عصر ابن تيمية وأثره فيه
20-02-2017, 12:20 PM
عصر ابن تيمية وأثره فيه
د. بليل عبد الكريم
د. بليل عبد الكريم
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:
دراسة أيَّة شخصيَّة علميَّة أو دعويَّة، تقضي التنويه بالعصر الذي نشأَت فيه، ومدى التأثُّر والتأثير، فالإنسان ابن بيئته، وملاحظة تأثير العصر في تكوين الشخصيات الإصلاحية له أهميَّة قُصوى في فَهْم مَنهجها العلمي والدعوي، ومقارنة الكلام النظري بالممارسة الفعليَّة، وفَهْم الجو المحيط ببعض المواقف، فالمصلحون لا يخرجون عن إطار عصرهم الزماني والمكاني.
وإن كان البعض يُسالِم ويَستسلم للأمر الواقع، والبعض الآخر يسعى للتوفيق والمسايرة، وآخر يبغي التغيير والتجديد، وإحياء ما أُمِيت وانْدَرَس، والنهوض بالهِمم، وقليل ما هم؛ فالإصلاح يبغي التصدِّي للعَقَبات، والخروج عن إلْف الفساد واعتياد الباطل.
وأعلام العلماء أصناف:
• منهم عالِمُ جمهور، يَنساق وأهواء العامَّة، لا يبغي غير كثرة السَّواد، والصِّيت بين العباد.
• وعالِمُ بلاطٍ، يتملَّق أُولي السلطان، ويتسلَّق المناصب أينما كان، خبير في الرُّقي للمناصب العُلى.
• ومن الأعلام مَن هو عالِم ربَّاني، غايته الدعوة لله لا لنفسه أو طائفته، يتحرَّى مواقع الخَلل ومواطن الزَّلل في الأُمَّة الإسلاميَّة، ثم يَبحث الشفاءَ في دين الله ورسوله فيَعرضه، ولو قيل: هو مُرٌّ، لا يَخشى لوْمَةً بين الملأ، ولا غَضْبة أُولِي الملأ.
ولعلَّ مِن هؤلاء:( شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة) رحمه الله الذي عاش في النصف الثاني من القرن السابع، والثُّلُث الأوَّل من القرن الثامن الهجري؛ أي: في عصرٍ ابْتُلِي فيه المسلمون من بين أيديهم ومن خلفهم، وحلَّت عليهم فِتنٌ دينيَّة من تحتهم، ودنيويَّة من فوق رؤوسهم.
عصر شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله:
زمن شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: زمنٌ خارَت فيه قُوَى الأُمَّة، وتفكَّكت وَحْدتها، واسْتُبِيحت بَيْضتها، وانْدَرَست معالِمُ في الإسلام، وشاعَت بِدَعٌ؛ حتى ظنَّ الناشئة أنها من عُرى الإسلام، وتكالَبَت الباطنيَّة على الإسلام والمسلمين، وتداعَت أُممُ الكفر على حِياض الأُمة، وتهاوَت ثغور العِزَّة، وانْتُزِعَت هيبة المؤمنين من أعدائهم، وفشَا الهوان بين المسلمين.
يَصِف شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: أهْلَ زمانه وقت ظهور التتار؛ فيقول: "أمَّا الطائفة بالشام ومصر ونحوهما، فهم في هذا الوقت المقاتلون عن دين الإسلام، وهم مِن أحقِّ الناس دخولاً في الطائفة المنصورة، التي ذكَرها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله في الأحاديث الصحيحة المستفيضة عنه: ((لا تزال طائفة من أُمَّتي ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خالَفهم ولا مَن خَذَلهم حتى تقوم الساعة))[1]، وفي رواية لمسلم: ((لا يزال أهل الغرب))[2].
والنبي - صلى الله عليه وسلم - تكلَّم بهذا الكلام في مدينته النبويَّة، فغَرْبه ما يَغرُب عنها، وشَرْقه ما يَشرق عنها، فإنَّ التشريق والتغريب من الأمور النسبيَّة؛ إذ كلُّ بلدٍ له شرق وغرب، وكان أهل المدينة يُسَمون أهل الشام أهل الغرب، ويسمون نجدًا والعراق أهْلَ الشرق، ومن يتدبَّر أحوال العالَم في هذا الوقت، يَعلم أنَّ هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام: عِلمًا، وعملاً، وجهادًا من شرق الأرض وغربها، فإنهم هم الذين يقاتلون أهلَ الشوكة العظيمة من المشركين، وأهل الكتاب، ومغازيهم مع النصارى ومع المشركين من التُّرك، ومع الزنادقة المنافقين من الداخلين في الرافضة وغيرهم؛ كالإسماعيلية ونحوهم من القرامطة - معروفة معلومة قديمًا وحديثًا، والعِزُّ الذي للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزِّهم، وذلك أنَّ سُكان اليمن في هذا الوقت ضِعاف عاجزون عن الجهاد، أو مُضيِّعون له، وهم مُطيعون لِمَن ملَك هذه البلاد، حتى ذَكروا أنهم أَرْسَلوا بالسمع والطاعة لهولاء، وملك المشركين لَمَّا جاء إلى "حلب" جَرَى بها من القتل ما جرَى، وأمَّا سُكَّان الحجاز، فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة، وفيهم من البِدَع والضلال والفجور ما لا يَعلمه إلاَّ الله، وأهل الإيمان والدين فيهم مُستضعفون عاجزون، وإنما تكون القوَّة والعِزة في هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد، فلو ذلَّت هذه الطائفة - والعياذ بالله تعالى - لكان المؤمنون بالحجاز من أذلِّ الناس، ولا سيَّما وقد غلَبَ فيهم الرَّفضُ، ومُلك هؤلاء التتار المحاربين لله ورسوله الآن مرفوض، فلو غَلَبوا لفَسَد الحجاز بالكُليَّة، وأمَّا بلاد إفريقيَّة، فأعرابُها غالبون عليها، وهم من شرِّ الخَلْق، بل هم مستحقون للجهاد والغزو، وأمَّا المغرب الأقصى، فمع استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم، فلا يقومون بجهاد النصارى هناك، بل في عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصُّلبان خَلْق عظيم، لو استولى التتار على هذه البلاد، لكان أهل المغرب معهم من أذلِّ الناس، ولا سيَّما والنصارى تدخل مع التتار، فيَصيرون حزبًا على أهل المغرب.
فهذا وغيره مما يُبَيِّن أنَّ هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت هم: كتيبة الإسلام، وعِزُّهم عِزُّ الإسلام، وذُلُّهم ذُلُّ الإسلام، فلو استولى عليهم التتار، لَم يَبق للإسلام عِزٌّ ولا كلمة عالية، ولا طائفة ظاهرة عالية، يَخافها أهل الأرض، تقاتل عنه[3].
الجانب السياسي:
كان عصر شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله [4]: زمنًا ضَعُف أمْرُ الخلافة العباسية فيه، وتَدَهورت أحوالها السياسيَّة، فكان الخليفة لا يَسوس غير حاضرة البلاد، وسُلطانه لا يُباعد أسوار بغداد، وما حوْله مُقَسَّم مَمالِك ودُويلات، تدين بالولاء للخليفة اسمًا لا أكثر، شعارًا، لا أمْرَ له عليهم من بعدُ، ولا حتى من قبلُ، فكأنما فيه قيل مَنطق:( يَملِك ولا يَحكم)، وزادَ سوء الأمر دُويلات الأقزام بدوامها متناحرة، لا يَرفق أكبرُها بأصاغرها، إلاَّ وقطَع منه أرضًا أو إقليمًا، أو غزَاه وأزالَ مُلكه، "يُحَفِّزهم الطمع في سَعة المُلك وعَظَمة السلطان إلى مقاتلة بعضهم"[5]، فطَغى بعضهم على بعضٍ، وجُعِل بأْسهم بينهم، حتى لَم يَدُر لهم قتال إلا بينهم، وما دَخَلوا قرية إلا أفْسَدوها، وجعلوا أعزَّة قومها أذِلَّة، وزادَ ظُلمهم للرعيَّة بالضرائب والمُكوس، وعَمَّ الفساد والرِّشوة للرأس والمرؤوس.
ومثل أولئك لا يؤمَن عليهم مَكْرُ الله: أن يأتِيَهم بياتًا وهم نائمون، فنزَل بساحتهم الفرنج ببلاد الشام عام 490هـ، في عهد الدولة العُبيدية (الفاطميَّة) بمصر، والسلاجقة ببغداد والشام، واقْتَطعوا ممالك وأراضِيَ، وسَلَبوا بيت المقدس عام 492هـ، وأذاقُوهم سيِّئات ما عَمِلوا، و"رَكِب الناس السيف، ولَبِث الفرنج في البلدة أسبوعًا يَقتلون فيه المسلمين، واحْتَمى جماعة من المسلمين بمحراب داود فاعْتَصَموا به، وقاتَلوا فيه ثلاثة أيام، وقتَل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفًا، منهم جماعة كبيرة من أئمة المسلمين وعُلمائهم، وعُبَّادهم وزُهَّادهم، ممن فارَق الأوطان، وجاوَر بذلك الموضع الشريف"[6].
بعدها بزَغ نجم عماد الدين زنكي (ت541هـ)، وبسَط نفوذ الدولة الإسلاميَّة على أراضٍ شاسعة من الشام، وبدأ يُجهِّز لاسترجاع بيت المقدس، وإن لَم يُكتب له الفِعل، فقد كُتِب له الأَجْر، ثم تولَّى الأمر ابنه نور الدين محمود زنكي، فحرَّر الثغور، وقضى على إمارة الرُّها بشمال الشام، ومَلَك غالب أنطاكية، ومهَّد لصلاح الدين ليتولَّى ملك مصر عام 568هـ، صاحب موقعة حطين (583هـ)، ثم اسْتِرداد بيت المقدس وإجلاء النصارى، بعدها تولَّى بنو أيوب من ذُريَّة صلاح الدين حُكْمَ الشام ومصر، فخَلَفَ من بعد الصلاح خَلْفُ فسادٍ، أضاعوا الأمانة، واتَّبعوا الشهوات، فسوف يَلْقون غيًّا؛ لِمَا أطْمَعوا الأعداء فيهم بهوانهم، فعاد الفرنج إلى الشام، وكَثُر الخلاف وافْتَرَقت مصر والشام قطعًا، كلُّ جزءٍ منها مُلْك مَقسوم، عليه رجلٌ يُقال له: سلطان، يَحكم مَرْمى بَصَره، وإنْ زادَ، فُقِعت عيناه من جاره السلطان، فحال المسلمون شيعًا وأحزابًا، فِرَقًا وطوائفَ، دُويلات ومَمالك، ومع ذي الفِتن لَم يتَّعظ أقزام الملوك، وظنُّوا أن حصونَهم تَمنعهم من أمر الله، فأمِنوا أن يأتِيَهم مَكْرُ الله ضحًى وهم يَلعبون، فخَسَف بهم قومٌ لا يرحمون دابَّة تَمشي على أربع أو اثنين، ولو زحَفَت رَفَسُوها، يزعم أنهم بشرٌ، غير أن مُناهم إفناءُ نوع البشر، هبَّت رياح إعصار بُعد المَشرقين بجحافل المغول، لَم يَذكر أهل الأخبار مَن هم أشدُّ منهم في الدَّمار، في بضْع سنين أقام عظيمُهم "جنكيز خان" مُلكًا يأوي ضِعْفَي ما حكَم الإسكندر الأعظم، وأربعًا ما كان لسلطان الروم، ولَم يَشهد أحدٌ أنَّ قومًا حاكَوْهم في الفظائع، وسفك الدماء، وما وَطِئ زبانية المغول بأوَّلهم مساكنَ قوم، إلاَّ حكَى آخِرُ جَحافلهم: أن يُحكى بذي الأرض كان بشرٌ فمَحوا أعراقًا وأجناسًا وقُرًى ومُدنًا، حتى توهَّم أُولي الأخبار أنَّ هؤلاء يأجوج ومأجوج، وحان وقتُ الخروج، ودان آخر الزمان، ودقَّت نهاية الأوان، فأزالوا دويلات الأقزام واحدةً تلو الأخرى، ما بين 617 و624هـ[7]، وتواتَر عن بَطْشهم أهل الخبر، يَمرُّون على الممالك، فتكون خبرًا بعد أثَر، وَيْكأن يَنتزعون قصب السكر، والرُّعب منهم قد أبْكَر، نحو حاضرة الخلافة توجَّهوا، فلا مَفَرَّ، وما وَقَفوا على باب ملك، أو والٍ، إلاَّ فُتحَت لهم الأبواب، وسُلِّمت لهم الرِّقاب، حتى تسارَع القوم يَمدُّون رِقابهم قبل مُلكهم، وعلى السيرة لَحِق الخليفة وذُريَّته، فمَحوا خلافةً كانتْ تَحكم من أقاصيها إلى أدانيها، في أيام معدودات من عام 656هـ، يَسبقهم رُعبهم إلى القلوب الخاوية، من قبل وصول سيوفهم للرِّقاب المُتدلية، ما سَمِع أهل بلدٍ مسلم أنهم نحوهم قادمون، إلاَّ طارَت العقول، وأزِفَت الآزفة، وفَزِعت النائحة.
بعد بغداد كان فراق المغول للعراق، يَقصدون الذين يَلونهم من الأرض، فتحرَّكوا يبغون دمشق الشام، وقاهرة مصر، أمَلُهم أن يَدري عظيمهم مغرب الشمس، ولا يَتركوا على البسيطة نفسًا، غير أنَّ الله سَلَّم؛ وظهَرت دولة المماليك، وساسَ الأمر رجالٌ من بعد الصعاليك، صدُّوا زَحْفَ التتار، ورَحِموا البسيطة من هوْل الدَّمار، وبعين جالوت أُجْلِيَت جحافل المغول، ووَلَّوا مُدبرين، وانحصَرَت فَيَالِقُهم عن الشام.
وقَوِيَت دولة المماليك واشتدَّ نفوذُها، غير أنَّ حُكَّامها حامَت حول شرعيَّتهم تُهَمٌ، كانت مثارَ فِتَنٍ لها، فأُمَراؤها من مماليك الأيوبيين، ترقَّوْا في المراتب العسكرية، ولَمَّا اشتدَّ عودُهم، أزالوا مُلك الأيوبيين غصبًا، وهم في الجملة من رقيق الأتراك الذين اشتراهم الملك الصالح نجم الدين الأيوبي (ت647هـ)، وسمَّاهم البحريَّة.
فقَتَلوا آخِرَ ملوك الأيوبيين الملك توران شاه عام 648هـ، واجتمَع أمْرُهم على الأمير عز الدين أيبك التُّركماني مَلِكًا، وتلقَّب بالملك المُعز، فحكَم إلى أن قُتِل عام 655هـ، ليَخلفه ابنه الملك المنصور نور الدين لسنتين، بعدها تمكَّن من الحُكم سيف الدين قطز، وفي عهده بدَأ زحْف التتار على الشام ومصر، وكان له النصر في موقعة عين جالوت 658هـ، ودحر زحفهم، فتَمَّ بعدها توحيد مصر والشام تحت سلطان المماليك، وفي سنة 658هـ قتَل الأمير بيبرس البندقداري الملك المظفر قطز، وتولَّى الحُكم وتلقَّب بالظاهر بيبرس، وفي عهْده شَهِدت الدولة نموًّا وقوَّة، وجعَلها مَهيبة الأركان، وكان بيبرس قويًّا صلب المِراس، ساعيًا نحو مجد الدولة، وتوحيد حُكم المسلمين، فقطَع دابر التتار والغُزاة الفرنج، والممالك النصرانيَّة في الشام، ثم استقْدَم الأمير أبا القاسم أحمد بن الخليفة الظاهر بأمْر الله عمَّ الخليفة المستعصم؛ ليَكسِبَ شرعيَّة الحُكم، مُجدِّدًا آمال استعادة الخلافة من جديد، فسُمِّي الخليفة، وبايَعه الأُمراء والعلماء والعامة من بعدهم[8]، غير أنَّ الخليفة كان تحت سلطانه لا كلمة له.
ولَم يَعرِف حُكم المماليك الاستقرارَ إلا حينًا من الدهر، فجُلُّ مَن تولَّى الأمر هو له غاصِبٌ؛ بخَلْع الملك، أو خَلْع رأس الملك، فكان الأمن مفقودًا بين أُولي الأمر من أُمراءَ وقادةِ جيشٍ، حتى كَثُرت الدَّسائس، فما إن يُدرَى بالسابق حتى يُخَمَّن مَن هو اللاحق، والملك بين شَرَّين: القتل، أو العَزْل.
وأشدُّ ملوك المماليك بأْسًا وقوَّةً الظاهر بيبرس؛ ثارَ عليه بعض الأُمراء، وسَعوا في النَّيْل منه، غير أنَّه أخْضَعهم بالقوة، وبعد وفاته 676هـ، خلَفه ابنه السعيد بن الظاهر بيبرس، ثم خلَع أُمراء العسكر السعيد بن بيبرس عام 678هـ، فخلَفه سلامش بن بيبرس وعُمره سبع سنين، وخُلِع بعد أربعة أشهر، فخلَفه قلاوون المنصور (689هـ) وكان حَسَن السيرة والحُكم، إلاَّ أنه تعرَّض لمخاطر العَزْل، ثم تَلَت اضطرابات في الحكم[9].
وتكرَّر تهديد التتار لغزو الشام عامي 699هـ، 702 هـ، واحتلُّوا حلب وحماة ودمشق، والقدس وغزة، وبلَغ الرعب من التتار بالمسلمين أن خالَط دماءَهم من حقيرهم إلى أميرهم، وخرَج السلطان الناصر محمد بن المنصور قلاوون، وحال المسلمين لَمَّا تَرَاءَى الجمعان حين: "جاء العدو من ناحيتي عُلوِّ الشام وهو شمال الفرات، وهو قبلي الفرات، فزاغَت الأبصار زيغًا عظيمًا، وبَلَغت القلوب الحناجر لعِظَم البلاء، لا سيَّما لَمَّا استفاضَ الخبر بانصراف العسكر إلى مصر وقرب العدو، وتوجُّهه إلى دمشق، وظنَّ الناس بالله الظنون.
هذا يظنُّ أنَّ أرْضَ الشام ما بَقِيت تُسْكن، ولا بَقِيت تكون تحت مملكة الإسلام، وهذا يظنُّ أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر، فيستولون عليها، فلا يقف قُدَّامهم أحدٌ، فيُحَدِّث نفسه بالفرار إلى اليمن ونحوها، وهكذا قد استولَى عليهم الرعب والفزع، حتى يَمر الظنُّ بفوائده مرَّ السحاب، ليس عقل يتفَّهم، ولا لسان يتكلَّم"[10].
و شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: شُرِّد وأهله من بغداد؛ هروبًا من تغوُّل المغول في العراق، وقد وُلِد فوجَد الأرض تحت سلطان المغول، فلمَّا اشتدَّ الأمر بهم، تحرَّكت أُسرته نحو الشام، وهم قادمون لدمشق مرة ثانية، فكان شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: يرقُب ويتلظَّى بالأَسى؛ لِمَا حالت عليه دولة المسلمين، ويدري أنَّ هذا البلاء إنما هو: عقاب الفُرقة والاختلاف، والتناحر بين الأُمة الواحدة، وحَيْدتها عن المَحَجَّة البيضاء، فأُبِيحَت بَيْضتها، وهو يدري أنْ لا طاقة لأحدٍ أن يَنزع مُلك المسلمين فيُمحى، ولو اجتمَع أهل الأرض عليهم، غير أنَّ الوَهَن دبَّ بهم، وهزيمتُهم لضَعْفهم لا لقوَّة عدوِّهم، فرامَ إحياء السُّنن، وإصلاح أمر دين الأُمَّة، ولَم يكن ممن يَعتزل همومَها، ويتحلَّق عن مآسيها، بل خاضَ في الجهاد والدفاع داخليًّا وخارجيًّا، فنصَح أُولي الأمر، وطالَب بالإصلاح في أمور السياسة الشرعيَّة، وقاتَل الغُزاة، وكان له مع التتار مواقفُ محمودة تدلُّ على شجاعة نادرة، وشكيمة ثابتة[11]، وحرَّض على قتالهم، وخرَج لِمُلاقاتهم مع السلطان الناصر، فدُحِر المغول وانقلبوا صاغرين.
فكانتْ مشاركة شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: صادقة وإيجابيَّة، تُدير دَفَّة الأحداث في عصرٍ تلاطَمَت فيه المِحَن، وعمَّت البلوى على المسلمين، وكانتْ فُرصته التي وجَّه فيها الناس إلى دين الله، ونَهَج بهم إلى سُنة رسول الله [12].
بعدها عُزِل الناصر مرَّتين، وتولَّى الأمر حينها بيبرس، وبعد الناصر خلَف أبناؤه، فكانوا أصاغرَ بين قومهم.
ويُمكن إجمال الحال السياسيَّة لعصر شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: في نقاط:
• انقسام الخلافة إلى دويلات لا حول لها ولا قوة، ثم زوال الخلافة.
• ضَعْف الحُكَّام، وقِلَّة سيطرتهم على شؤون الدولة، وسُوء سياستهم لأمور الرعيَّة.
• كثرة الدَّسائس والمؤامرات الداخليَّة للاستيلاء على الحُكم.
• اضطراب في تدبير الدولة، فبين ليلة وضُحاها ينُصَّب ملكٌ، ويُخْلَع آخر، فتَمَيَّز الحُكم بغَلَبة السيف على الوراثة.
• تناحُر وتنازُع الدويلات فيما بينها، وجَعْل هَمِّها في قتال جاراتها من أخواتها.
• تربُّص النصارى الإفرنج بالشام.
• زحْف التتار على الخلافة، وإسقاط رمز الوحدة السياسية "الخليفة".