بأن المصريين كانوا قوماً يؤمنون بإله واحد، موجود بذاته، خالد، غير مرئي، أبدي، قدير، لا يحيط به عقل، خالق السماوات والأرض والعالم الأسفل، خالق الرجال والنساء والحيوان والطير والسمك والزواحف والشجر والزرع والكائنات الروحانية، كان رسله ينفذون مشيئته ويحققون كلمته ... وأننا مهما عدنا بالزمن إلى الوراء، فربما لن نقترب أبدا من زمان كان فيه المصري بدون هذا الإيمان الرائع".[18]
إن ما يصفه بودج هنا ليس في واقع الأمر إلها مشخصا، بل مجال قدسي وقوة كونية مطلقة، هذه الألوهية التي استمر الإيمان بها من العصر الحجري إلى نهاية التاريخ المصري، لم ترسم أو تنحت في هيئة شخصية أبدا، بل بقيت في القلوب قدرة كونية لا يحدها وصف أو قول، و كما يقول بودج فقد كان يرمز لهذه الألوهية بفأس ذي رأس حجري ومقبض خشبي، وتحيط بالرأس أربطة جلدية أو قماشية لتثبيتها على المقبض الخشبي لأن الحجر كان عرضةً للتشقق بالاستعمال الطويل، و عندما حل الرأس المعدني محل الرأس الحجري، غابت الأربطة الجلدية عن رأس الفأس الذي لم يعد بحاجة إلى تدعيم. يبدو أن اختيار الإنسان الحجري لرمز الفأس دلالة على الألوهية، هو للتوكيد على جانب القوة الكامنة فيه.
أما قصة طوفان نوح فنجد لها تكراراً في الأديان جميعها، قديمها وحديثها بطريقة تكاد تكون حرفية:
"وقلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين واهلك، إلا من سبق عليه القول، ومن آمن، وما آمن معه إلا قليل"
قرآن كريم: هود-7
"وقال الرب لنوح ادخل السفينة أنت وجميع أهلك، فإني إياك رأيت بارا أمامي في هذا الجيل"
العهد القديم: سفر التكوين، الإصحاح السابع-1
"قوض بيتك وابن سفينة، اهجر ممتلكاتك، وانج بنفسك، اترك متاعك وأنقذ حياتك، واحمل فيها بذرة كل ذي حياة"
من الأحافير البابلية.
أما قصة الطوفان نفسها فتتحدث بطريقة رمزية عن الكارثة التي يمكن أن تحل بالجنس البشري عندما ينسى الغاية التي خلق من أجلها في أن يعبد الله لا يشرك به أحداً، ويتحول بدلا من ذلك ليعيث في الأرض جورا و فسادا وتخريبا، عندئذٍ يذهب الله بالفاسدين ويأتي بآخرين صالحين يملؤون الأرض عدلا وازدهارا، وهذا ما حصل لقوم نوح الذين عاثوا في الأرض فسادا ولم يقبلوا بالنصح والإرشاد من نبي الله المختار نوح، وبعد أن يئس نوح من قومه أمره الله ببناء سفينة ضخمة يحمل فيها البشر الصالحين ومن الحيوانات ما يجعله قادرا على بدء حياة يرضى الله عنها من جديد، ثم أغرق الله الأرض وما عليها، لتبدأ الإنسانية عهدا جديدا مع الله بعد انحسار الطوفان.
تتكرر القصة مع اختلافات بسيطة كل مرة بين السومريين والبابليين والعبرانيين وتظهر في الأسطورة الإغريقية مع بعض التغيير في الظروف والأسماء، إذ تقول: أن كبير آلهة الأوليمب "زيوس" قرر تدمير الحياة على الأرض، فأرسل طوفانا عارما استمر تسعة أيام قضى على الناس جميعا إلا رجلا وامرأة هما "ديكليون" وزوجته "فرحه" الذين لجآ إلى سفينة استقرت بهما على قمة جبل البرناس، وقد رأى زيوس بعد ذلك أن يعيد الحياة إلى الأرض فأمر الزوجين أن يرميا حجارة صغيرة خلفهما لتتحول هذه الحجارة إلى مخلوقات حية.
ما يلفت النظر أن سردية الدمار الشامل الذي ألم بالأرض تتكرر في ثقافات كثير من الشعوب بالرغم من التباعد الجغرافي بينها؛ فتحليل المعلومات التي تم جمعها عن حياة المجتمعات الأسترالية ومعتقداتها وطقوسها الدينية منذ أواسط القرن التاسع عشر، يشير إلى أن ما يقدسه السكان الأصليون بالدرجة الأولى هو قوة كونية شاملة غير مشخصة خالدة وقد عمد الأسترالي إلى تجسيد هذه القوة من خلال موضوع مرئي مأخوذ من عالم النبات أو الحيوان، أو ما يسمى بالطوطم. أما المجتمعات الطوطمية التي نواجهها في أميركا الشمالية فقد سارت بمفهوم المبدأ الطوطمي نحو شكل أكثر شمولية ونقاء، فبالرغم من وجود عدد من الكائنات العلوية التي تتركز حولها الطقوس الدينية لهذه المجتمعات إلا أنه هناك قوة شمولية فوق هذه الكائنات تستمد منها وجودها وفعاليتها وتسمى (واكان- (Wakan، وهي السر المحرك للكون بكل ما فيه وهي سبب حفظه واستمراره. ونجد الاعتقاد نفسه لدى جماعات الهنود الحمر الأخرى مع اختلاف التسميات.
لا يقتصر هذا الشكل من المعتقد الديني الأولي على المجتمعات الطوطمية بل يتجاوزها إلى معظم المجتمعات البدائية التي عاشت على هامش تطور الحضارة العالمية، فنواجه مفهوم القوة الكونية الشاملة في أساس معتقدات ثقافات جزر المحيط الهادي الجنوبية الغربية (البولينيزية منها والميلانيزية). يقول الفيلسوف والأنثروبولوجي البريطاني ماريت R. Marett في كتابه عتبة الدين The threshold of religion الصادر في لندن عام 1909:
"إن الميلانيزي يحس بحضور عالم فوق الطبيعة يتجلى كشيء خارق وغير مفهوم، يستثير الإحساس، ويجد الإنسان نفسه معه في علاقة غير اختيارية لا يمكن دفعها. وهو يميز بين حالتين للمواجهة مع هذا العالم؛ حال إيجابي وحال سلبي، فيدعو الأول بالمانا وهو الإحساس بفعالية ذلك العالم واثاره في الإنسان ومظاهر الطبيعة، ويدعو الثاني بالتابو، وهو الإحساس بالجوانب الخطرة لتلك الفعالية واحتمالات الأذى الكامن فيها وضرورة مراقبتها بحذر"[19].
فإذا انتقلنا من جزر المحيط الهادي إلى أفريقيا السوداء، وجدنا أن الديانات الأفريقية وبالرغم من احتكاكها المبكر بديانات الحضارات الكبرى منذ عهد الفراعنة وتلقيها لمؤثرات غريبة كثيرة فقد حافظت على الملامح الأساسية للمعتقد الديني الأولي الذي يتميز بالقداسة والقدرة المطلقة.
يقول أحد حكماء قبائل الهنود الحمر في (داكوتا) في معرض شرحه لمعتقدهم حول القدرة الكونية المطلقة أو ما يسمونه (واكان):
"إن كل متحرك لا بد له من التوقف هنا أوهناك؛ فالطائر يتوقف ليصنع له عشاً، والإنسان يتوقف أينما أراد، وكذلك الواكان كان له توقفات؛ فالشمس البهية المضيئة نجمت عن مكان توقف عنده الواكان، وكذلك الأشياء الأخرى من حيوانات واشجار وما إليها، كلها نجمت عن مكان توقف عنده الواكان، وإن الهندي عندما يرسل صلاته يفكر في هذه الأمكنة التي توقف عندها الواكان ليحصل على العون والبركة"[20]
لو استبدلنا كلمة الله بكلمة الواكان بلغة الهنود الحمر وكل من الكلمات التالية: الشمس والقمر والشجر التي يذكرها الحكيم في وصفه لصلاة الهندي بكلمة آيات الله في خلقه لوجدنا تطابقا كبيراً بين ما جاءت به الديانات الحديثة مع ديانات الإنسان الأول.
تبين هذه الأمثلة التي تنتمي لأربع قارات أوجه التقارب والتشابه بين المعتقد الحديث في الألوهية ومعتقد العصر الحجري. لقد اعتقد الباحثون طويلا أن الإنسان القديم كان محكوما بحواسه وبنوا على هذا أن تصور الإنسان لله قد بدء مع ابتكار آلهة مشخصة، لكن يتضح مما سبق أن معرفة الله كانت تدور حول مفاهيم عالية التجريد وشديدة الاتصال بالواقع في الوقت نفسه، الأمر الذي يشير إلى جذر واحد استقت منه هذه الديانات جميعا مفهوم الألوهية والتوحيد، ثم اندثر بفعل القدم وضياع الأحافير واللقى التي قد تشير إليه. وما الاختلافات التي باعدت بين الأديان التي ظهرت لاحقاً إلا اختلافات ظرفية تتعلق بالبيئة والعصر الذي مورست فيه هذه الديانات، أو خلافات ناشئة عن البغي المتمثل في تسييس الدين واتخاذه وسيلة للوصول إلى الجاه والسلطة واستعباد الناس بادعاء حق المُلك الإلهي المقدس.
____________________________
[1] . فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، الطبعة السابعة ص 8
[2] . البهاغافاد غيتا "باللغة السنسكريتية: भगवद्गीता ,Bhagavad Gītā. تُعد الكتاب المقدس في الديانة الهندوسية، وهي الحوار الذي جرى بين السيد أو الرب المبارك كريشنا وأرجونا، وهو عبارة عن 700 بيت أو اية تقع في ثمانية عشر فصلاً، يعرف باسم البهاغافاد غيتا ويعود تاريخها إلى قرابة الألف الثالث قبل الميلاد. كلمة بهاغافاد تعني الله أو الرب أو الإلهي، وترمز إلى السيد كريشنا، وكلمة غيتا تعني المغنّاة أو القصيدة أو الأنشودة، وتشكل جوهر الديانة الهندوسية الحديثة. (من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة)
[3] . المرجع السابق، ص 46.
[4] . العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثاني
[5] . Philip Freud, Myths of Creation, W.H. Allen, London. 1964.
[6] . المرجع السابق.
[7] . Anne Marie Helmenstine (2-7-2018), "Elements in the Human Body and What They Do"، www.thoughtco.com, Retrieved 18-9-2018. Edited.
[8] . A. Heidel, the Babylonian Genesis, Chicago 1970
[9] . المرجع السابق.
[10] . المرجع السابق.
[11] . قد يرى البعض في تناولنا للنصوص التوراتية التي تؤيد وجهة نظرنا تحيزا وانتقائية، لكن عذرنا في ذلك أن هذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة في تناول مادة موروثة لحق بها الأذى والتحريفات المغرضة الخفية، وأصبح من الضرورة التركيز على تقاطعاتها مع الموروثات الأخرى، لاحظ أن التوراة قد كتبت عبر مسافة زمنية طويلة تبدأ في القرن العاشر وتنتهي في القرن الأول قبل الميلاد، وخلال ذلك اختلفت فكرة اليهود حتى عن الله من إله خاص بشعب إسرائيل إلى إله مطلق للعالم كله.
[12]C.H. Gordon, Ugarit and Minoan Crete, Norton Library, New York, 1967 P11.
[13] . سيغموند فرويد، موسى والتوحيد ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت 1986.
[14] . سفر الخروج 4:20.
[15]. William H. McNeil, The Ancient Near East, Oxford London 1968.
[16] . الكتاب المقدس، العهد القديم، سفر المزامير، المزمور 104
[17] . العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثالث: 19
[18]. Wallis Budge, Egyptian Religion, Routledge, London 1975, ch. 1
[19]. G. D. Alles, Dynamism (Encyclopedia of Religion, p 527-529)
[20] . Emile Durkheim, op. cit, p 228
[2] . البهاغافاد غيتا "باللغة السنسكريتية: भगवद्गीता ,Bhagavad Gītā. تُعد الكتاب المقدس في الديانة الهندوسية، وهي الحوار الذي جرى بين السيد أو الرب المبارك كريشنا وأرجونا، وهو عبارة عن 700 بيت أو اية تقع في ثمانية عشر فصلاً، يعرف باسم البهاغافاد غيتا ويعود تاريخها إلى قرابة الألف الثالث قبل الميلاد. كلمة بهاغافاد تعني الله أو الرب أو الإلهي، وترمز إلى السيد كريشنا، وكلمة غيتا تعني المغنّاة أو القصيدة أو الأنشودة، وتشكل جوهر الديانة الهندوسية الحديثة. (من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة)
[3] . المرجع السابق، ص 46.
[4] . العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثاني
[5] . Philip Freud, Myths of Creation, W.H. Allen, London. 1964.
[6] . المرجع السابق.
[7] . Anne Marie Helmenstine (2-7-2018), "Elements in the Human Body and What They Do"، www.thoughtco.com, Retrieved 18-9-2018. Edited.
[8] . A. Heidel, the Babylonian Genesis, Chicago 1970
[9] . المرجع السابق.
[10] . المرجع السابق.
[11] . قد يرى البعض في تناولنا للنصوص التوراتية التي تؤيد وجهة نظرنا تحيزا وانتقائية، لكن عذرنا في ذلك أن هذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة في تناول مادة موروثة لحق بها الأذى والتحريفات المغرضة الخفية، وأصبح من الضرورة التركيز على تقاطعاتها مع الموروثات الأخرى، لاحظ أن التوراة قد كتبت عبر مسافة زمنية طويلة تبدأ في القرن العاشر وتنتهي في القرن الأول قبل الميلاد، وخلال ذلك اختلفت فكرة اليهود حتى عن الله من إله خاص بشعب إسرائيل إلى إله مطلق للعالم كله.
[12]C.H. Gordon, Ugarit and Minoan Crete, Norton Library, New York, 1967 P11.
[13] . سيغموند فرويد، موسى والتوحيد ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت 1986.
[14] . سفر الخروج 4:20.
[15]. William H. McNeil, The Ancient Near East, Oxford London 1968.
[16] . الكتاب المقدس، العهد القديم، سفر المزامير، المزمور 104
[17] . العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثالث: 19
[18]. Wallis Budge, Egyptian Religion, Routledge, London 1975, ch. 1
[19]. G. D. Alles, Dynamism (Encyclopedia of Religion, p 527-529)
[20] . Emile Durkheim, op. cit, p 228
من مواضيعي
0 Inanimate matter possess a form of Consciousness
0 The God Particle or the Higgs Boson
0 أسس ومعالم الفكر المعاصر: الفلسفة الوجودية
0 أسس ومعالم الفكر المعاصر: الفلسفة الظاهراتية
0 أسس ومعالم الفكر المعاصر: منطلقات وتوجهات
0 Antimatter: The Universe's Hidden Balance and Future Potential
0 The God Particle or the Higgs Boson
0 أسس ومعالم الفكر المعاصر: الفلسفة الوجودية
0 أسس ومعالم الفكر المعاصر: الفلسفة الظاهراتية
0 أسس ومعالم الفكر المعاصر: منطلقات وتوجهات
0 Antimatter: The Universe's Hidden Balance and Future Potential
التعديل الأخير تم بواسطة طارق زينة ; 08-11-2024 الساعة 11:43 AM