نسمــــــــة صيـــــــــــف
25-05-2018, 11:56 PM
نسمــــــــة صيف

زمجرت الحافلة بكل ما أوتيت من طاقة إيذانا بالرحيل نحو جغرافيا مختلفة نوعا ما...
أوشكت أن تئن تحت وطأة هذا الحشد من الطلاب و العمال و الصعاليك و المتسكعين.
الجميع سعيد هنا لأنه أتيح له أن يلوذ بشبر في أحشاء هذه المركبة التي تتوشح برد هذا الصباح راغمة .
ظفرت بمقعد بعد لأي و أسلمت جسدي لراحة لن تطول كثيرا.
لقد مال أحد التلاميذ على أذني هامسا - تفضل يا أستاذ بالجلوس هنا – تبرع لي ذلك الفتى بمقعده . و جلست و أنا أسوق مفردات الشكر و الثناء إلى ذلك التلميذ اللبق...
انطلقت المركبة العجوز تطوي طرقات المدينة في نهم بالغ كما يصنع المسكين الجائع حينما يتاح له شيء من طعام بعد طول انتظار.
كان الصباح قد بدأ يدب في أوصال هذه المدينة الخاملة أبدا...
شيء من النشاط و الحياة تسلل إلى أرصفتها الخاوية و أسواقها النائمة و ساحاتها التي بدأت للتو تفلت من قبضة الصقيع الذي رحل مع فلول الليل...
استعادت المدينة بعض نشاطها و رونقها المفقود وأرسلت بصري عبر زجاج النافذة. استوقفتني حشود الشجر عن اليمين و عن الشمال.
لقد اغتالت براثن الخريف جل أوراقها و أحالتها إلى هياكل شاحبة كاسفة و تركتها نهبا للرياح و الغربان تصنع بها ما تشاء...
تسللت أناملي المتخشبة من لسع البرد إلى محفظتي. أمسكت بمذكرة دروسي...يروق لي أحيانا هنا في هذا الفضاء المزدحم أن أستطلع الدرس الذي سألقيه إلى الطلاب بعد حين.
لست أدري إن كانت هواية أو هروبا من الواقع أو قتلا للوقت كما يقولون أو كل هذه الاحاسيس مجتمعة.
الحافلة المتراخية كانت تتوقف في محطاتها المحددة مثل نملة تجيد معرفة مسارها المضبوط.
و في كل محطة تلفظ من جوفها رهطا من البشر و تبتلع في الوقت نفسه لفيفا من الركاب. يزيدون أحيانا أو يقلون حسب كل محطة.
كان ذلك دأب الحافلة .لم أكن أحفل لذلك السيناريو الذي يعيد نفسه مثل المسلسلات الميكسيكية. كنت مستغرقا في أسطر مذكرتي و صورها و رسوماتها و معادلاتها و قواعدها و نظرياتها...
لكن الضجر كان يستبد بي و بالركاب إذا أبطأ السائق في إحدى المحطات و سرعان ما تنتفض الحناجر المرهقة . شيبا و شبابا و حتى النسوة لهن نصيبهن من التذمر و الاحتجاج.
" هيا ليس أمامنا متسع من الوقت"...." أتريد أن تبيت هنا أيها السائق ؟"..."سيطردني مدير المصنع هذا الصباح "..."كان يجدر بك أن ترسل كومة الحديد هذه إلى مزابل البلدة" .
و ما يلبث السائق المحاصر من كل مكان أن يستميت في الدفاع عن نفسه و عن مركبته الهرمة و شرر الغضب يتطاير من عينيه الغائرتين... و قد يتملكه الغضب فيخرج عن طوره و يرسل السباب و الشتائم جزافا...
هنا يتدخل شيخ وقور. انه العم سليمان حداد الحي فيعيد التوازن و الانضباط إلى الجميع مخاطبا السائق:
-لا ترهق أعصابك يا صديقي و إلا أفلت منك مقود الحافلة -

طبعا لم تكن هذه الثورة الصباحية لتخمد إلا حينما تنطلق تلك الحافلة في المسير مجددا.
طويت مذكرتي و دفتري و أغلقت محفظتي و مسحت زجاج نظاراتي برفق. فهي نافذتي الوحيدة على هذا الكون الفسيح و اللذيذ معا ...
لا تزال أمامي بضع دقائق للوصول إلى المدرسة ...رحت أتفحص أوجه الركاب المجهدة و المتعبة بسبب ضغوطات الحياة و أحمالها. وتوقفت الحافلة فجأة.
فتح الباب برفق وصعدت إحداهن أدراج المركبة – اوووووووووووووووه - هتفت ذاهلا و أنا أتفرس في ملامح تلك المرأة بل الغادة بل الحورية التي أفلتت للتو من طباق السماوات...
انتفضت مخيلتي من غبار النسيان فجأة ...وقلبت بصري في هذا الربيع الماثل أمامي في جسد امرأة.
فتشت في أرشيف ذاكرتي المترهلة و فحصت في أسماء كثيرة مثل حبا ت القمح...
هتفت شفتاي المرتعشتين دون وعي :
– أميرة... بلا أدنى شك هي أميرة. تلميذتي في قسم العلوم -...
كان ذلك منذ عقد من الزمن أو يزيد.
قطعت علي أميرة رحلة الشك فجأة و هتفت من هناك في ابتسامة آسرة توشك الأقمار أن تختفي أمام بريقها :
– تحياتي أستاذ عزيز-
تضرجت وجنة تلك الأنثى بلون وردي يأسر القلوب. و غضت الطرف إلى الأسفل . أومأت إليها في خجل و بصري الظمآن لما يرتوي بعد من الهيام المتدفق من مقلتيها النجلاوين.
لقد أضحت أميرة امرأة مكتملة الأنوثة. نضج الجمال في وجهها الملائكي كما تنضج الثمار في مواسم القطاف...
كانت هناك تسترق النظرات نحوي . كنت أجد لذة طاغية حين تتقاطع نظراتنا المضطربة. أسرتني شفتاها الباذختان و كأن ريشة فنان عاشق رسمتهما...
أميرة كانت زهرة القسم و شمعته و ريحانته. تذكرت على الفور يوم أن أقبلت أميرة تشكو إلي باكية صنيع أحد التلاميذ الأشقياء يدعى "سالم"...
قالت – أنظر يا أستاذ ماذا أرسل إلي ذلك الفتى المشاغب - قمت على الفور بفض الرسالة و تطلعت إلى أسطرها...
كان الخط مرتبكا لقصيدة من الغزل العفيف من أروع ما قرأت. لقد كان الفتى هائما في محبتها...
حينها عذرت سالما بيني و بين نفسي و قلت – يحق لك أن تؤلف في تلك الفتاة الحسناء أروع القصائد - لكنني تصنعت الحزم و زجرت الفتى بقسوة...
في هذه اللحظة المفعمة بالدفء و السكينة و الذكريات الحالمة كنت أختلس نظرات خاطفة إلى صاحبتي. افترسني جمالها الطاغي فجأة...وشعرت أن أنثاي الشاردة هناك تبادلني نفس النظرات و الإعجاب و الاهتمام.
في الحين تملكني إحساس أن علي الظفر بهذه المرأة قبل أن تمتد إليها يد أحدهم و ينتشلها من طريقي إلى الأبد .
في مخيلتي التي انتعشت للتو رحت أرسم الخطوات المقبلة..و أخطط لمستقبل وردي يجمعني بأميرة.
شعرت أن مراهقا هائما في الحب ولد في داخلي. واستسلمت على الفور أمام الغزو المتلاحق لابتسامات أميرة و نظراتها الساحرة.
لقد قضت المرأة على كل مقاومة في جعبتي. أسنانها اللؤلئية كانت مثل منارات تنعش أحلامي القاحلة ...
من إحدى المحطات قفز شاب إلى الحافلة . لقد جاء إلى سمائي الوردية بلا موعد سابق...هشت أميرة للقاء الفتى و تلاقت يداهما في شوق لا يخفى على أحد...شعرت أن القلب قد غادر أسواره و قفز من بين أضلعي.
دس الفتى قارورة عطر ثمينة بين يدي أميرة. و تمتم في سمعها بكلام طويل و عريض أجج من عذاباتي.
اجتاحتني عاصفة من الغيظ نحو هذا المتطفل النزق الذي يأبى إلا أن ينافسني أنثاي ...
عزمت أن أحمي عريني و أذود عن حماي و أكافح إلى آخر رمق من العشق... لكن الوقت قد تأخر على ما يبدو.
تأبطت الفتاة ذراع الفتى و هما سعيدان أتم السعادة . ثم نزلا من الحافلة في رشاقة كأنهما زوج من الحمام...
ورائي في المقعد الخلفي كنت أستمع في يأس إلى إحدى النسوة و هي تحادث رفيقتها في المقعد . وخرقت طبلة أذني بهذه الكلمات القاتلة:
– زفافهما في الأسبوع القادم . و أنا مدعوة للحفلة -
التعديل الأخير تم بواسطة أبو المجد مصطفى ; 20-06-2018 الساعة 06:45 PM