الإعتلاج* و الموت الحراري للكون
21-10-2018, 01:22 PM
من أهم المواضيع التي يتناولها علم التحريك الحراري أو الترموديناميك (Thermodynamic) بالبحث؛ موضوع الإعتلاج الحراري أو الإنتروبي (Entropy)، بسبب التطبيقات الهامة لهذا المفهوم سواء في تصميم الآلات الحرارية أي تلك الآلات التي تحول الطاقة إلى عمل كوسائل النقل و المكيفات و مصادر الطاقة الحرارية، أو في تقنيات قياس المعلومات و تطبيقاتها كالأقراص المرنة أو الهواتف المحمولة أو الملفات المضغوطة ... لا تقتصر تطبيقات ظاهرة الإعتلاج على التطبيقات العملية اليومية المذكورة بل تمتد لتغطي و تفسر ظواهر و نتائج انتقال الحرارة في الكون و مآل الكون نتيجة هذه الحركة الحرارية.
ينص المبدأ الأول للترموديناميك على مصونية الطاقة، بمعنى أن طاقة الكون بمجمله أو طاقة أي جملة معزولة عزلا تاما تبقى ثابتة، صحيح أن هذه الطاقة يمكن أن تنتقل بين مكون و آخر من أجزاء المنظومة، (بين الشمس و الأرض مثلا) أو أن تتحول من شكل إلى آخر كأن تنعكس طاقة الجاذبية في الحركة الدورانية للكواكب حول النجوم، أما مجموع كمية أشكال الطاقة جميعها في الكون فيبقى ثابتا، لكن القانون الأول لا يفسر لنا لماذا لا تمكن الاستفادة من تحول الطاقة لإنجاز بعض الأعمال المستحيلة عمليا، مثلا لماذا لا يمكن أن يتحول الماء ذو درجة الحرارة المتجانسة في كأس من تلقاء نفسه إلى مكعبات من الجليد البارد مخلفا بعض الماء الساخن وراءه أي أن يمتص الماء بعض الحرارة من بعضه الآخر في الكأس بدون تدخل خارجي، لينقلب إلى مكعبات من الثلج، مخلفا وراءه ماءً ساخنا، مع أن هذه العملية ممكنة بالحساب النظري. هنا يأتي دور المبدأ الثاني للترموديناميك ليفسر لنا كيف تجري الأحداث في العالم الواقعي، من خلال بعض المبادئ العامة:
1. إن انتقال الحرارة يكون دائما من الأجسام الساخنة إلى الأجسام الباردة، أي أن الحرارة لا تنتقل بين الأجسام ذات درجة الحرارة المتساوية كما في مثال الكأس السابق.
2. لا يمكن للحرارة أن تنتقل من الأجسام الباردة إلى الأجسام الساخنة.
3. لا يمكننا تصميم آلة تعمل بكفاءة تامة أي = 100%. مثلا لا يمكن تصميم سيارة تحول كامل طاقة الوقود إلى حركة ميكانيكية، و لابد أن يترافق ذلك بفقدان بعض الحرارة إلى الوسط الخارجي.
4. يعرّف المبدأ الثاني الإنتروبي بأنه التغيُّر التلقائي الذي يَحدث في المنظومة المغلقة، ومن المعروف أن التغيُّرات التلقائية تتَّجِه بشكل عام نحو إحداث توازن في الاختلافات الكامنة بين أجزاء المنظومة، بحيث يتم تقليل الفوارق لأقل قدر ممكن؛ ليصل النظام إلى حالة من التوازُن و التجانس في صفاته.
لخّص العالم رودولف كلاسيوس ((Rudolf Clausius جميع هذه الأفكار بالقول أن الحرارة تنتقل في المنظومة المغلقة دائما في اتجاه انحدار درجة الحرارة و أن تغيرها في كل لحظة خلال هذا الانتقال يساوي حاصل قسمة كميتها على درجة الحرارة المطلقة للوسط المحيط، فإذا رمزنا لكمية الحرارة ب Q و لدرجة الحرارة المطلقة ب T فإن حاصل القسمة (Q/T) هو الإنتروبي أو الإعتلاج و نرمز له ب S . (درجة الحرارة المطلقة=درجة الحرارة المئوية+273.15).
تتغير الإنتروبي في اتجاه واحد نحو المستقبل على محور الزمن (Arrow of time) ، نقول عن مثل هذا الإجراء أنه (لا عكوس- Irreversible). بإمكانك مثلا أن تسلق بيضة، لكن لا يمكنك أن تعيد البيضة المسلوقة إلى ما كانت عليه قبل ذلك.
يتصاحب تغير الإنتروبي بزيادة في عشوائية أجزاء المنظومة التي يغشاها بسبب زيادة حركة هذه الأجزاء مع انتقال الحرارة، فازدياد الإنتروبي يعني ازدياد الفوضى، و بكلمات أخرى، فإن الطبيعة تميل إلى العشوائية و الفوضى لو تركناها تعمل بدون تدخل خارجي، مثلا: لو حدث زلزال و تناثرت حروف إحدى المطابع على الأرض فلن تتجمع بعض هذه الحروف لتشكل ديوانا أو حتى بيتا من الشعر بكل تأكيد.
يتعلق مدى العشوائية التي سيسلكها النظام مع تغير الإنتروبي بالخيارات الحرة المتاحة له، فعدد الأرقام العشوائية التي تنتج عن رمي حجرين من النرد أقل بكثير من تلك التي تنتج عن رمي خمسة أحجار.
في الشكل التوضيحي التالي نجد أن الإنتروبي تسعى بالجزيئات المتجمعة بانتظام إلى اليسار نحو العشوائية إلى اليمين مع مرور الزمن:


ازدياد العشوائية بمرور الزمن

لقد أشار القرآن الكريم بإيجاز معجز إلى العشوائية أو التنكيس في الخلق المصاحب لمرور الزمن بقوله تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)-يس
يعتقد البعض أن الكون بمجمله منظومة واحدة مغلقة على نفسها، فإذا صح ذلك فإن (إنتروبي) الكون ستسعى للوصول به إلى حالة من التوازن الحراري من خلال انتقال الحرارة من أجزائه الساخنة (النجوم مثلا)، إلى أجزائه الباردة (كالكواكب) حتى تتساوى درجة حرارة جميع مكونات الكون و هي الحالة التي تسميها بعض المراجع العلمية ب (الموت الحراري للكون-Heat death of the universe). إنه طريق ذو اتجاه واحد، لامناص للكون من أن يسلكه إذا كان منظومة مغلقة على نفسها حقا، و هذا ما يخالف الواقع الملموس، إذ لا نجد أن الكون يقترب من حالة التوازن الحراري، بل تمر النجوم (الأجسام الحارة) بدورة حياة تبدأ بولادتها من تكاثف سحائب الدخان الكوني، ثم تمر بمرحلة شبابها الإشعاعي، و تعود لتخبو وتندثر من خلال تكورها على نفسها و تحولها إلى أقزام باردة تسبح في ظلمة الكون السرمدية، أو تنهي حياتها في ما يسمى بانفجار السعير (Supernova)، أو تهوي في أحد الثقوب السوداء المنتشرة في الكون، خاصة في مراكز المجرات. هذه الدورة تتكرر كل يوم و على مدار الساعة، و كأن هناك قوة خفية تعيد ما تحاول القوى العشوائية أن تصل إليه كل مرة. الأمر نفسه يتكرر بما يخص الموت و الحياة، ففي كل يوم و على مدار الساعة، ينكس كائن في الخلق و يختفي من مسرح الأحداث اليومية المعاشة بالوفاة، ليظهر بالولادة كائن حي من جديد و لتستمر الحياة في الأرض كما في السماء.
ما يثير الدهشة فعلا هو أن تهوي النجوم من عالمنا الطبيعي في الثقوب السوداء و تختفي، فلو اختفت مجموعة من النجوم كل يوم في الثقوب السوداء التي تملأ الكون لفني الكون قبل عمره المعروف بدهور طويلة؛ مجرتنا مثلا تحوي مئة مليار نجم، وعمرها حوالي عشر مليارات سنة أرضية، فلو افترضنا أن نجماً واحداً من نجوم مجرتنا يختفي كل يوم وبمعدل ثابت ومستمر، لوجب ألا تُعمِّر المجرة أكثر من (270) مليون سنة أرضية، أما الأهم من هذا وذاك، فهو ملاحظتنا استقرار النجوم في أفلاكها، الأمر الذي يلغي أي احتمال بتناقص كتلة الكون، ويلغي كل نتيجة أخرى تتعلق بذلك، فكيف يحافظ الكون على كتلته و يعاكس الإنتروبي فلا يقترب من حالة الموت الحراري؟؟ لتوضيح ذلك نورد المثال التالي: نتصور معملا فيه مئة عامل، لا يزيدون ولا ينقصون، مع أن بعضهم يستقيل من العمل، أو يغادره لأسباب صحية، لتفسير ذلك لابد من افتراض أن العمال المتسربين يعوَّضون فوراً بمن يحل محلهم، ، وهكذا الأمر بالنسبة لمجرتنا وللكون كله، إذ يبدو أن المادة المتسربة منه، و الحرارة التي تسعي إلى موازنة نفسها بين أجزائه بفعل الإنتروبي تعوض فوراً بطريقة لا نعرفها بعد.
لقد حاول الإجابة على هذا اللغز الكوني الباحث (روبرت هجلمنغ) في رسالة وجهها من فرجينيا إلى مجلة علم الطبيعية ( Nature Physical Science)، جاء فيها: "إن جميع قوانين الطبيعة تقضي بأن يترافق اختفاء المادة في مكان ما من الكون الطبيعي، بظهورها آنياً في مكان آخر، أي أن الكتلة التي تختفي من خلال ثقب أسود، تعود لتظهر آنياً من خلال ثقب أبيض مناظر له في مكان ما من الكون". كما أن استمرار دورة حياة النجوم بين ولادة و فناء بالنشاط نفسه خلال مليارات السنين لا بد أن يترافق بعمل أو طاقة أو قدرة تعاكس عمل الإنتروبي!
إن إجابة (هجلمنغ) تقدم حلا منطقيا للغز اختفاء المادة في الثقوب السوداء، وتنسجم مع المبدأ العام في الزوجية أو التناظر الذي تقوم عليه مظاهر الطبيعة. لكي تقوم المادة بهذه الرحلة الآنية من الثقب الأسود إلى الأبيض، لابد من أن تمر بكون أو أكوان أخرى غير عالمنا الطبيعي المعروف، فعالمنا الطبيعي وفقا لذلك يرتبط بما وراءه بمداخل هي الثقوب السوداء، وبمخارج هي الثقوب البيضاء.
يقول (هجلمنغ) : "لا يمكن تطبيق مبدأ حفظ المادة على عالمنا الطبيعي، طالما أنه مفتوح على عوالم أخرى، أما إذا وضعنا الكون وما وراءه بعين الاعتبار، فيمكن للمبدأ أن ينطبق تماماً".
الحقيقة أن إجابة (هجلمنغ)، و إن كانت تقربنا خطوة إلى الأمام في اتجاه فهم لغز المادة المختفية و القوة الخفية التي تلغي عمل الإنتروبي، فإنها إجابة تدور حول نفسها، إنها كمن يجيب على كيفية نشوء الحياة على الأرض بقوله أنها جاءت من كواكب أخرى! حسن، و كيف نشأت الحياة على هذه الكواكب الأخرى؟؟ يعني أنه؛ حتى لو كان كوننا هذا متصلا بكون أو أكوان أخرى، فإننا إذا اعتبرنا هذه الأكوان جملة واحدة فإنها ستصل في المحصلة إلى مرحلة من التوازن الحراري، أو إلى (الموت الحراري) الذي تحدثنا عنه!
لا بد إذا من قوة تقف وراء الطبيعة، و تقوم بعملية الخلق و الإبداع المستمر، دون أن تغفل عن ذلك طرفة عين مصداقا لقوله تعالى:
"اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ" (255)-البقرة
وقوله:
۞ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" (41)-فاطر**
------------
*الإعتلاج: التلاطم و الاضطراب، يقال اعتلج الهمُّ في صدره أي اضطرب، و إعتلاج موج البحر هو اضطرابه و تلاطمه و الصوت الذي يصدرعن ذلك ... يقال: "اعتلج بصدره الضِّيقُ- همٌّ مُعتلِجٌ- اعتلجتِ الأمواجُ".
**الفاطِر : اسم من أسماء الله الحسنى ، ومعناه : الخالق المُوجد المُبدع على غير مثال سابق.