كلامٌ في الوهابية
09-11-2017, 03:07 PM

محمد بوالروايح


قرأت عشرات الكتب والمقالات التي يتحدث أصحابها عن "الوهابية"، بعين الرضى عند من يحالفونها وبعين السخط عند من يخالفونها، ووجدت أن المؤيدين يرون في الوهابية الدعوة السنية الإصلاحية المباركة التي لم يُخلق مثلها في البلاد ولا يصلح غيرُها لإصلاح البلاد والعباد، ووجدت أن المخالفين يرون فيها الدعوة المغالية، المنفرة والمكفرة، والتي كانت سببا في انتشار ظاهرة التكفير في المجتمعات الإسلامية.
وصل الأمر عند بعض خصوم الوهابية في العصر الحديث إلى اتهامها بتسويق التخلف والفكر المتطرف، بل إن أحد الباحثين ذهب إلى أبعد من ذلك بقوله إن الوهابية أخطر من الشيعة، وكان آخر ما قرأته ما كتبه المفكر والباحث الأصولي أحمد الريسوني نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين تحت عنوان: "الإسلام السعودي: انتقال من الازدهار إلى مرحلة متسارعة من الأفول والاندحار"، ووجدت في كلامه ما يُؤخذ وما يُردّ، ومما يُردّ على وجه الخصوص حديثه عن "الإسلام السعودي" بسبب ما سماه عملية التطويع التي مارسها من سماهم "آل سعود" للوهابية والسلفية والذي أنتج حسب رأيه نموذج الإسلام السعودي.
وسآتي على ذكر ما قاله ونقده، ولكن أريد قبل ذلك أن أسوق ما كتبه العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس عن الوهابية والوهابيين، وذلك بغرض الوقوف على حقيقة العمل الإصلاحي في الجزائر في تلك الفترة، وما إذا كان هناك تأثرٌ بالدعوة الإصلاحية التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟ وخاصة أن آثار ابن باديس تشير إلى الصلة البيِّنة بين دعوة محمد بن عبد الوهاب ودعوة عبد الحميد بن باديس بكون هاتين الدعوتين تخرجان من مشكاة واحدة، وهي مشكاة الكتاب والسنة، وبكون مكوث عبد الحميد بن باديس لفترة في الحجاز قد جعله يقتنع بدعوة محمد بن عبد الوهاب ويبادر بعد عودته إلى الجزائر بمباشرة العمل الإصلاحي استئناسا بأصول هذه الدعوة، وحرصا خارج هذه الأصول على تميز الحركة الإصلاحية في الجزائر بمراعاة خصوصية المجتمع الجزائري، ومما يوحي أيضا بالصلة المتينة بين دعوة محمد بن عبد الوهاب ودعوة عبد الحميد بن باديس بعضُ البحوث العلمية لمفكرين ضالعين من الفكر الإصلاحي، ومن ذلك ما كتبه عبد الحليم عويس: "أثر دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في الفكر الإسلامي الإصلاحي بالجزائر"، وكذلك ما كتبه تركي رابح: "الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ محمد بن عبد الوهاب في طريق الإصلاح والسلفية"، وما كتبه محمد حاج عيسى: "أصول الدعوة السلفية من كلام ابن عبد الوهاب وابن باديس".
وأبدأ بما كتبه الشيخ بن باديس في سلسلة مقالاته عن محمد بن عبد الوهاب والوهابية والتي جاءت تحت عنوان: "من هم الوهابيون؟ ما هي حكومتهم؟ ما هي غايتهم السياسية؟ ما هو مذهبهم؟ يقول بن باديس في إحدى هذه المقالات التي جُمعت وطُبعت تحت عنوان "آثار العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس" التي اعتنى بجمعها وتحقيقها ونشرها أستاذنا عمار طالبي أطال الله عمره: ".. وصار من يريد معرفتهم لا يجد لها موردا إلا كتب خصومهم الذين ما كتب أكثرهم إلا تحت تأثير السياسة التركية التي كانت تخشى من نجاح الوهابيين نهضة العرب كافة، وأقلهم من كتب عن حُسن قصد من غير استقلال في الفهم ولا تثبُّت في النقل فلم تسلم كتابته في الغالب من الخطأ والتحريف، وأنَّى تُعرف الحقائق من مثل هذه الكتب أو تلك؟ أم كيف تؤخذ حقيقة قوم من كتب خصومهم، ولا إذا كانوا مثل الصنفين المذكورين؟".
ليس هناك إبانة عن حقيقة الوهابية أكبر مما أبانه الشيخ بن باديس الذي قال بأن من كتبوا عن الوهابية رجعوا في ذلك إلى مصادر خصومها ولا يخفى ما وراء هذا من تلبيس وتشويه تولى كبرَه دعاةُ الفتنة ورواد السياسة، الذين ناصبوا الوهابيين العداء خدمة للإدارة التركية وخشية هذه الأخيرة من أن يمتد أثر الحركة الإصلاحية الوهابية إلى الأمصار الأخرى فيشكل ذلك خطرا حقيقيا على وجود ونفوذ الحكومة التركية.
ويقول ابن باديس أيضا: ".. قام محمد بن عبد الوهاب بدعوة دينية، فتبعه عليها قوم فلقبوا بـ"الوهابيين". لم يدعُ إلى مذهب مستقلّ في الفقه، فإن أتباع النجديين كانوا قبله ولا زالوا إلى الآن بعده حنبليين، يدرسون الفقه في كتب الحنابلة، ولم يدعُ إلى مذهب مستقل في العقائد، فإن أتباعه كانوا قبله ولا زالوا إلى الآن سُنيين سلفيين، أهل إثبات وتنزيه، يؤمنون بالقدر ويثبتون الكسب والاختيار، ويصدِّقون بالرؤية، ويثبِّتون الشفاعة، ويرضون عن جميع السلف، ولا يكفِّرون بالكبيرة، ويثبِّتون الكرامة".
ما قاله الشيخ بن باديس يغنيني عن الرجوع إلى كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب لمعرفة مسلكه في التوحيد ومنهجه في الفقه وطريقته في الاعتقاد، فقد جمع فأمتع وأبدع فأقنع، وعلى ضوء ما قاله أتوجه إلى إخواننا الذين يحملون على الوهابية لا يفترون ويتهجمون عليها لا يتوقفون، فأقول لهم إن الوهابية الحقيقية مسلكٌ إصلاحي إسلامي ليس فيه ما يخالف أصول الإسلام وأحكام الشريعة الإسلامية، فلا يضر محمد بن عبد الوهاب ولا يزر وزرَ من جاء من بعده فشوَّه دعوته أو نقض أقواله أو ناقض أفعاله أو أضاف إلى حركته ما ليس منها أو افترى عليها ما ليس من مبادئها.
وهنا أرد على الشيخ أحمد الريسوني في سياق حديثه عما سماه "الإسلام السعودي" وهي بدعة دينية واصطلاحية لم يقل بها أحدٌ من علماء الدين وعلماء الاصطلاح، إذ الرأي الجامع في ذلك أن الإسلام دين الله ولا يحق أن يُنسب إلى فلان أو علان مهما كان القصد من الاستعمال والتأويل، يقول الريسوني حول "الإسلام السعودي": "البعض يسمونه وهابية، وهو وهابي الأصل فعلا، لكن وهابية الإسلام السعودي معتلة ومكيَّفة، والبعض يسمونه سلفية، وهو سلفية مشوهة ومطوعة، والبعض يعتبرونه حنبليا، ولكن حنبليته نجدية جامدة، والبعض يصفون أصحابه بالظاهرية الجدد، وهو كذلك، ولكن ظاهريتهم محرفة ومسعودة، والبعض ينسبونهم إلى ابن تيمية، ولكن ابن تيمية عند العارفين به هو أكبر متضرر ومتظلم منهم".
لا شك أن في كلام أحمد الريسوني مسحة فكرية وتوجها سياسيا واضحا، وأن اجتماع التوجه الفكري والسياسي عنده جعله يحكم على السلفية والوهابية من خلال نمط الحكم، وكان ينبغي عليه أن يتورَّع عن جدال فكري لا يخلو من سجال سياسي؛ لأن الجدال الفكري بهذه الطريقة يؤدي عن قصد أو عن غير قصد إلى تحييز الدين وتشخيصه كما فعل هو في استخدامه مصطلح "الإسلام السعودي"، وكما بفعل غيرُه في استخدام مصطلح "الإسلام الإيراني" و"والإسلام الأفغاني" وهلم جرا.
وبرغم أنني أقرُّ بحق الريسوني وغيره في النقد، إلا أنني أعتب عليه بُعده عن الموضوعية، لأن ما قاله عن الوهابيين الجدد والحنابلة الجدد والظاهرية الجدد ينطبق أيضا على الأشعرية الجدد والمعتزلة الجدد والمالكية الجدد، ولذلك فإن المبدأ التوافقي الذي نتفق عليه جميعا هو الإقرار بأن كل انتساب إلى دعوة إسلامية سواء كانت الوهابية أو السلفية أو غيرها لا يكون وفق ضوابط الإسلام وتوجيهات السنة فهو ردٌّ، وبخاصة إذا اتخذ وسيلة للخروج على الأمة أو إفساد العلاقة بين الحاكم والمحكوم أو إفساد الرابطة الإسلامية أو تبرير جرائم في حق الأديان أو الأوطان أو في حق الإنسانية بصفة عامة باستخدام خاطئ ومفرط لعقيدة الولاء والبراء.