الدين: حقيقة لا غنى عنها للوجود الإنساني
11-11-2024, 09:55 AM
يرى بعض علماء النفس في الدين نظامًا من الأفكار يبدأ من واقعة بيولوجية مثل الأحلام التي تعبر عن أطماع النفس ومخاوفها. كما يرى بعض أصحاب العلوم الطبيعية أن ظاهرة الدين تنبع من ظواهر طبيعية مؤثرة، كالخوف من الزلازل والبراكين وغير ذلك من الكوارث الطبيعية ويؤكدون أن فكرة الألوهية والدين تنشأ في الذهن نتيجة التأمل ومحاولة الإجابة على التساؤلات المتعلقة بالأسباب التي تقع وراء مثل هذه الظواهر. غير أن المؤمن عندما يصف تجربته الدينية، لا يعبر عن موقف فكري عقلاني وحسب، بل يتحدث عن خبرة تجعله أكثر تكاملاً مع نفسه ومع العالم المحيط به. هذه الخبرة تقتحم حياة الإنسان وتستولي عليه دون تفكير مسبق، ويأتي التأمل بعد ذلك نتيجة للإحساس بالألوهية، كما في الآية الكريمة التالية:
"الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار" - آل عمران - آية 191
باختصار فإن البعض يرجع الدين إلى عاطفتين أساسيتين هما الخوف والطمع، وبما أن محور مخاوف الإنسان هو خوفه من الموت، ومنتهى طمعه هو الاستمرار والخلود بعد الممات، فإن هاتين العاطفتين تتعاونان على صياغة معتقد يقسم الإنسان إلى كيانين؛ أحدهما مادي والآخر روحي. فإذا كان الموت لابد مدرك كيان الإنسان المادي كما يخبرنا الواقع والخبرة اليومية، فإن الكيان الروحي سوف يجتاز واقعة الموت وينتقل إلى مستوى آخر للوجود يتمتع فيه بالحياة الأبدية. وبما أننا نواجه فكرة الروح هذه في كل ديانة قديمة أو حديثة إلا ما ندر كما نواجه في كل منها تصورا لحالة الروح بعد الموت، فقد توصل أصحاب النظرية العاطفية إلى القول بأن الحس الديني هو نتاج ثانوي لعاطفة الخوف من الموت والطمع في الخلود، وان مفهوم الألوهة لم يترسخ إلا لكي يضمن الإنسان لنفسه خلاصا وخلودا أبدياً.
فهل أفلحت هذه النظريات في تقديم تفسير يتوافق مع ما نعرفه عن تاريخ الأديان ومعتقداتها؟؟
إن الشرط في صلاح أية نظرية علمية هو إمكانيتها في أن تفسّر جميع ما يمت إلى موضوعها بصلة مهما تكررت الاختبارات والمشاهدات على موضوع الاختبار، ولو فشلت النظرية في تفسير هذه المشاهدات ولو مرة واحد، لسقطت على الفور؛ مثلا لو تبين أن جرما سماويا واحدا مثلا لا يخضع لقوانين الجاذبية بل يبتعد عن الأرض أثناء سقوطه الحر بدلا من أن ينجذب إليها لأصبحت نظرية نيوتن في الجاذبية محل نقد واعادة نظر. وبما أن معطيات تاريخ الأديان و علم الأديان المقارن ومعطيات الأنثروبولوجيا (علم الإنسان الطبيعي) والإثنولوجيا (علم تاريخ ثقافة الإنسان) تزودنا بأكثر من مثال عن معتقدات دينية من بدائية وغيرها لا نجد فيها أثرا لفكرة خلود الروح الفردية، ولا لعالم أفضل ترحل إليه أرواح الموتى، فإن النظرة العاطفية في نشوء الدين أي نظرية الخوف من الموت والطمع في الخلود، تهتز أركانها أمام الدارس، فسكان أستراليا الأصليون مثلا يعتقدون بخلود الروح التي تتجدد في كل جيل والتي تسكن باطن الأرض، فالأسترالي لم يؤمن قط بالروح الفردية بل يعتبر روحه جزءا من روح تغمر العالم كلّه، والى هذا الكل تعود روحه بعد الموت. مع ذلك فقد كان الأسترالي متدينا رغم عدم إيمانه بالروح الفردية وخلودها. وفي مثال آخر من أديان الشعوب البدائية وهي القبائل التيوتونية التي عاشت على حدود مناطق النفوذ الروماني في أوروبا فقد آمن التيوتون بوجود الروح الفردية التي تسكن الجسد واعتقدوا بخلودها بعد موت صاحبها، لكن خلود الفناء أرحم من هذا الخلود الذي اعتقدوا به بكثير، فالأرواح تهبط بعد موت أجسادها إلى أرض الظلمة في العالم الأسفل، لتستمر كالأشباح في وجود لا نكهة فيه للعيش ولا متعة، فكيف يكون الخوف من الموت والطمع في الخلود هنا أساسا لنشوء معتقد ديني لا يُطمئِن من خوف ولا يشبع طمعاً؟؟
أما حضارات الشرق القديم ففي معتقداتها حول الروح ما يشبه المعتقدات البدائية الأوروبية باستثناء مصر الفرعونية التي تنفرد بمعتقداتها. ففي المعتقدين السومري والبابلي تهبط الروح إلى العالم السفلي الذي تحكمه آلهة مرعبة وهناك تتساوى مصائر الأرواح مع فروق طفيفة تتعلق بالمكانة الاجتماعية للمتوفى وما يقدمه ذوه من أضاحي وينذرونه من نذور، وما قام به من أعمال صالحه في حياته الأولى. ولو كان في المعتقدين البابلي والسومري مفهوم حقيقي لخلاص الروح إلى عالم أفضل لما طرحت مسألة الموت بهذه الطريقة المرعبة.
أما في سورية فلم تقدم لنا الوثائق الكتابية الغابرة صورة واضحة عن معتقدات الموت واحوال الروح في الدار الآخرة، فلا نستطيع إلا الاعتماد على التوراة الذي يبرز الكثير من المعتقدات الكنعانية في الروح واحوالها بعد الموت في الدار الآخرة، فالأرواح متساوية في مصيرها وهي تهبط إلى دار سفلى اسمها "شيؤول" أو "الهاوية" لها أبواب تذكرنا ببوابات العالم السفلي الرافدي السبع (أشعيا: 10:38) وهي أرض ظلمة لا يرى سكانها النور (صموئيل الثاني: 6:22، والمزمور 5:6 و 12:88) واليها تذهب أرواح الموتى دون استثناء (التكوين 35:37 والمزمور 17:31، وأشعيا 10:38)
كل ذلك يدحض النظريات التي ترى الدين بحثاً عن الخلود هربا من مصير الإنسان المجهول بعد الموت، فالدين ليس وهما، والمؤمن ليس واهما في إحساسه بوجود قوة أعظم منه تحفظ الوجود، لأن الخبرة الدينية قد ارتكزت عبر الأزمان على تجربة حقيقية صلبة، وعلى شرط معطى للوجود الإنساني. فما هي هذه التجربة وتحت أي شرط تتم؟
أما أساس التجربة فنجده متجذرا في الوعي الجمعي المنصهر بموضوعاته الخارجية، أي وحدة طرفي الحقيقة: الإنسان والكون.
هذا بالنسبة للخطاب الديني أو النص الديني المقدس، أما فكرة الألوهية فيرى الكثيرون أنها واحدة لدى جميع الأديان؛ ومن أشهر النظريات التي تقول بذلك نظرية أندرو لانغ، ونظرية وليم شميدت المكملة لها:
يرى أندرو لانغ[25] أن فكرة الإله الأعلى موجودة حتى لدى أكثر الشعوب بدائية وهم الأستراليون، كما نجدها أيضا في أفريقيا و الأمريكيتين وينتقد لانغ التبسيط الشديد الذي يلجأ إليه معظم التطوريين (أي الذين يؤمنون بنظرية تطور الأنواع لتشارلز داروين)، ويعتقد بأن فكرة الكائنات الإلهية العليا قد قامت في استقلال تام عن معتقدات الأرواح و عبادة الأسلاف وان الذهن الإنساني كان قادرا دائما عبر كل العصور على التوصل إلى فكرة الكائن الإلهي الأعلى، إلا أن الخيال غالبا ما غلّف هذا المفهوم السامي بتصورات أسطورية خلقت حشدا من الآلهة، حجب وراءه ذلك المفهوم الأصلي[26] .
بعد وفاة أندرو لانغ، قام (وليم شميدت-Wilhelm Shmidt :1868-1954) وهو كاهن كاثوليكي وعالم أنثروبولوجي بتطوير أفكار (لانغ) حول توحيد الأديان البدائية في كتابه الضخم (منشأ فكرة الله، بالألمانية (Der Urprung der Gottesidee) الذي اكتمل في عام 1955.
هاجم شميدت النظريات التطورية في دراسة الدين، مؤكدا أن التاريخ الإنساني وتاريخ الأفكار بشكل خاص هو مجال أكثر تعقيدا مما يتصوره التطوريون، وبدلا من الحركة الخطية لتطور الحضارة التي يقترحها التطوريون، يقترح شميدت عددا من الدوائر الحضارية التي تطورت كل منها في استقلال نسبي عن الأخرى وحملت خصائص مختلفة أيضا. وبعد قيامه برسم حدود هذه الدوائر، أبرز شميدت فكرة الكائن الأعلى في معتقدات كل دائرة موضحا صفات الكائن الأعلى في كل حالة، لينتهي أخيرا إلى القول بتشابه الكائنات العليا وتماثل سماتها وخصائصها في كل مكان. أما سبب هذا التشابه فيعود في رأيه إلى أن ثقافات العالم الحديث في قاراته الخمس ينبغي ألا توضع على مسار تطوري خطي، لأن كل ثقافة قد تطورت في معزل عن الأخرى ضمن دائرتها الحضارية الخاصة، لكن هذه الثقافات جميعا قد نشأت عن مستوى حضاري واحد مغرق في القدم سادت عنده ديانة واحدة تؤمن بإله واحد، ومنها أخذت الأديان التي استقلت عنها فيما بعد بذور التوحيد. إن مثل هذه الديانة الأصلية الواحدة لا يمكن تفسيرها إلا بالقول بوحي هبط على البشرية منذ جذور تاريخها.
يعزو شميدت اختلاف الأديان ومقام الألوهية بين المجتمعات المختلفة بمرور الزمن إلى التبدل في أنماط الحياة وما يعكسه هذا التبدل من أثر على الأفكار والمعتقدات؛ فالمجتمعات الزراعية مثلا أكدت على كائن إلهي مؤنث ذي خصائص تتعلق بالقمر، بينما اعتقدت الشعوب الرعوية بإله مذكر هو سيد السماء والطبيعة.
من الناحية الأثرية، هناك بعض الأدلة التي تشير إلى وجود معتقدات توحيدية في الحضارات القديمة. على سبيل المثال، نجد في الحضارة المصرية القديمة إشارات إلى إله واحد في بعض الفترات، مثل فترة حكم الفرعون أخناتون الذي دعا إلى عبادة إله واحد هو آتون. كما نجد في الحضارة السومرية إشارات إلى إله واحد في بعض النصوص القديمة.
إن تأثير هذه الديانة الأصلية يمكن رؤيته في الأديان الكبرى التي نشأت فيما بعد. فالأديان الإبراهيمية، مثل اليهودية والمسيحية والإسلام، تحمل جميعها فكرة التوحيد وتؤمن بإله واحد. هذه الأديان، رغم اختلافاتها، تشترك في العديد من المبادئ الأساسية التي يمكن تتبعها إلى تلك الديانة الأصلية المفترضة.
وهذا ما يدعونا من جديد إلى تفسير وجود ديانة توحيدية أصلية تقوم على وحي إلهي نزل على البشرية منذ بداياتها. هذا الوحي يمكن أن يكون قد شكل الأساس للإيمان بإله واحد، والذي انتقل عبر الأجيال والثقافات المختلفة. هذه الفكرة تتماشى مع العديد من النظريات الدينية التي تشير إلى أن الله قد أرسل رسالاته إلى البشرية منذ بداياتها، وأن هذه الرسالات كانت تحمل نفس المبادئ الأساسية للإيمان والتوحيد.
إن إشارة القداسة التي أقامها الإنسان منذ الأزل بينه وبين الله ورسمها على جدران كهوفه من رأس الثور في المربيط قرب مدينة الرقة في سورية، إلى مشهد البيسون المتحفز للانطلاق في كهف لاسكو في فرنسا ... ما هذا إلا ذاك، ولَكَم ذهب الإنسان بعيدا ليعيد صياغة المعتقد نفسه ولكن بأشكال جديدة، لقد قام برحلة عقلية طويلة لكنه لم يتقدم قيد أنملة من مكانه في البحث عن سر وجوده الذي هو الله.
"الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار" - آل عمران - آية 191
باختصار فإن البعض يرجع الدين إلى عاطفتين أساسيتين هما الخوف والطمع، وبما أن محور مخاوف الإنسان هو خوفه من الموت، ومنتهى طمعه هو الاستمرار والخلود بعد الممات، فإن هاتين العاطفتين تتعاونان على صياغة معتقد يقسم الإنسان إلى كيانين؛ أحدهما مادي والآخر روحي. فإذا كان الموت لابد مدرك كيان الإنسان المادي كما يخبرنا الواقع والخبرة اليومية، فإن الكيان الروحي سوف يجتاز واقعة الموت وينتقل إلى مستوى آخر للوجود يتمتع فيه بالحياة الأبدية. وبما أننا نواجه فكرة الروح هذه في كل ديانة قديمة أو حديثة إلا ما ندر كما نواجه في كل منها تصورا لحالة الروح بعد الموت، فقد توصل أصحاب النظرية العاطفية إلى القول بأن الحس الديني هو نتاج ثانوي لعاطفة الخوف من الموت والطمع في الخلود، وان مفهوم الألوهة لم يترسخ إلا لكي يضمن الإنسان لنفسه خلاصا وخلودا أبدياً.
فهل أفلحت هذه النظريات في تقديم تفسير يتوافق مع ما نعرفه عن تاريخ الأديان ومعتقداتها؟؟
إن الشرط في صلاح أية نظرية علمية هو إمكانيتها في أن تفسّر جميع ما يمت إلى موضوعها بصلة مهما تكررت الاختبارات والمشاهدات على موضوع الاختبار، ولو فشلت النظرية في تفسير هذه المشاهدات ولو مرة واحد، لسقطت على الفور؛ مثلا لو تبين أن جرما سماويا واحدا مثلا لا يخضع لقوانين الجاذبية بل يبتعد عن الأرض أثناء سقوطه الحر بدلا من أن ينجذب إليها لأصبحت نظرية نيوتن في الجاذبية محل نقد واعادة نظر. وبما أن معطيات تاريخ الأديان و علم الأديان المقارن ومعطيات الأنثروبولوجيا (علم الإنسان الطبيعي) والإثنولوجيا (علم تاريخ ثقافة الإنسان) تزودنا بأكثر من مثال عن معتقدات دينية من بدائية وغيرها لا نجد فيها أثرا لفكرة خلود الروح الفردية، ولا لعالم أفضل ترحل إليه أرواح الموتى، فإن النظرة العاطفية في نشوء الدين أي نظرية الخوف من الموت والطمع في الخلود، تهتز أركانها أمام الدارس، فسكان أستراليا الأصليون مثلا يعتقدون بخلود الروح التي تتجدد في كل جيل والتي تسكن باطن الأرض، فالأسترالي لم يؤمن قط بالروح الفردية بل يعتبر روحه جزءا من روح تغمر العالم كلّه، والى هذا الكل تعود روحه بعد الموت. مع ذلك فقد كان الأسترالي متدينا رغم عدم إيمانه بالروح الفردية وخلودها. وفي مثال آخر من أديان الشعوب البدائية وهي القبائل التيوتونية التي عاشت على حدود مناطق النفوذ الروماني في أوروبا فقد آمن التيوتون بوجود الروح الفردية التي تسكن الجسد واعتقدوا بخلودها بعد موت صاحبها، لكن خلود الفناء أرحم من هذا الخلود الذي اعتقدوا به بكثير، فالأرواح تهبط بعد موت أجسادها إلى أرض الظلمة في العالم الأسفل، لتستمر كالأشباح في وجود لا نكهة فيه للعيش ولا متعة، فكيف يكون الخوف من الموت والطمع في الخلود هنا أساسا لنشوء معتقد ديني لا يُطمئِن من خوف ولا يشبع طمعاً؟؟
أما حضارات الشرق القديم ففي معتقداتها حول الروح ما يشبه المعتقدات البدائية الأوروبية باستثناء مصر الفرعونية التي تنفرد بمعتقداتها. ففي المعتقدين السومري والبابلي تهبط الروح إلى العالم السفلي الذي تحكمه آلهة مرعبة وهناك تتساوى مصائر الأرواح مع فروق طفيفة تتعلق بالمكانة الاجتماعية للمتوفى وما يقدمه ذوه من أضاحي وينذرونه من نذور، وما قام به من أعمال صالحه في حياته الأولى. ولو كان في المعتقدين البابلي والسومري مفهوم حقيقي لخلاص الروح إلى عالم أفضل لما طرحت مسألة الموت بهذه الطريقة المرعبة.
أما في سورية فلم تقدم لنا الوثائق الكتابية الغابرة صورة واضحة عن معتقدات الموت واحوال الروح في الدار الآخرة، فلا نستطيع إلا الاعتماد على التوراة الذي يبرز الكثير من المعتقدات الكنعانية في الروح واحوالها بعد الموت في الدار الآخرة، فالأرواح متساوية في مصيرها وهي تهبط إلى دار سفلى اسمها "شيؤول" أو "الهاوية" لها أبواب تذكرنا ببوابات العالم السفلي الرافدي السبع (أشعيا: 10:38) وهي أرض ظلمة لا يرى سكانها النور (صموئيل الثاني: 6:22، والمزمور 5:6 و 12:88) واليها تذهب أرواح الموتى دون استثناء (التكوين 35:37 والمزمور 17:31، وأشعيا 10:38)
كل ذلك يدحض النظريات التي ترى الدين بحثاً عن الخلود هربا من مصير الإنسان المجهول بعد الموت، فالدين ليس وهما، والمؤمن ليس واهما في إحساسه بوجود قوة أعظم منه تحفظ الوجود، لأن الخبرة الدينية قد ارتكزت عبر الأزمان على تجربة حقيقية صلبة، وعلى شرط معطى للوجود الإنساني. فما هي هذه التجربة وتحت أي شرط تتم؟
أما أساس التجربة فنجده متجذرا في الوعي الجمعي المنصهر بموضوعاته الخارجية، أي وحدة طرفي الحقيقة: الإنسان والكون.
هذا بالنسبة للخطاب الديني أو النص الديني المقدس، أما فكرة الألوهية فيرى الكثيرون أنها واحدة لدى جميع الأديان؛ ومن أشهر النظريات التي تقول بذلك نظرية أندرو لانغ، ونظرية وليم شميدت المكملة لها:
يرى أندرو لانغ[25] أن فكرة الإله الأعلى موجودة حتى لدى أكثر الشعوب بدائية وهم الأستراليون، كما نجدها أيضا في أفريقيا و الأمريكيتين وينتقد لانغ التبسيط الشديد الذي يلجأ إليه معظم التطوريين (أي الذين يؤمنون بنظرية تطور الأنواع لتشارلز داروين)، ويعتقد بأن فكرة الكائنات الإلهية العليا قد قامت في استقلال تام عن معتقدات الأرواح و عبادة الأسلاف وان الذهن الإنساني كان قادرا دائما عبر كل العصور على التوصل إلى فكرة الكائن الإلهي الأعلى، إلا أن الخيال غالبا ما غلّف هذا المفهوم السامي بتصورات أسطورية خلقت حشدا من الآلهة، حجب وراءه ذلك المفهوم الأصلي[26] .
بعد وفاة أندرو لانغ، قام (وليم شميدت-Wilhelm Shmidt :1868-1954) وهو كاهن كاثوليكي وعالم أنثروبولوجي بتطوير أفكار (لانغ) حول توحيد الأديان البدائية في كتابه الضخم (منشأ فكرة الله، بالألمانية (Der Urprung der Gottesidee) الذي اكتمل في عام 1955.
هاجم شميدت النظريات التطورية في دراسة الدين، مؤكدا أن التاريخ الإنساني وتاريخ الأفكار بشكل خاص هو مجال أكثر تعقيدا مما يتصوره التطوريون، وبدلا من الحركة الخطية لتطور الحضارة التي يقترحها التطوريون، يقترح شميدت عددا من الدوائر الحضارية التي تطورت كل منها في استقلال نسبي عن الأخرى وحملت خصائص مختلفة أيضا. وبعد قيامه برسم حدود هذه الدوائر، أبرز شميدت فكرة الكائن الأعلى في معتقدات كل دائرة موضحا صفات الكائن الأعلى في كل حالة، لينتهي أخيرا إلى القول بتشابه الكائنات العليا وتماثل سماتها وخصائصها في كل مكان. أما سبب هذا التشابه فيعود في رأيه إلى أن ثقافات العالم الحديث في قاراته الخمس ينبغي ألا توضع على مسار تطوري خطي، لأن كل ثقافة قد تطورت في معزل عن الأخرى ضمن دائرتها الحضارية الخاصة، لكن هذه الثقافات جميعا قد نشأت عن مستوى حضاري واحد مغرق في القدم سادت عنده ديانة واحدة تؤمن بإله واحد، ومنها أخذت الأديان التي استقلت عنها فيما بعد بذور التوحيد. إن مثل هذه الديانة الأصلية الواحدة لا يمكن تفسيرها إلا بالقول بوحي هبط على البشرية منذ جذور تاريخها.
يعزو شميدت اختلاف الأديان ومقام الألوهية بين المجتمعات المختلفة بمرور الزمن إلى التبدل في أنماط الحياة وما يعكسه هذا التبدل من أثر على الأفكار والمعتقدات؛ فالمجتمعات الزراعية مثلا أكدت على كائن إلهي مؤنث ذي خصائص تتعلق بالقمر، بينما اعتقدت الشعوب الرعوية بإله مذكر هو سيد السماء والطبيعة.
من الناحية الأثرية، هناك بعض الأدلة التي تشير إلى وجود معتقدات توحيدية في الحضارات القديمة. على سبيل المثال، نجد في الحضارة المصرية القديمة إشارات إلى إله واحد في بعض الفترات، مثل فترة حكم الفرعون أخناتون الذي دعا إلى عبادة إله واحد هو آتون. كما نجد في الحضارة السومرية إشارات إلى إله واحد في بعض النصوص القديمة.
إن تأثير هذه الديانة الأصلية يمكن رؤيته في الأديان الكبرى التي نشأت فيما بعد. فالأديان الإبراهيمية، مثل اليهودية والمسيحية والإسلام، تحمل جميعها فكرة التوحيد وتؤمن بإله واحد. هذه الأديان، رغم اختلافاتها، تشترك في العديد من المبادئ الأساسية التي يمكن تتبعها إلى تلك الديانة الأصلية المفترضة.
وهذا ما يدعونا من جديد إلى تفسير وجود ديانة توحيدية أصلية تقوم على وحي إلهي نزل على البشرية منذ بداياتها. هذا الوحي يمكن أن يكون قد شكل الأساس للإيمان بإله واحد، والذي انتقل عبر الأجيال والثقافات المختلفة. هذه الفكرة تتماشى مع العديد من النظريات الدينية التي تشير إلى أن الله قد أرسل رسالاته إلى البشرية منذ بداياتها، وأن هذه الرسالات كانت تحمل نفس المبادئ الأساسية للإيمان والتوحيد.
إن إشارة القداسة التي أقامها الإنسان منذ الأزل بينه وبين الله ورسمها على جدران كهوفه من رأس الثور في المربيط قرب مدينة الرقة في سورية، إلى مشهد البيسون المتحفز للانطلاق في كهف لاسكو في فرنسا ... ما هذا إلا ذاك، ولَكَم ذهب الإنسان بعيدا ليعيد صياغة المعتقد نفسه ولكن بأشكال جديدة، لقد قام برحلة عقلية طويلة لكنه لم يتقدم قيد أنملة من مكانه في البحث عن سر وجوده الذي هو الله.
------------------------------------------
[25] . أندرولانغ (بالإنجليزية: Andrew Lang) (1844 – 1912 م) هو شاعر، وصحفي، وعالم أنثروبولوجي، ومترجم، وكاتب، ومؤرخ، وناقد أدبي من المملكة المتحدة.
[26]. . Andrew Lang. Myth, Ritual and religion, New York 1968
[26]. . Andrew Lang. Myth, Ritual and religion, New York 1968