اللغة العربية وآدابها من مصادر الحضارة الإسلامية
12-09-2017, 03:19 PM
اللغة العربية وآدابها من مصادر الحضارة الإسلامية
أ. د. عبدالحليم عويس
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:


لم يعد ثمة شك - عند
الموضوعيين والمحللين بعمق -: أن اللغة العربية لغة متفردة من بين لغات العالم؛ فلا تدانيها لغة أخرى في أصالتها ومرونتها وقدرتها وثرائها.

وعندما كنت في مؤتمر إسلامي بمعهد الحضارة الإسلامية بمدينة وهران الجزائرية: أعلن مدير المعهد آنذاك[1]؛ بل قرأ علينا ما أرسله أحد علماء (فقه اللغة ومقارنة اللغات) من الفرنْسيين حول نتائج دراسته لمدة عشر سنوات، والتي أراد فيها أن يعرف: هل كان من الممكن أن يتنـزل القرآن بلغة غير العربية؟ وهل بإمكان لغة أخرى أن تسع كتاب الله المعجز ألفاظاً ومضامين وغايات؟، وقد انتهى من دراسته إلى استحالة ذلك، فأعلن إسلامه.

وثمة دليل آخر (مادي ملموس) لا يقوى على دحضه عاقل؛ فنحن نرى بأعيننا أجناسا غير عربية:(أطفالاً في سن العاشرة، وشباباً وشيوخاً، مبصرين وعميانا) من الهنود والترك والبربر والفرس، قد لا يعرفون إلا بضع كلمات في اللغة العربية، وقد لا تستطيع التفاهم معهم بالعربية، لكنهم يستظهرون القرآن كله؛ ربما أفضل من كثير من العرب!!؟.
ولقد سألت نفسي:
هل لو كان القرآن باللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الصينية أو اليابانية: أكان من الممكن للعربي - بخاصة - ولكل الأجناس بعامة أن تستظهره على هذا النحو؟، إن هذا يكاد يكون مستحيلاً.
وهل يمكن القول مع إيماننا بالطبيعة القرآنية المعجزة، وبالوعد الإلهي المبشر والضامن لهذا التيسير، والمتمثل في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر ﴾، هل يمكن - مع إيماننا بهذا - ألا يكون للغةالعربية خصوصيات كمالية وجمالية ذاتية؛ هيأتها للاختيار الإلهي: لكي تكون لغة هذا الكتاب المعجز في كل آياته (القرآن الكريم)؟.
إن هذا أمر بدهي، فلا يمكن أن يوضع المضمون الشريف الرباني المعجز إلا في وعاء شريف يعلو على كل الأوعية الأخرى.

إنّ اللغة العربية ليست لغة من أرقى لغات العالم فحسْب؛ بل هي أرقاها بيقين، ولا يعوزها إلا أمة تعرف قيمتها وتحسن تقديمها للعالم، وهي تتميز في تركيب حروفها وكلماتها وجملها، وفي كل ما يتعلق بالبناء العام للكلمة، ثم للجملة؛ مع مرونة في التصريف والاشتقاق، وعمق في معرفة خصائص الأصوات عند تأليفها مع بعضها في ثنايا الكلمات؛ كالإدغام والإبدال والإمالة؛ حيث توجد أسس عقلية أو منطقية تقوم عليها من حيث صورها وموقعها في الكلام، وقواعد عامة تربط بين اللفظ والمعنى[2].
أما حروفها فهي، وإن لم تكن أكثر من حروف الأبجديات الأخرى (وربما تكون هذه ميزة ومظهر تحدٍ وقدرة)؛ إلا أنها - مع ذلك - تفي بالمخارج الصوتية، وإعرابها بسيط لا يزيد على أربع حركات واضحة (فتح وكسر وضم وسكون)، كما أن كلماتها سهلة النطق سلسة، تتوزع توزيعاً متساوياً من غير ضغط على حركة دون حركة، ومن ثم يسهل نطقها على المبتدئين، فضلاً عن أنها تخضع لموازين أمكن حصرها في عدد من القواعد، وليس هناك لغة أخرى وصلت إلى ما تحقق في اللغة العربية في ضبط المشتقات بالموازين؛ سواء من حيث المبنى أو المعنى، وبالرغم من أن الكلمة العربية تعني - في أصلها - معنى ماديّاً واقعيّاً، فإنها لا تلبث أن تصبح أيضاً ذات معنى شعري مجازي، ولكن دون أن يقع لبس بين الدلالتين عند الاستعمال. أما جملها، فلا يشترط في تكوينها ترتيب محدد؛ بل يمكن تقديم الاسم أو الفعل حسب الرغبة في تأكيد معنى معين، كما لا يشترط إدخال الفعل أو الاسم في الجملة كما يحدث في لغات أخرى؛ بل يمكن تكوين الجملة دون فعل أو اسم؛ إذا كان المعنى لا يستدعي ذلك.
ونظراً لسلاسة الألفاظ والجمل العربية ظهر في اللغة العربية فن (العروض) كفن كامل أثر في كثير من اللغات الأخرى[3]، على يد الخليل بن أحمدالفراهيدي، ولعله أدق ميزان لموسيقى الشعر في لغات العالم كله.
•••
وقد يزعم بعضهم - اعتماداً على بعض الآراء الشعبية السطحية -: أن اللغة العربية لغة صعبة!!؟، وذلك دون مقارنتها باللغات الفرنسية والصينية واليابانية مثلا؛ ومع رفضنا لهذا الزعم إلا أننا نرى أن لغة عظيمة ذات أعماق إعجازية متصلة بالقرآن الذي وسعته؛ لا يمكن أن تكون كذلك لغة سهلة مبتذلة، فالعربية - كلغة عالمية أُولى يتكلم بها في كل يوم نحو مليار وثلاثمائة مليون من البشر (في صلاتهم على الأقل) - لغة جامعة لليسر والعمق والمرونة والقدرة على التعبير عن كل الخلجات والمشاعر والأخيلة والماديات معاً؛ لكنها تحتاج في دراستها إلى جد ومثابرة حتى يتمكن الذي يتكلم بها - بعد ذلك - من التعبير بها عن كل صور الإبداع والوجدان.
ولو كانت العربية صعبة على النحو الذي يزعمونه: لما انتشرت هذا الانتشار الواسع في فترة وجيزة نسبياً، ولما تأثر بها كثير من الشعوب التي احتكت بالعرب سواء غالبة أم مغلوبة، ولولا ظهور بعض النعرات القومية عند بعض الشعوب: لظلت لها السيادة بين جميع الشعوب الإسلامية، ولو كانت اللغة العربية صعبة - كما يزعم هؤلاء -: لما كتب لها البقاء ولماتت كما مات غيرها من اللغات، ولما كانت أطول اللغات الحالية عمراً[4].

إن العربية لغة دولية علمية دينية دنيوية، يتكلم بها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، ويعبرون بها عن أحاسيسهم وآدابهم، ويتعلمون بها معارف غيرهم، ويدونون بها أفكارهم وعلومهم، وهي أداة سليمة ودقيقة للتعبير العلمي والفني، وقد كان من عبقريتها - يوم كان لها رجال - أنها استوعبت الحضارة الإنسانية والإسلامية، وقام علماؤها بترجمة معارف البشرية إليها؛ من اليونان والهنود وغيرهم، وعنها نقلت الحضارات والثقافات الإنسانية والإسلامية إلى الشعوب الأخرى، ومنها الشعوب الأوربية؛ فترجم ما حوته العربية من علم ومعرفة وثقافة وآداب إلى العالم كله.
هذا... مع ملاحظة أن العرب - ومن تعرب من الأجناس الإسلامية الأخرى - ما تركوا علماً معاشياً تطبيقياً ولا إنسانياً إلا وكانت لهم فيه جهود بارزة.

ويتصل باللغة العربية: الخط العربي الذي أخذ شأنه في الازدياد منذ ظهور الإسلام؛ إذ صار انتشار الخط العربي مصاحباً لانتشار اللغة العربية، بل زاد عليها حين صار يكتب به لغات غير عربية مثل: الفارسية والأردية والتركية.
وقد عني بالخط العربي منذ ظهور الإسلام: عناية موضوعية من حيث التوضيح؛ عن طريق ابتكار علامات الإعراب والإعجام، ومن حيث التجويد، ومن حيث ابتكار النسب الجميلة في كتابة الحروف والكلمات وتنسيق الجمل.
وكان الخط العربي - مثله مثل اللغة العربية - وسيلة التعبير عن الحضارة الإسلامية، وعاملاً مهما في توحيدها الثقافي والحضاري.

وعندما امتدت فتوح العرب والإسلام بين الهند شرقاً والمحيط الأطلسي غرباً، وبين بحر قزوين شمالاً وبلاد النوبة جنوباً، ثم انتشر الإسلام بعد ذلك، فدخل أسبانيا وأجزاء من أوربا وجزر البحر الأبيض المتوسط وآسيا الصغرى وأرمينية وبلاد البلقان، كما انتشر شمال بحر قزوين ودخل الهند وما وراءها وتوغل في إفريقية، سارت العربية - لعدة قرون - مع الإسلام حيثما سار، ولولا أخطاء بعض العرب العنصريين: لا نضوت تحت لواء الإسلام شعوب كثيرة كان لمعظمها ماضٍ حضاري تليد كالفرس والهنود[5] وغيرهم.
وقد عرفت اللغة العربية بأنها اللغة الشاعرة لطبيعتها الموسيقية والفنية، كما عرفت بأنها لغة الشعر والنثر والقصص والأمثال والحكم والخطابة، وكانت الأسواق - كعكاظ - مجال تنافس في كل هذه المجالات الأدبية.
ولعل وصول العرب إلى هذا المستوى الشعري الذي تمثله مرحلة المعلقات السبع، كافٍ في الدلالة على النبوغ العربي في فن الشعر.
ويذكر أحمد أمين: أن أشهر المجموعات التي لدينا مما نسب إلى الجاهليين - عدا دواوين الشعر والمعلقات - هي: المُفضّليات، وديوان الحماسة لأبيتمام، ومثل حماسة البحتري، ومختارات ابن الشجري، وجمهرة أشعار العرب المنسوب لأبي زيد القرشي؛ إلى جانب بعض الأشعار الواردة في الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والشعر والشعراء لابن قتيبة[6]، لكن أحمد أمين دأب على انتهاج نهج صديقه: طه حسين في الشك في نسبة الشعر الجاهلي إلى أصحابه الجاهليين؛ بحجة أنه ظل غير مكتوب نحو قرنين، وظلت تتناقله الرواة شفاهاً، وهي أقوال (شكية) يحسنها كل الناس، لكنها لا تثبت أمام النقد العلمي، وقد فند آراءه كثير من مؤرخي الأدب الثقات؛ حين فندوا منهج طه حسين الاستشراقي الديكارتي، وأتوا عليه من قواعده.
ومع ذلك، فإن أحمد أمين انتهى إلى أن ما سلم من شعر ومَثَلٍ صحيحين يدلنا على الحياة العقلية العربية، ويدلنا على ثراء معجم اللغة العربية قبيل الإسلام، ويدلنا في النهاية على أصالة هذه اللغة.

ولعل المستشرق الأستاذ (نولدكه): كان أصدق وأقوم سبيلاً من صاحبنا أحمد أمين- مع أنه حاول الاستعانة به - وذلك في قول نولدكه:
" إنا ليتملكنا الإعجاب بغنى معجم اللغة العربية القديم، إذا ذكرنا مقدار بساطة الحياة العربية وشؤونها، وتوحد مناظر بلادهم، واطرادها اطراداً يدعو إلى السآمة والملل، وهذا يستتبع - حتماً - ضيق دائرة التفكير، ولكنهم في داخل الدائرة الضيقة وضعوا لكل تغير - وإن قل - كلمة تدل عليه، ويجب أن نقر بأن معاجم اللغة العربية قد تضخمت كثيرا بكلمات استعملها الشعراء وصفاً لأشياء؛ فذكرها اللغويون على أنها أسماء لتلك الأشياء.
ولكن رغماً عن هذا كله يجب أن نعترف بأن معجم اللغة العربية غني غنىً رائعاً، وسيبقى دائماً مرجعاً هاماً لتوضيح ما غمض من التعبيرات في جميع اللغات السامية الأخرى.
وليست اللغة العربية غنية بكلماتها فحسب، بل بقواعد نحوها وصرفها أيضاً، فجموع التكسير - وأحيانا أسماء الأفعال - كثيرة زائدة عن الحاجة".

ولا يؤخذ على اللغة العربية أنها كانت تدور في فلك البيئة المحيطة بها، شعراً أو نثراً؛ فذلك شيء طبيعي، بدليل أنها عندما خرج بها الإسلام إلى العالم الخارجي، وانفتحت على حضارتي الروم وفارس وغيرهما، وترجمت العلوم المختلفة، وعَرَّب عبد الملك بن مروان الدواوين؛ نجحت في كل ذلك نجاحاً باهراً، وأصبحت لغة عالمية يشكو رجال الكنيسة في الأندلس من أنها لغة الثقافة والعلم والحضارة التي يفتتن بها المثقفون النصارى واليهود والتي قضت على اللغة اللاتينية.

ومع هذه العالمية التي حققتها اللغة العربية - كركن أساسي من أركان الحضارة الإسلامية - ومع ما حققته علومها وفنونها من مستوى رفيع، ومن انتشار كبير إلا أن هذا لا يعني أنها كانت منغلقة فلم تتفاعل مع اللغات والآداب الأخرى، لاسيما اللغات الإسلامية كالفارسية والأوردية والتركية، والتي دخل أبناؤها في الإسلام، وتعربوا فأصبحوا عرباً بمقياس الإسلام؛ إذ العروبة القرآنية هي: عروبة الفكر واللسان والعقل والوجدان، وأصبحت أعداد هؤلاء المتعربين، في مجالات الإبداع، أكثر من أعداد العرب؛ ومع أن طبيعة الإسلام والحضارة الإسلامية ألاَّ يرغم أحد على ترك دينه أو لغته، فقد اختاروا هم (العربية) لاعتبارات تتصل بالإسلام من جانب، وباللغة العربية ذات الغزارة والقوة والسهولة في الوصول إلى التعبيرات الدقيقة من جانب آخر.
•••
وقد اضطر أحمد أمين - لهذا - إلى الاعتراف في نهاية حديثه إلى أن العرب - وإن انخذلوا حسب رأيه - في النظم السياسية والاجتماعية، فقد انتصروا في شيئين عظيمين: اللغة والدين؛ فأما لغتهم فقد سادت هذه الممالك جميعاً وانهزمت أمامها اللغات الأصلية للبلاد، وصارت هي لغة السياسة ولغة العلم، وظل هذا الانتصار حليف العرب في أكثر هذه الممالك إلى اليوم، وكذلك الدين؛ فقد ساد هذه الأقطار واعتنقوه، وقلَّ من بقي من سكان هذه البلاد على تدينه الأصلي[7].
وهذا الانتصار - في رأينا - خير دليل على أصالة هذه اللغة وقوتها، وعلى أنها تستحق أن تكون لغةالقرآن، وأن تسير معه في دنيا الناس حيث سار.

هوامش:
[1] هو الأستاذ الدكتور بكري عبد الكريم، وهو الآن مدير التدريب في مسجد باريس الكبير الذي تشرف عليه الحكومة الجزائرية، وهو شخصية أكاديمية معروفة في الجزائر، وكان المؤتمر في سنة 1995 تقريباً.
[2] أحمد عبد الباقي: معالم الحضارة الإسلامية في القرن الثالث الهجري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1/ 1991م ، ص305.
[3] حسن الباشا: دراسات في الحضارة الإسلامية، ص10، نشر النهضة العربية 1988.
[4] المرجع السابق ص11.
[5] المرجع السابق ص11- 12.
[6] أحمد أمين: فجر الإسلام، ص58، دار الكتاب اللبناني ط 11، 1979م.
[7] المرجع السابق، ص96.